|
|
من عبودية الإقطاع إلى عبودية الرأسمالية
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 16:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
294 - أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 42 - تحويل العبيد إلى بروليتاريا
«بافيل تشيتشيكوڤ»، الشخصية الرئيسية في رواية جوجول "النفوس الميتة"، الذي فقد ثروته وأصبح فقيرا، أراد أن يجد وسيلة لإسترجاع ثروتهالضائعة، فأعد خطة ماكرة، بأن يشتري من النبلاء ملاك الإقطاعات أرواح العبيد الذين كانوا يملكونهم وماتوا من فترة قريبة ولكن لم يتم تسجيل وفاتهم في السجلات الحكومية، وبذلك فهم لا يزالون قانونيا على قيد الحياة. حيث كان على الملاك الروس الذين يمتلكون أراض، وضياعًا، وأقنانًا، أن يدفعوا ضرائب على تلك الممتلكات للحكومة الروسية، لكن بسبب بطء النظام الحكومي والبيروقراطية البطيئة، لم يكن الأقنان الذين يموتون يسجلون إلا في تعداد رسمي، قد يمر وقت طويل حتى يأتي ميعاد التعداد، ويلتزم الملاك بدفع الضرائب على الأنفس التي فارقت الحياة منذ وقت طويل. كانت هذه تمثل مشكلة كبيرة للملاك؛ لأن في هذا الوقت من القرن التاسع عشر كان الأقنان يموتون بالجملة، سواء بسبب الأمراض والأوبئة التي تحصد عشرات الأرواح، أو بسبب سوء التغذية والمجاعات وسوء المعاملة. فعندما يتصل تشيتشيكوڤ بالملاك، كانوا يستقبلون عرضه بالفرح والإمتنان لانهم كانوا يدفعون ضرائب للدولة عن عبيد غير موجودين. وبعد ذلك يقوم تشيتشيكوڤ برهن هذه الأرواح، التي تشكل ثروته الوهمية إلى البنوك ويستقرض مبالغ كبيرة من المال ليتمكن من العيش كرجل ثري محترم في إقليم بعيد لا أحد يعرفه هناك. هذه الرواية "الملحمة" والمعروفة بإسم "النفوس الميتة" التي تصور روسيا الإقطاعية بنظامها المتسم بالعبودية والقنانة وبنظامها الإداري البيروقراطي الثقيل والفاسد الذي كان سائدا في تلك الأيام، يعطي صورة فاجعة للنظام الروسي ذلك الوقت على جميع المستويات، سواء الإجتماعية أو السياسية أو الإقتصادية. فلم يكن الأقنان فلاحين فحسب، أي أقنانًا تابعين لمالك الأرض ولهم أراضيهم الخاصة، بل كانوا أيضًا تجارًا وحرفيين وبائعين متجولين وخدمًا في القرى الصغيرة. كما جُنِّدوا في الجيش، حيث شكّلوا العمود الفقري للمشاة الروسية. واستُخدم آخرون كعمال في المصانع. وكان جميعهم خاضعين لسلطة أرستقراطي (بارين)، والذي تُقاس ثروته بعدد "النفوس" التي يمتلكها، كما صورها نيقولاي غوغول في روايته المذكورة "النفوس الميتة". ومع ذلك، كان هناك أيضًا أقنان تابعون للدولة، يخضعون مباشرة للقيصر، على أراضٍ مُستقاة إما من مصادرة ممتلكات النبلاء المشاغبين والمتمردين أو من توسع المستعمرات العسكرية في سيبيريا. لذا، مثّل الأقنان في روسيا فئةً متباينة إلى حدٍ ما. إن أسوأ الظروف هي تلك التي يعيش فيها أقنان الأرض السوداء الجنوبية، الذين أجبروا على زراعة ممتلكات ملاك الأراضي من خلال العمل القسري لفترة أطول بكثير من المدة القانونية والذين لا يملكون حتى أراضيهم الخاصة. كان استمرار العبودية في روسيا يعني استمرار وجود كتلة ضخمة من الأميين المستعبدين والمستغلين في الريف، حيث كان للأغنياء ملاك الأرض حق الحياة والموت على الفلاحين، ولهم الحق في نفيهم إلى صحراء سيبيريا الثلجية أو بيعهم في السوق، رجالا وأطفالا ونساء، فرادى ومنفصلين عن عائلاتهم، والنبلاء والدولة وحدهم لهم حق إمتلاك "النفوس" والتي لم تكن لهم حقوق مدنية أو إنسانية أو وطنية من أي نوع. وهناك بعض النبلاء الذين وصلت ثروتهم إلى ما يزيد عن 120 ألف نفس. وفي منتصف القرن التاسع عشر، وصل الأمر أن بعض النبلاء الذين كانوا يدركون التردي الذي لحق بالمجتمع الروسي، أن طالبوا بالإصلاح وإعادة النظر في نظام العبودية والقنانة، وذلك ليس لأسباب إنسانية وإنما لإعتبارات سياسية وإقتصادية. كان هناك تيار من الرأي العام يتطور، بما في ذلك بين قطاع من النبلاء، لصالح إلغاء نظام العبودية، وقد بدأه بعض المثقفين وألهمه بعض الكتاب مثل تورجينييف، مع مثال النجاح الهائل الذي حققته مجموعة قصصه "مذكرات صياد" (1852)، والتي تضمنت إدانة مؤثرة لمحنة الأقنان (نفدت الطبعة الأولى في غضون ستة أشهر). وقد دفع هذا التيار ألكسندر الثاني أو "القيصر المحرر" كما يسميه بعض الليبراليين، عند توليه العرش (1855)، والذي خاب أمله بالهزيمة المهينة التي مُنيت بها روسيا في حرب القرم، قرر أن يضع حدا للسياسات الرجعية لسلفه نيكولاس الأول. ألكسندر الثاني، القيصر الجديد، الشاب، واسع الاطلاع على شؤون الغرب، مدفوعًا برغبة في اكتساب مكانة دولية في الخارج ورغبة في الشعبية في الداخل، كان يميل إلى إنهاء العبودية لأسباب عديدة، منها الخوف من ثورة عامة حيث أن انتفاضة الديسمبريين عام 1825 والتي ما يزال أثرها وصداها يتردد في ردهات القصر، التي قمعها سلفه بشدة، والتي دعت إلى إلغاء العبودية، من بين أمور أخرى. والسبب الآخر هو الرغبة في تحديث روسيا وجعلها تلحق بالغرب، معتقدًا أن ذلك سيعزز الدولة ويثبت حكم عائلته عقودا أخرى. والسبب الآخر أيضا هو تأثير النداءات العاجلة والمتكررة من العديد من النخبة المثقفة من البرجوازية والنبلاء للإصلاح والعدالة الإجتماعية، مثل مقالات الكاتب الاشتراكي هيرزن، الذي أرسل إليه من لندن رسالة يحثه فيها على محو "وصمة العبودية" التي بدت كوصمة عار على جبين روسيا. غير أن السبب الرئيسي هو أن تقدم الرأسمالية الصناعية كان يتطلب تغيير طابع العبودية القديم الذي كان صالحا للنظام الإقطاعي المرتبط بالأرض والزراعة إلى عبودية جديدة، عبودية العامل ليصبح خادما لصاحب المصنع مما يتطلب فك وثاقه وتحريره من سلطة صاحب الأرض، ليتفرغ لخدمة الرأسمالي صاحب المصنع مقابل أجر زهيد يكفي فقط لبقاء حيا لمواصلة العمل، كما يفعل المزارع مع حميره وخيوله.. غير أنه لم يكن من الممكن تحرير الأقنان دون منحهم أرضًا، لذلك قرر القيصر القيام بالإصلاح على عدة مراحل، عام 1858 بدأ المرحلة الأولى حيث رغب ألكسندر الثاني في إعطاء المثل للنبلاء، فمنح أقنان التاج وعبيد الدولة ملكية الأراضي التي يزرعونها، لكن هذا الإجراء لم يُتبع. وأضطر في 3 مارس 1861 فرض الإصلاح العام لإلغاء الرق حيث "يحصل جميع الأقنان الفلاحون والحرفيون والخدم على حريتهم الشخصية بعد عامين، ويُمنح الفلاحون قطعًا من الأرض لزراعتها" غير أن مساحة هذه الأرض تعتمد على نوعيتها، قطع أصغر كلما زادت خصوبة التربة. وهي في العموم قطع صغيرة جدًا (1 إلى 2 هكتار في الأراضي الخصبة، 4 هكتارات في الأراضي الغير خصبة) وهي أصغر حتى من تلك التي يزرعونها عندما كانوا أقنانا. بالإضافة إلى أنهم كان عليهم التفاوض مع ملاك الأراضي على شراء هذه القطع التي كانوا يزرعونها سابقا. في نهاية الأمر قانون إلغاء العبودية لم يحرر الفلاحين إطلاقا من سلطة النبلاء، ولم يرجع لهم الأرض التي كانوا يزرعونها منذ سنوات عديدة، حيث كان عليهم أن يدفعوا مبالغ باهضة لتعويض النبلاء، الأمر الذي كان من "سابع المستحيلات" لأغلب الفلاحين مما جعل أكثر من 21 مليونا من الفلاحين يسقطون في حالة من الفقر المدقع أسوأ مما كان عليه الأمر عندما كانوا عبيدا. يمكن القول أن قانون إلغاء العبودية أثار استياء جميع المعنيين من النبلاء والفلاحين. فقد أثار نقمة النبلاء لأنهم حُرموا من قوة عاملة مجانية مستعبدة، رغم أنهم عُوِّضوا بسندات حكومية، التي سرعان ما انخفضت قيمتها، علاوة على ذلك، كانوا غالبًا ما ينفقونها في كازينوهات في ألمانيا أو على شواطيء المدن البرجوازية الفرنسية والإيطالية والسويسرية بدلًا من شراء المعدات الزراعية وتطوير الزراعة، مما أدى ألى تصدع تحالفهم مع القيصرية، وتحرك بعضهم ضد الاستبداد. أما الفلاحون فقد شعروا بالغضب والإحباط لاضطرارهم لدفع ثمن الأراضي التي كانوا يزرعونها بالفعل، والتي كانت تتقلص مساحتها. ومن هنا جاءت خيبة أملهم، وأحيانًا ثوراتهم (ما يقارب من 200 انتفاضة بين عامي 1861 و1863). فضل بعضهم، لعدم قدرتهم على شراء الأراضي لزراعتها، القبول بالعمل لدى سيدهم السابق. أما الذين لم يجدوا عملا في المزارع فقد هاجروا إلى المدن بحثًا عن عمل في الصناعة، مما أدى إلى تضخم الطبقة الناشئة من البروليتاريين، عبيد الرأسمالية الناشئة . لم تتمكن سوى أقلية هامشية من الفلاحين من تطوير حياتهم الإقتصادية، أولئك الذين أصبحوا "كولاك" واستغلوا الآخرين كعمال زراعيين، والذين كانوا يعاملونهم أحيانًا معاملة أكثر سوءا من معاملة النبلاء.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
روسيا بلاد النبلاء والعبيد
-
مرايا الزمن
-
بلاد الثلج والقياصرة والفودكا
-
معرض -تكوين- التشكيلي
-
أفول العقل المطلق
-
فويرباخ والإستلاب
-
نهاية هيجل
-
الصيرورة في الكينونة والعدم
-
هيجل وعلم المنطق
-
السلب والإيجاب عند هيجل
-
هيجل
-
الجسد معبد اللغة
-
تفتت الأنا
-
ميلاد الموتى
-
دهاليز الروح
-
سبينوزا ونهاية المغامرة
-
سبينوزا وفكرة السلب
-
حرية الحجر
-
الجسد المثقوب
-
الرصاصة والثقب
المزيد.....
-
دريسكول: الجيش الأمريكي مستعد لتحرك عسكري بشأن فنزويلا -إذا
...
-
هويته الحقيقية لم تمنع احتجازه.. شاهد عملاء فيدراليين يعتقلو
...
-
مصر تستضيف مبادرة الاتحاد الأفريقي لإعادة الإعمار بعد النزاع
...
-
قطعان الأغنام تعبر مدن ألمانية نحو مراعي الشتاء
-
حكومة نتنياهو تقرر تشكيل لجنة غير رسمية للتحقيق بأحداث 7 أكت
...
-
أعطوا سوريا فرصة.. الكونغرس الأميركي يراجع عقوبات قانون قيصر
...
-
نتائج 30 سنة من البحث العلمي: العلاقات الناجحة تبدأ من الطفو
...
-
خطاب حرب أم ضغط تفاوضي؟.. نتنياهو وزامير يرفعان نبرة التهديد
...
-
إعلان جبل العرب.. محاولة لكسر الاحتكار السياسي في السويداء
-
حماس تحذر من -وصاية بديلة- وتطالب بقرار أممي لحماية وقف إطلا
...
المزيد.....
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|