|
الصيرورة في الكينونة والعدم
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 12:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
288 - أركيولوجيا العدم العدمية الثورية 36 - تماثل الكينونة والعدم
« Il n y a nulle part dans le ciel et sur la terre quelque chose qui ne renferme en soi à la fois l être et le néant ». Hegel, Science de la Logique.
والكينونة، تشكل القسم الأول لمنطق هيجل، والتي تعبر عن الوعي الحسي المباشر لمعرفة العالم وإدراك الظواهر ويقسمها بدورها من حيث الكيف إلى ثلاثة حقول كبرى وهي الكينونة الخالصة والكينونة المتعينة والكينونة لذاتها. بالنسبة لهيجل هناك تمييزًا مهما بين الكينونة الخالصة Sein وبين الكائن Seiendes، أو بين الكينونة بما هي كذلك والكينونة المتعينة. وقد بدأ اليونانيون تاريخ الفلسفة الغربية بهذا التمييز نفسه، الذي تم التوصُّل إليه في معرض بحوث الميتافيزيقا إجابة عن السؤال: ما هي الكينونة؟ وهو السؤال الذي كان مدارَ البحثِ في الفلسفة اليونانية منذ بارمنيدس إلى أرسطو؛ فكل كائن حولنا هو كائن متعين ومحدد؛ حجر أو شجرة، أداة، أو بيت، حيوان، نبات أو جماد أو حادث، أو ما إلى ذلك … ولكنا نحمل على كل كائن كهذا أنه "يكون" هذا أو ذاك بالتحديد، ذلك الإنسان يمشي هناك على الرصيف، أو تلك الشجرة بجانب السور أو هذا الكرسي الذي أجلس عليه .. أي إننا نحمل عليه الكينونة، والرابطة «يكون» في كل قضية تعبِّر عن وحدة الموضوع والمحمول؛ أي عن الكينونة. وهذا الوجود أو الكينونة بالأصح ليست أي شيءٍ جزئي أو خاص في العالم، بل تشترك فيها كل الموجودات الجزئية التي يمكِن أن يُنسب إليها. وهذا يدُل على ضرورة أن يكون هناك كينونة خالصة بما هي كذلك، تختلف عن كل كائن متحدد، وإن كان مع ذلك قابلًا لأن يُنسب إلى كل كائن أيًّا كان؛ بحيث يمكِن أن يُسَمَّى «الواحد» الحقيقي وسط كل تنوُّع الموجودات المحددة … فالكينونة بما هي كينونة هو ما تشترك فيه جميع الكائنات الجزئية، وهي أشبه ما يكون بالأساس الذي ترتكز عليه جميعًا. ومن هذه النقطة، كان من السهل نسبيًّا النظر إلى هذه الكينونة العامة والأعم من كل ما عداها على أنها «ماهية كل كائن»، و«الجوهر الإلهي»، و«الحقيقة المطلقة»، وبالتالي الجمع بين الأنطولوجيا واللاهوت … غير أن هيجل في تحليله لفكرة الكينونة يذهب بعيدا لتجريدها من أية شبهة أو ظل من المادية أو الواقعية. حيث يؤكد منذ البداية بأن "الكينونة" هي أفقر المقولات قاطبة بل لا تستحق إطلاقا حتى أن تكون مقولة من المقولات. فالكينونة هي أقصى ما يمكن أن يوصل إليه التجريد من كل طابع ومن كل تعيين وتحديد مهما كان نوعه. الكينونة مساوية لنفسها، ليس لها كثرة أو تعدد أو أي صفة من الصفات، فراغ وخواء مطلق وكامل. وينتهي إلى القول بأن الكينونة في واقع الأمر هي والـ"عدم" شيء واحد ولا فرق بينهما من أي نوع. الكينونة كفراغ مطلق وخواء كامل مرادفة للعدم الذي هو بدوره يخلو من كل تعين وتحديد، مطابق لذاته وخواء لا نهائي. ويتضح أن الكينونة والعدم هما شيء واحد في حالة ما أردنا أن نجعل الكينونة محمولة في قضية منطقية على سبيل المثال. فلو قلنا مثلا "الحقيقة هي الكينونة"، فإن هذا القول لا معنى له ولا يعدو أن يكون مجرد "توتولوجيا Tautologie" أو تحصيل حاصل، إذ يكفي القول بأن الحقيقة كائنة أو الحقيقة تكون .. وفي هذه الحالة الكينونة لم تعد محمولة وإنما مجرد رابطة لا تحدد الحقيقة ولا تعينها أو تصفها بأي شيء، وإنما تترك معرفتنا بها فارغة أو معلقة. ولو قلنا بطريقة أخرى، "الحقيقة هي .."، وهنا يظهر السؤال الطبيعي والمنطقي "ما هي؟". وفي هذه الحالة أيضا لا تقدم لنا الكينونة كمحمول في أية جملة أية إجابة على هذا السؤال حول ماهية الحقيقة. فبدلا من أن نكون أمام قضية في صورة "س هي ص"، نجد أنفسنا أمام قضية مبتورة في صورة "س هي .." ويبقى مكان المحمول فارغا يرادف، بطريقة ما، الصفر الرياضي. وهذا الصفر هو ما تمثله الكينونة تماما كما العدم. ولو كان ثمة فارق بينهما، لوجب أن تتصف الكينونة بأي تعين مهما كان نوعه لا يتصف به العدم لإمكانية التفرقة بينهما، ولكن الكينونة كما سبق القول تخلو من كل تعين وهي تجريد مطلق، وبالتالي يستحيل التفرقة بينهما. فكرة الكينونة هي ذاتها فكرة العدم، تتحول إحداهما إلى الأخرى. وما نسميه في الميتافيزيقا بالوجود والعدم، هو ما يسمى في المنطق بالإيجاب والسلب وبالتالي فكل شيء يتمتع بالوجود والعدم ، بالإيجاب والسلب في نفس الوقت، أو كما يقول سارتر بخصوص الموجود لذاته أو الإنسان، هو ما ليس هو، وليس هو ما هو. فحقيقة الكينونة إذا هي "الصيرورة - Devenir" أي الإيجاب الذي يتحول إلى سلب، الكينونة التي تحمل السلب في أعماقها. الصيرورة هي الكينونة المتعينة، أي التي أصيبت بالسلب في جوفها لتتعين. فالقول "هذه شجرة" يعني أنها ليست بيتا أو قطارا أو حصانا، أي أن الكينونة العامة والمطلقة تعينت وأصبحت "شجرة" بدلا من أن تظل تجريدا فارغا وذلك عن طريق سلبها من كل الإمكانيات الأخرى المحتملة. ومن الصعب على المنطق العادي والمتعارف عليه أن يتخيل هذا التحول وهذه الصيرورة في الإتجاهين، ذلك أنه يمكن بسهولة فهم عملية تحول الكينونة إلى عدم، ذلك أنه في الطبيعة هناك العديد من الأمثلة عن الأشياء أو الظواهر التي تتساقط في العدم في كل لحظة، غير أنه من الصعب، بل من المستحيل أن نجد شيئا ما مهما كان ضئيلا يخرج ويولد من لاشيْ. القوانين الفيزيائية والكيميائية ترفض هذه الظاهرة، ظاهرة تحول العدم إلى كينونة. فأوراق الأشِجار الخضراء والتي تفقد خضرتها تدريجيا مع قدوم الخريف وتصفر ثم تتساقط وتموت، فإنها لا تعود إلى الحياة والإخضرار مرة ثانية في الربيع المقبل، إنها أوراق جديدة تحل محل الأوراق الميتة. غير أن هيجل يوضح هذه النقطة بإعتبار أن التحول الذي يتحدث عنه ليس تحولا حقيقيا، وإنما تحول وإنتقال صوري ومنطقي ويتعلق بالكينونة المطلقة وليس بالكينونات المتعينة. فبما أنه أثبت نظريا بأن العدم والكينونة هما شيء واحد، أي توصل إلى المعادلة س = ص، فبالضرورة يمكن القول بأن ص = س، بالإضافة إلى أن هذه الصيرورة والتحول لا تحدث في الزمان وإنما خارج حدود الزمان والمكان. كما فكرة الكمية أو اللون أو العدد، يمكن تصورها تجريديا دون الحاجة إلى المادة المتعلقة بها. الإنتقال من الكينونة إلى العدم نتصوره عادة كنوع من الموت، وبالتالي يمكن تصنيف الإنتقال من العدم إلى الكينونة كنوع من التكوين أو النشوء أو الميلاد، فالصيرورة تتطلب ألا يبقى العدم عدما، بل لابد له من أن يصير شيئا آخر، أن يتحول إلى ما ليس هو. وهنا ضرورة الإستعانة بمقولة الهوية، كجزء من الماهية لفهم هذه الصيرورة. والهوية كالكينونة الخالصة، تشير مباشرة إلى "الإختلاف" والتمايز والذي يقابل فكرة السلب، لأن الشيء هو الشيء بفضل مغايرته لشيء آخر. الهوية لا تنفصل عن الإختلاف، والتغاير أوالتمايز لا معنى له بدون التماثل مع ذاته أو الهوية، فكل منهما نسبي يفترض ويستدعي الآخر ويشتمل عليه كماهيته. هناك إذا وحدة عينية تتضمن الكينونة والعدم معا، وهي وحدة عينية لأنها في أعماقها تحتفظ بالتمايز بينهما. وهي ليست وحدة مجردة كالتصور الذي يشمل العام غير المحدد والذي يشترك فيه عموم مكونات أو موضوعات الفئة الواحدة، مثل "إنسان" أو "نبات"، فالصيرورة تشتمل الإختلاف كما تحتوي الهوية: "فهما في آن واحد يعبران عن هوية مطلقة وتمايز مطلق والصيرورة تشملهما معا. وكلمة "الإنتقال" ليست سوى إسم آخر للهوية، لكن لو لم يكن بينهما فرق وتمايز لما كان هناك تحول أو صيرورة. فإذا قلنا أن "س" تتحول أو تصير، فهذا يعني أنها لا تصير "س"، لأنه لن يوجد في هذه الحالة صيرورة أو تغير، بل لابد أن تصير شيئا آخر، لابد أن تصبح"ص". يقول هيجل في علم المنطق بخصوص الصيرورة كوحدة الكينونة والعدم: "الكينونة المحضة والعدم المحض هما نفس الشيء. ما هو الحقيقة، ليس الكينونة وليس العدم ، ولكن واقع أن الكينونة - ليس أنها تمر أو تتحول - بل تحولت في العدم، والعدم تحول في الكينونة. ومع ذلك، الحقيقة هي أيضا ليس حالة تماثلهما وعدم تمايزهما، ولكن حقيقة أنهما مختلفان تماما، ومع ذلك كل منهما يتلاشى فوريا في ضده. حقيقتهما إذا هي حركة التلاشي الفورية هذه الواحد منهما في الآخر؛ وهي الصيرورة."
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هيجل وعلم المنطق
-
السلب والإيجاب عند هيجل
-
هيجل
-
الجسد معبد اللغة
-
تفتت الأنا
-
ميلاد الموتى
-
دهاليز الروح
-
سبينوزا ونهاية المغامرة
-
سبينوزا وفكرة السلب
-
حرية الحجر
-
الجسد المثقوب
-
الرصاصة والثقب
-
المعطف المثقوب
-
اليهودي الملعون
-
فيخته بين العقل والأخلاق
-
إما الثورة وإما العبودية ..
-
فلسفة القفزة القاتلة
-
الله والذكاء الإصطناعي
-
رسالة جاكوبي ضد العدمية
-
المثالية الألمانية
المزيد.....
-
تزامنا مع جلسة الحكومة اللبنانية حول نزع سلاح حزب الله... هل
...
-
بعد فشل المفاوضات في غزة، مصر بين -كامب ديفيد- ومخطط التهجير
...
-
البرازيل تضع الرئيس السابق بولسونارو قيد الإقامة الجبرية
-
ثمانية أطعمة تسبب الغازات، بعضها قد يفاجئك!
-
إسرائيل -ستسمح بدخول البضائع تدريجياً- إلى غزة
-
خلافات على السطح.. هل تصبح خطة احتلال غزة المسمارَ الجديد في
...
-
إدارة ترامب تربط تمويل الكوارث للولايات والمدن بموقفها من مق
...
-
موسكو تحتج على تشكيك ألماني في سيادتها على جزر كوريل الجنوبي
...
-
رئيس -النواب- الأميركي يزور مستوطنة بالضفة الغربية وفلسطين ت
...
-
الصين تتذكر التاريخ جيداً وستدافع عن الإنصاف والعدالة
المزيد.....
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|