أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - عاصمة القياصرة















المزيد.....

عاصمة القياصرة


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 16:45
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


297 - أركيولوجيا العدم
العدمية الثورية
45 - سانت بطرسبورغ عاصمة القياصرة

الأنظمة السلطوية والدكتاتورية لا يمكنها أن تمارس وجودها ورعبها وتستقر وتتطور إلا في مجتمع يخيم عليه الجهل والدين والخرافات وعقلية الاستكانة والقبول. وطوال قرون طويلة بقي المجتمع الروسي يعاني من الجهل المطبق ويرسخ تحت طبقة كثيفة من ظلمات غياب المعرفة على جميع المستويات. وسياسة التعتيم والتجهيل هذه كانت إرادة عامة لجميع القياصرة بدون إستثناء، حتى الذين ينعتون عادة بالـ "المتنورين" المتأثرين بالعقل الليبرالي الأوروبي، مارسوا أيضا هذه السياسة الإجرامية، لتجويع الشعب لابد من تجهيله أيضا.
تحقق في القرن التاسع عشر العديد من الاختراعات والاكتشافات العلمية المهمة التي غيرت العالم جذريًا، مثل اكتشاف الكهرباء واستخدامها في الإضاءة والراديو والدوائر الكهربائية، تطوير الآلات البخارية واستخدامها في الصناعات والنقل وتطوير آلات الحركة الميكانيكية وصناعة السيارات والطائرات، اكتشاف علم الجينات والوراثة، اكتشاف قوانين الحركة والجاذبية لنيوتن، تطوير علوم الأحياء والكيمياء والفيزياء والرياضيات والإحصاء وغيرها، اختراع التصوير الفوتوغرافي، والتلغراف والهاتف، اكتشاف البخار وتحويله إلى طاقة، وتطوير صناعة الحديد والصلب، ولكن أيضا ترجمة النصوص والكتب القديمة إلى اللغات الحديثة وتطوير الصحافة والنشر والتربية والتعليم. في منتصف هذا القرن، حيث كانت الجامعات الأوروبية تشهد زخما ونشاطا فكريا لا نظير له في تاريخها الطويل، وكان الطلبة والفلاسفة وأصحاب الفكر يضعون أسس المستقبل الفكري والعلمي للإنسانية، في نفس هذا الوقت صدر أمر قيصري رسمي يقول: " الشباب الذين ولدوا في الطبقات السفلى من المجتمع، لايحتاجون التعليم العالي والمتوسط لأنه غير مفيد ويبعدهم عن محيطهم الطبيعي ولا يجلب أي فائدة للدولة." أما نيكولا الثاني، آخر القياصرة قبل سقوط النظام في بداية القرن العشرين، فإنه يقول بكل ذكاء، هذا الذكاء الذي يتميز به العقل السلطوي: "الحريات والحقوق السياسية بضائع أجنبية على الروح الروسية، وهي إنتاجات خطرة." وكان يبشر بأن التعليم يجب أن يقتصر على تعلم القراءة والكتابة والحساب فقط، أما ماعدا ذلك، فهي أمور تتميز بالخطورة بالإضافة إلى عدم فائدتها. أما كاثرين الثانية، والتي يمجدها المثقفون الليبراليون بإعتبارها مثالا للسلطة المتفتحة على العالم وعلى الثقافة الفرنسية، صديقة وحامية فولتير، قالت في حديث مع حاكم موسكو: "في اليوم الذي يرغب فيه فلاحونا في التعليم، لا أنت ولا أنا سنبقى في مناصبنا."
فقد كان يجب انتظار القرن التاسع عشر لتتكون في الحكومة الروسية وزارة للتعليم. وفي سنة 1825 لم يكن هناك أكثر من 1200 طالب في الجامعات الروسية الأربعة، وليس أكثر من 7700 طالب في المرحلة الثانوية. أما الريف والقرى والمناطق البعيدة عن العاصمة، فكانت تفتقر حتى المدارس الإبتدائية التي كانت معدومة تماما. بالإضافة إلى هذا الغياب أو النقص الفاحش في أجهزة ووسائل التعليم، فإن غالبية الشعب الروسي لم يكن له الحق أساسا في التعليم العالي. وكان يجب إنتظار النصف الثاني من القرن التاسع عشر، 1857، حتى يتمكن الشباب الأغنياء والذين لا ينتمون لطبقة النبلاء من الإلتحاق بالجامعة ومواصلة تعليمهم العالي. وفي بداية القرن العشرين، 75٪ من الشعب الروسي كان أميا ولا يعرف لا القراءة ولا الكتابة، غير أن هذا لم يمنعه من أن يقود ثورة شعبية أسقطت القيصر وجيشه وبوليسه وكل الطبقة التي كانت تسانده في إمتصاص عرق الفقراء ودمائهم. ويبدو كأن الأمر لم يتغير منذ مئة عام، حيث حاول بطرس العظيم القيام بإصلاحات في مجال التعليم، كما ذكرنا سابقا بدون نتيجة تذكر. كان هدف بطرس الأكبر آنذاك جعل روسيا دولة أوروبية سياسيا وثقافيا وإجتماعيا، ولذلك تولى مهمة إرسال الطلبة إلى الجامعات الأوروبية للدراسة وللاحتكاك والتشبع بالثقافة والعادات الأوروبية. لقد كان مولعا بأوروبا، التي زار العديد من عواصمها، ويريد إخراج روسيا من "الهمجية الآسيوية" على حد قوله، ولذلك قرر أن يبني عاصمة جديدة، مدينة أوروبية، فقام بتشييد سان بطرسبرغ، شمالي موسكو على الحدود الفنلندية سنة 1703 والتي سقط أثناء بنائها أكثر من 150 ألف عامل موتا في المستنقعات التي شيدت عليها المدينة التي سيكون لها تاريخ حافل يرتبط بالحركات العدمية الثورية طوال القرن التاسع عشر..
قبل أن يبدأ في بناء مدينتة الأوروبية التي يحلم بها، قام بطرس الكبير ببناء قلعة ضخمة محصنة على جزيرة صغيرة تحيط بها مياه نهر النيفا. القلعة في حقيقة الأمر تشبه مدينة صغيرة هحصنة بشوارعها ومحلاتها التجارية، تتوسطها كاتدرائية ضخمة فريدة من نوعها من الناحية الهندسية، تحتوي الآن رفات كل عائلة رومانوف التي حكمت روسيا خلال قرون عديدة. الجزيرة الصغيرة كانت تسمى ذلك الوقت Kani-saari أو جزيرة الأرانب بالفنلندية. وبنى أيضا قصرا سكنه هو وعائلته. وقد أطلق إسم القديسين بيير وبول، او بطرس وبولس بالعربية، على هذه القلعة متيمنا بمؤسسي الكنيسة المسيحية. وطوال الفترة التي تم فيها بناء المدينة، التي سميت سان بطرسبيرغ، كانت هذه القلعة بمثابة قلب روسيا النابض، حيث كانت البواخر لا تكف جيئة وذهابا على نهر النيفا، وكان القيصر يدخر كل أمواله وثروته ومجوهراته الثمينة وأغلب أسلحته داخل هذه القلعة.
تأسست مدينة سانت بطرسبرغ في 27 مايو 1703 بقرار من القيصر بطرس الأكبر، ساعيًا إلى إنشاء "نافذة على أوروبا" تُجسّد رؤيته لروسيا الحديثة. كان موقعها، على ضفاف نهر نيفا المستنقعية قرب خليج فنلندا، استراتيجيًا، إذ أتاح لها الوصول إلى بحر البلطيق وتوثيق علاقاتها بأوروبا الغربية. كان بناء المدينة مشروعًا ضخمًا، تطلّب آلاف العمال والمهندسين والمعماريين، استُقدم العديد منهم من الخارج. أصبحت قلعة بطرس وبولس، أول بناء شُيّد، النواة التي نمت حولها المدينة. بحلول عام 1712، حلت سانت بطرسبرغ محل موسكو كعاصمة للإمبراطورية الروسية. وسرعان ما تطورت لتصبح مركزًا سياسيًا وثقافيًا بارزًا. ترك مهندسون معماريون أوروبيون، بصماتهم في تصميم القصور والكنائس والمباني الإدارية على الطرازين الباروكي والنيوكلاسيكي، وقد منح هذا الإرث المعماري سانت بطرسبرغ أناقتها وعظمتها المميزة، وأصبحت المدينة مسرحًا للاستعراضات الإمبراطورية، بشوارعها الواسعة مثل شارع نيفسكي بروسبكت وساحاتها الضخمة التي تُبرز قوة روسيا الصاعدة. خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ازدهرت سانت بطرسبرغ كمركز فكري وفني وسياسي للإمبراطورية. كانت موطنًا لأعظم كُتّاب وشعراء وموسيقيي روسيا، من ألكسندر بوشكين ونيكولاي غوغول إلى فيودور دوستويفسكي وبيوتر تشايكوفسكي وتورجينييف، وكانت موطنا لباكونين وكروبوتكين وهرزن ونيتشاييف وغيرهم من الثوريين العدميين. وفي الوقت نفسه، شهدت فترات من الثورات السياسية، مثل ثورة الديسمبريين عام 1825 والثورات اللاحقة التي اشتعلت طوال القرن التاسع عشر. عكس اسم المدينة ذاته كل التحولات السياسية، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، غير إسم المدينة إلى بتروغراد لإزالة اسم "بطرسبورغ" الجرماني. بعد الثورة البلشفية عام 1917، عادت العاصمة إلى موسكو، مع أن بتروغراد ظلت مركزًا حيويًا. في عام 1924، وبعد وفاة لينين، تغير تسمية المدينة إلى لينينغراد، رمزًا للعصر السوفيتي الجديد. شهد تاريخها أحد أحلك فصول الحرب العالمية الثانية، حين خضعت لينينغراد لحصار القوات النازية الذي دام 900 يوم من عام 1941 إلى عام 1944. ورغم القصف المدمر والمجاعة والمعاناة التي لا تُوصف، لم تستسلم المدينة قط. لقي أكثر من مليون شخص حتفهم، إلا أن صمود سكانها أصبح رمزًا للصمود والتضحية. ولذلك، مُنحت لينينغراد لقب "مدينة البطل". في عام 1991 وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، استعادت المدينة اسمها الأصلي، سانت بطرسبرغ. واليوم، تُعدّ ثاني أكبر مدينة في روسيا، وموقعًا للتراث العالمي لليونسكو، وتشتهر بتناغمها المعماري وإنجازاتها الثقافية وعمقها التاريخي. غير أنه بغض النظر عن كل هذه المعالم والخصائص الحضارية التي تتمتع بها هذه المدينة، فإن ما يهمنا هنا هو جانبها الثوري، وما يهمنا في قلعة بيير وبول هو سجنها المعروف والذي مر به عشرات الأسماء التي ساهمت في تغيير مصير روسيا وأوروبا. هذا السجن المقسم إلى أقسام تختلف درجة الرعب فيها حسب خطورة "السجين" على النظام، ظل رمزا للدكتاتورية المطلقة منذ تأسيسه حتى نهاية النظام التعسفي في بداية القرن العشرين.

يتبع



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن « غباء- الذكاء الصناعي
- الذكاء الاصطناعي
- -لماذا يوجد شيء بدلًا من لاشيء؟-
- الحجرة رقم 22
- بيروقراطية المعاطف
- أودرادِك
- ثقوب المرايا
- من عبودية الإقطاع إلى عبودية الرأسمالية
- روسيا بلاد النبلاء والعبيد
- مرايا الزمن
- بلاد الثلج والقياصرة والفودكا
- معرض -تكوين- التشكيلي
- أفول العقل المطلق
- فويرباخ والإستلاب
- نهاية هيجل
- الصيرورة في الكينونة والعدم
- هيجل وعلم المنطق
- السلب والإيجاب عند هيجل
- هيجل
- الجسد معبد اللغة


المزيد.....




- زي -سانتا- يكتسح شوارع ميخندورف الألمانية في سباق عيد الميلا ...
- تسرب مياه في اللوفر يلحق ضررا بمئات من أعمال مكتبة الآثار ال ...
- حافة حرب آتية لا محالة
- منتدى الدوحة يستعرض حال سوريا بين قسوة الواقع وآمال المستقبل ...
- غزة مباشر.. استسلام عشرات المسلحين لحماس ونتنياهو يؤكد قرب ا ...
- الكيان الصهيوني ومشروع تقسيم السودان
- رئيس بنين? ?يعلن إحباط محاولة انقلاب ومنظمة -إيكواس- تتدخل
- زيلينسكي: -محادثات السلام- مع واشنطن -بنّاءة- لكنها -صعبة-
- هونغ كونغ تنتخب نوابها في ظل تدابير مشددة بعد أزمة الحريق ال ...
- -الفيروس المجهول-.. مصر تكشف تفاصيل -الحالة الوبائية-


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعود سالم - عاصمة القياصرة