أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - الثقب الرابع















المزيد.....

الثقب الرابع


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 13:55
المحور: الادب والفن
    


ثقوب المرايا
الثقب الرابع - الصمت

ثم حدث ما لم يتوقعه أي منهما: ظِل أودراديك أصبح أكثر وضوحًا من جسمه، بينما جسد نون بدأ يبهت ويتضبضب. الرجل والمرأة شعرا كأنهما يشاهدان عملية تخلقٍ جديدة، لا تُشبه الميلاد ولا تشبه الموت، بل شيء ثالث، شيء مبهم يقع بين الحالتين.
قال نون، بصوت صار يشبه صوت الخيوط:

ـ ربما كنتُ أنا خياله… طوال هذا الوقت.

قال أودراديك، بصوت صار يشبه صوت البشر:

ـ وربما هو أنا الذي كنت أحاول أن أتصل بالبشر عبرك صوتك أنت وعبر حضورك ..
وفي اللحظة التالية، تداخل الاثنان: الظل صار خيطًا، والخيط صار هيئة مجسمة، والهيئة صارت شيئًا لا يمكن وصفه بنوع أو شكل، شيئًا يشبه فكرة تخرج من عقل العالم نفسه. أما الرجل والمرأة، فقد بقيا في مكانهما دون حراك لفترة وجيزة يحاولان تحليل الموقف.
تساءل الرجل وهو يحاول أن ينهض:

ـ هل ما نراه… بداية؟

قالت المرأة:
ـ ربما… وربما النهاية، ما يبدأ الآن قد يكون نهاية البداية، أو بداية النهاية .. ما الفرق ؟. لو تنمو شجرة مكان الكرسي سيكون ذلك بداية الشجرة، ثم الغابة ثم ..
فقاطعها الرجل: ونهاية الكرسي ..
وكان أودرادِك ونون يختبر كل منهما لأول مرة شكلًا ثالثًا للكينونة… شكلًا لم يختبره أحد قبلهما، أو هذا ما كانت تفكر فيه المرأة وربما الرجل أيضا..
لم يعد الضوء في سقف الحجرة ثابتًا…كان يتذبذب كما لو أن يدًا غير مرئية تقلب صفحةً بعد أخرى في كراسة ضخمة. عند كل اهتزازة في الضوء، كان أودرادِك يرتعش، وكان السيد نون ينكمش، وكأن الوعي ينتقل من جسده إلى خيطوط أودرادِك… ومن خيط إلى جسد. لم يعد الرجل ولا المرأة يفهمان ما يحدث، لكنهما شعرا فجأة بأن المشهد كلّه يلتف حول نقطة واحدة ذات وجهين نون .. واودرادِك. تقدّمت المرأة وسألت بصوت يكاد لا ينتمي للأصوات البشرية، صوت يشبه إحتكاك الريشة بالورق:

ـ من منكما يكتب الآخر؟
توقّف الزمن للحظة. أودرادِك أصدر خشخشة طويلة وكأنه يضحك .. أو يبكي، وكأن صفحاته الورقية تتقلب في داخله. نون رفع رأسه، وعيناه كانتا تحملان شيئًا يشبه الاعتراف أو الانهيار.
قال نون:

ـ كان ينبغي أن تكون الكراسة، مثل بقية الكراريس، مجرد ورق أبيض… مجرد دفتر قديم… مجرد مساحة للكتابة، هذا هو المشروع.

ثم أضاف بصوت منخفض:

ـ لكنها بدأت تفكّر. بدأت تُعيد كتابة الجمل التي أكتبها. ثم بدأت تكتبني أنا.
أودرادِك اقترب خطوة، خيوطه تتمدد كحروف تخرج من السطر وتلتوى على فنجان القهوة بجانب الكراسة.
قال بصوت يشبه لغة الرياح:

ـ كنتُ فكرة يا نون. فكرة صغيرة، هامشية، كتبها ذلك الموظف النحيف الذي يشبه قضيبا من القلق، في تلك الليلة الباردة ليتخلّص من هم ثقيل يجثم على صدره في كل ليلة. إنني مازلت مجرد صورة بكرة تفقد خيوطها مع الوقت.

ـ وها أنت ذا… ـ قال نون ـ تقفز داخلي، ثم أراك أمامي متكئا على عارضة الباب، بل تدعو نفسك لشرب القهوة معي، لماذا لا تعود إلى عالمك الأول؟

ـ أنا لم أفرض عليك حضوري، بل أنت من أدخلني إليك،… أنت الذي خرجتَ إليّ.
قالت المرأة، التي تراجعت خطوة كمن يشاهد ميلادًا يحدث خارج قوانين الولادة:

ـ إذن… الصالة المضيئة والساحة وهجوم الطائرات الورقية وهذه المغارة المزرية؟

ـ إنها علامات ضوئية، شحنات إلكترونية، صفحات، كلمات تصطف ثم تتلاشى، مجرد علامات سوداء متناثرة على الورق، علامات ضوئية على الشاشة.

ـ والعتمة؟

ـ مساحة بيضاء محذوفة

ـ ونحن؟

نون ردّ هذه المرة:

ـ أنتما ملاحظتان في الهامش… كنت أكتبكما لأفهم نفسي، لكنكما خرجتما من النص.
بدت الحقيقة ثقيلة، تعيد ترتيب الهواء الثقيل. أودرادِك صار يلمع بوضوح لا ينتمي للعالم الخارجي، كأنه مكتوب بمداد ذهني. نون بدا أضعف، كأنه يفقد كل ما كتبه… كأن الكتابة تبتلعه الآن.
ثم قال أودرادِك:

ـ أنت لم تكن قادرًا على حمل وعيك يا نون… فتركتني أتناثر هائما على الورق

ـ وأنا لم أكن أعرف أن الورق يتنفّس

ـ الورق ليس ورقًا، حين يُكتب بالقلق. الورق يصبح زنزانة للفكر المتشرد.
انحنت المرأة نحو نون، وسألته وهي تشير إلى الرجل ثم إلى صدرها:

ـ هل نحن في داخلك؟

أجاب نون وهو ينظر إلى يديه المرتجفتين:

ـ بل داخل ما لم أجرؤ على التفكير فيه. داخل الزنزانة.
قال أودرادِك:

ـ أنتم وعيه المكشوف. أنتم تختفون، عندما يظهر.

ثم أضاف، بخيط يمتدّ نحو صدر نون:

ـ وأنا… لا أحتاج جسدًا كي أكونكم جميعا، بل كي أكون كل مايكون ...
نون أغمض عينيه. كان كل داخله يرتجف ويتحول إلى صور، كراسة تطوى، سطر يُمحى، هامش يتّسع ليصبح صحراء تعج بالمنتظرين في صمت. يريد أن يحدث شيء.. أي شيء، أن تتكسر المرآة ..أن تتلاشى وتبتلع انعكاسها.
وقال أخيرًا وهو يشير إلى أودرادِك:

ـ إذا كنتَ وعينا… فهل أنت أنا؟

رد أودرادِك:

ـ بل أنا أنت دون خوف

ـ وأنا؟

ـ أنت… نسخة مشطوبة من السطر الأول …أو نصًا يبتلع كاتبه.
ـ فمن هو أنت؟ ماذا تكون وكيف أتأكد من وجودك وأنت تنزلق خارج إدراكي كلما حاولت الإمساك بك؟
- يبدو ذلك منطقيا، فأنا، إن أردت الحقيقة لستُ كائنًا يمكن البحث عن أثر له في المختبر، ولا فكرة يمكن أن توثّقها في كراستك. وجودي يشبه وجود “النص” قبل أن يُكتب، ووجود “اللحن” قبل أن يُعزف، ووجود “الفكرة” قبل أن تتحول إلى كلمة. أنا موجود فقط حين تحتاجني أنت. وحين تتوقف عن الاحتياج، أتلاشى، أتلاشى ثم أعود .. دون أن أموت. وكلما سألت “لماذا؟” بدلاً من “كيف؟”، فأنت تفتح لي الباب لأدخل لشرب القهوة. وجودي انعكاس لطريقتك في ترتيب الفوضى وتحويلها إلى معنى، فإن وجدتَ المعنى، وجدْتني، وإن تركتَ الأسئلة دون علامة إستفهام… أتلاشى مثل دخان خفيف وأذوب في الفراغ مثل الضباب.
وصار الاثنان، نون وأودرادِك، مثل كائنات تبحث عن وجوهها، ليس في المرآة المتناثرة قطعا على الأرض، بل في صور أوراق اللعب التي كانت في أيدي الرجل والمرأة، الري والموجيرة والكاواللي، وصور أوراق التارو، أما الرجل والمرأة… فقد جلسا على الهامش، في جملة معلّقة لم تُستكمل، ينتظران بقية النص، وينتظران أن يعترف نون أخيرًا بفشله في التكوين، وهم يواصلون لعبة السكمبيل.
لم تتغيّر الغرفة… أو ربّما تغيّرت دون أن يُلاحظ أحد. كان هناك شيء ما يتحرك في جوهرها، شيء يشبه اهتزازًا خفيفًا في مادة المكان، كأن الهواء نفسه يحاول أن يتذكّر ترتيبًا آخر للعالم. أودرادِك لم يعد واقفا الآن، بل بدا كأنه يستعيد شكلًا ما، شكلًا يعرفه ولا يعرفه نون في الوقت نفسه. ونون الذي توقف في منتصف الحجرة في مواجهة الطاولة الصغيرة، أحسّ بأن الأرض تحت قدميه تبتعد عنه قليلًا، مسافة لا تُقاس، مسافة تشبه الانزلاق داخل فكرة نائمة.
اقترب منه الرجل وسأله بشيء من الارتباك، ممسكا بأوراقه بحيث لا تراها المرأة:

ـ ماذا يحدث لك؟

لكن نون اكتفى بتمرير أصابعه على الهواء أمامه، وكأنه يتحسس حواف شيء غير مرئي ينتشر ببطء…ليس جدارًا، ولا بابًا، بل حدًّا من نوعٍ آخر، حدًا لم يتقرّر بعد إذا كان يقف أمامه أم حوله أم بداخله. كانت ملامح أودراِيك تومض ثم تخبو، ثم تعود لتومض في نقطة أخرى، كما لو أنّه يُجرَّب أشكالًا متتالية لعلاقة لم تتّخذ لها صيغة نهائية. ومع كل وميض، كان وجه نون يتغيّر قليلًا، كأن جزءًا من جسده يُعاد ترتيبه بطريقة لا تتفق مع فكرته عن ذاته.
قال أودراديك بصوت لا يصدر من فمٍ ولا من خيط:

ـ لستُ بعيدًا عنك…
ثم أضاف بعد لحظة، لكن بصوت بدا وكأنه صادر من مكانٍ آخر:

ـ ولا أقرب ممّا تظن.
ارتعشت المرأة دون أن يظهر ذلك على وجهها الذي أحتفظ بهدوءه لكي تواصل اللعب دون أن يخمن الرجل أوراقها. لم يكن في الكلام ما يخيف، لكن الطريقة التي تسرّب بها الصوت داخل الهواء جعلت الفضاء كلّه يبدو أقلّ ثباتًا، وكأن هذا المكان ليس مكانًا، بل نسخته التي بقيت بعد نسيان الأصل. نون نظر حوله، ولثانية واحدة، بدا كأنه يحاول قراءة شيء… ليس أمامه، بل فوقه، فوق العالم نفسه، كما لو أن هذه الحجرة تحتوي على كتابةٍ دقيقة لا تُرى إلا حين يختلّ التوازن قليلًا. لكنه لم يقل شيئًا.

فالصمت كان يسبقه دائمًا بخطوة.

يتبع



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عاصمة القياصرة
- عن « غباء- الذكاء الصناعي
- الذكاء الاصطناعي
- -لماذا يوجد شيء بدلًا من لاشيء؟-
- الحجرة رقم 22
- بيروقراطية المعاطف
- أودرادِك
- ثقوب المرايا
- من عبودية الإقطاع إلى عبودية الرأسمالية
- روسيا بلاد النبلاء والعبيد
- مرايا الزمن
- بلاد الثلج والقياصرة والفودكا
- معرض -تكوين- التشكيلي
- أفول العقل المطلق
- فويرباخ والإستلاب
- نهاية هيجل
- الصيرورة في الكينونة والعدم
- هيجل وعلم المنطق
- السلب والإيجاب عند هيجل
- هيجل


المزيد.....




- 2025 بين الخوف والإثارة.. أبرز أفلام الرعب لهذا العام
- -سيتضح كل شيء في الوقت المناسب-.. هل تيموثي شالاميه هو مغني ...
- أهلًا بكم في المسرحية الإعلامية الكبرى
- الأفلام الفائزة بجوائز الدورة الـ5 من مهرجان -البحر الأحمر ا ...
- مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم أنتوني هوبكنز وإدريس إل ...
- الفيلم الكوري -مجنونة جدا-.. لعنة منتصف الليل تكشف الحقائق ا ...
- صورة لغوريلا مرحة تفوز بمسابقة التصوير الكوميدي للحياة البري ...
- حفل ختام مهرجان البحر الأحمر السينمائي.. حضور عالمي وتصاميم ...
- -رسالة اللاغفران-.. جحيم المثقف العربي وتكسير أصنام الثقافة ...
- مصر: مبادرة حكومية لعلاج كبار الفنانين على نفقة الدولة


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - الثقب الرابع