أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - حين يشوي العمّ ( أبو محمد) لحمَ الذاكرة على جمر الزمن















المزيد.....

حين يشوي العمّ ( أبو محمد) لحمَ الذاكرة على جمر الزمن


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8555 - 2025 / 12 / 13 - 01:24
المحور: الادب والفن
    


استيقظتُ فجرًا على غير عادتي قبل أن يكتمل نُعاس الليل في عيني ، كأن نداء المؤذن لم يكن دعوةً للصلاة فحسب، بل صفّارةَ بعثٍ روحيٍّ في داخلي المرهق... ؛ وبتعبير أدق : لم أستيقظ من النوم، بل انسللتُ من بين مخالبِ ظلامٍ كان يلفّني كَكَفَنٍ رطب... ؛ لم تكن هُناك عادةٌ لأخالفها، ولا نومٌ لأفارقه ... ؛ كان الأرق ينهش لياليَّ منذ زمنٍ بعيد، ينسج من لحاف الظلام خيوطًا من قلقٍ لا ينام... ؛ أتقلّب في فراشي كما تتقلّب ورقةٌ في مهبّ الريح، لا أجد في الوسادة راحة، ولا في الصمت طمأنينة، ولا في السكون ملاذًا... ؛ نعم , منذُ دهورٍ لم يغمرني نومٌ عميق... ؛ صرتُ أشبهُ بسمكةٍ تائهة في حوضِ زجاجي، تتقلّبُ على جنبَيْها، تبحثُ عن نقطةِ ظلّ واحدة في بحرٍ من الضوء القاسي... ؛ كلُّ محاولاتي للاستسلام كانت تُسحقُ تحت عجلاتِ أرَقٍ لا يرحم... .
نهضتُ من الفراش كمن خرج للتوّ من غيبوبة طويلة، لا أدري أأنا أهرب من نومٍ لم يكتمل أم من يقظةٍ لم تبدأ بعد... ؛ وقفتُ في منتصفِ الغرفة، كائنٌ بلا وظيفة، بلا وجهة... ؛ ثمّ، كفقاعةِ هواءٍ تطفو من قاعِ مستنقع، انبثقتْ فكرةٌ غريبة : أقود سيارتي ... ؛ ثم خرجتُ إلى الشارع بلا هدفٍ واضح، سوى أن أتنفّس هواءً لم يمرّ عبر مصفاة التفكير... ؛ ثم خطر لي أن أتناول فطورًا بدائيًّا، فطورًا يذكّرني بطفولتي حين كان للطعام طعم الأرض والنار واليد... ؛ وبينما كنتُ أقودُ سيارتي في شوارعِ المدينةِ التي تشبهُ جثةً مترهلةً تحتَ ضوءِ القمرِ وشعاع الفجر ، تذكّرتُ مملكةَ العمِّ أبو محمد التميمي في حيّ "كَسْرَةِ وعَطَش الصناعي "... ؛ رجلٌ يبيعُ اللحمَ وكأنّه يوزّعُ قطعاً من روحه... ؛ شهرتُه لم تكن من بَريقِ الذهب، بل من بَساطةِ الحجر... ؛ إنّه لا يشتري إلّا اللحمَ الطازجَ، من خِرافِ العراقِ الطريةِ "الهَرْفي"، ويشويها بيديهِ كأنّما يمسحُ على جبينِ طفلٍ مريض... ؛ والطعم؟ طعمٌ سحريٌّ، كأنّكَ تأكلُ الأرضَ والبسمةَ معاً... ؛ لحمٌ يقدمهُ مع بصلةٍ مشويةٍ و"زَلاطَة" طازجة، فيمتزجُ في فمكَ الماضي بالحاضرِ امتزاجَ الماءِ بالخمر.
مطعم العمّ أبو محمد التميمي في حي "كسرة وعطش الصناعي"، ذاك الركن البسيط الذي ما زال يقاوم زمن البلاستيك والمعلّبات والطعام التجاري ... ؛ رجلٌ يشوي اللحم كما لو أنه يقدّس النار، يهفف الجمر براحتيه كما لو كان يواسي طفلاً غاضبًا، لا يُقدّم لحمًا إلا من "الهرفي" الخروف العراقي الصغير، حَيْثُ تُشَاهِدُ اللَّحْمَ وَهُوَ يَمُوتُ عَلَى جَمْرِ الْوُجُودِ لِكَيْ يُولَدَ طَعَامًا... ؛ وَبِالْمِهَفَةِ، كَأَنَّهُ طَقْسٌ لِتَكْفِينِ ذَاتٍ قَدِيمَةٍ وَاسْتِحْضَارِ ذَاتٍ جَدِيدَةٍ .
كانت فكرة تناول التكة عنده تحمل شيئًا من الطقس الروحي، لا مجرد وجبة فطور صباحي ... ؛ وحين وصلت، استقبلني بعينيه الدافئتين وكأنه يعرفني منذ زمنٍ بعيدٍ لا تذكره الأيام... ؛ لم يكن المكان فخمًا، ولا الطاولات مصقولة، لكنّ عبق اللحم المشويّ بالبصل والزلاطة الطازجة كان أبلغ من كل ديكور... ؛ جلستُ، وأنا أتأمّل يديه وهما تقلّبان قطع اللحم على الجمر كما لو أنهما تُعيدان ترتيب ذاكرة الوطن؛ لحمٌ طازج، وشايٌ بالهيل، وحديثٌ عن زمنٍ كان فيه الكرم فطرة لا تسعّرها قوائم الطعام... .
جلستُ أمامه وأنا أراقب تلك الطقوس اليومية: الجمر المتّقد، رائحة الدهن المتطاير، البصل المشويّ يختلط عبيره بنكهة الزلاطة الطازجة، وكأنّ الطبيعة كلّها تشارك في إعداد تلك الوجبة... ؛ لم يكن سرّ اللذة في اللحم وحده، بل في النيّة التي تشتعل قبل الجمر، وفي القلب الذي يطهّي قبل اليد... ؛ ربما لأن العم أبا محمد يُضيف من نفسه إلى الطبق ما لا يُقاس بالملح والبهارات.
والعجيبُ أنّه يفتحُ مطعمَه مع نداءِ الفجرِ ويغلقهُ مع أذانِ الظهر... ؛ ينفدُ ما عندَه من لحمٍ وكأنّما ينفدُ رصيدُ الزمنِ الجميل... ؛ والطلبُ الشديدُ لا يغرّيهِ بجشع، اذ لا يشتري المزيدَ من اللحم ولا يمتدّ بهِ الوقتُ حتى الليل... , غير مكترثٍ بربحٍ أو بخسارة... ؛ كأنّما يعيشُ في زمنٍ موازٍ، زمنِ القيمِ البائدة، زمنِ الكرامةِ والكفاف... , فهو يعيش في زمنٍ غير زماننا؛ زمنٍ كان الكسب فيه وسيلةً للعيش لا غايةً للنهب... ؛ هو نبتةٌ غريبةٌ نادرةٌ في صحراءِ هذا العصرِ الطافحةِ بالجشع والطمع والمادية ... ؛ يبيع ما عنده من لحمٍ ثم يعود إلى بيته مطمئنًّا كمن أدّى واجبه في معبدٍ قديم... ؛ في عينيه صفاء الذين لم يُلوّثهم طمع السوق، وفي صمته حكمة البسطاء الذين يدركون أنّ السرّ ليس في النار ولا في التوابل، بل في القلب الذي يطهّي قبل اليد.
لا أدري سرَّ هذه القداسة... ؛ ألأنّ الرجلَ بسيطُ القلب، كريمُ النفس، يغدقُ عليكَ بالمقبّلاتِ والخبزِ دونَ أنْ يطلبَ ثمناً لابتسامته؟
أم لأنّه يعملُ بالطريقةِ القديمة، فيحفظُ للوجبةِ روحَها السرّية؟
أم لأنّ لحمَه طازجٌ نقيٌّ، كضميرِ طفل؟
أم لأنّ سعرَه، رغمَ كلِّ هذا الجمال، لا يزالُ في متناولِ الفقراءِ والحالمين؟
لَيْسَ هُنَاكَ سِرٌّ وَاحِدٌ لِطَعْمِهِ الْلذيذ ... ؛ هُوَ لَحْمُ الْبَسَاطَةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنْ وَحْلِ التَّكَلُّفِ... ؛ هُوَ لَحْمُ الْكَرَمِ الَّذِي يَمْنَحُكَ الْخُبْزَ وَالْمَقَبِّلَاتِ كَهَدِيَّةٍ مِنْ زَمَنِ الْأَخَوَّةِ الْبَائِدِ... ؛ هُوَ لَحْمُ الْأَصَالَةِ الَّتِي تَحْفَظُ لِلْوَجْبَةِ رُوحَهَا الْبَدَائِيَّةَ، كَنَغْمَةٍ لَمْ تُعْدَلْ عَنْ سُلَّمِهَا الْأَوَّلِ... ؛ هُوَ لَحْمُ النَّقَاءِ الَّذِي لَمْ تَلْمُسْهُ أَيْدِي التَّصْنِيعِ وَالْغِشِّ والمواد الحافظة والكيماوية ... ؛ هُوَ لَحْمُ الْعَدْلِ الَّذِي سِعْرُهُ لُغْزٌ يُحَيّرُ حَسَّابِات عَصْرِ الْجَشِعِ والطمع .
وحين فرغتُ من تناول اللحم وشربتُ قدح الشاي المهيل، شعرتُ أنني لم أتناول فطورًا بل استعدتُ شيئًا من إنسانيتي الضائعة... ؛ وتبادلنا أطرافَ حديثٍ مع العمِّ أبو محمد، حديثاً عن ذكرياتٍ لم أعشها، لكنّها كانت تُلمعُ في عينيهِ كقطعِ فسيفساءَ مبعثرة ... ؛ كان حديث العمّ أبو محمد بسيطًا كالماء، عميقًا كالأرض، صادقًا كالنار التي تشوي دون أن تحرق.
عدتُ إلى البيت بعد ذلك كأنّي أُمسك بآخر خيطٍ من فجرٍ نادر... ؛ عدتُ وأنا أحملُ في داخلي شيئاً جميلاً، كأنّني أنجزتُ مهمّةً كونية، أو كأنّني صلّيتُ أخيراً في معبدِ الإنسانيةِ قبلَ أنْ تندثر... ؛ رجعتُ إلى البيت بخفةٍ غريبة، كأنني أنجزتُ عملًا عظيمًا لا يُقاس بالجهد بل بالشعور... ؛ أدركتُ أن السعادة ليست في الأطعمة الفاخرة، ولا في المطاعم التي تتزيّن بالذهب والضوء والكرستال ، بل في وجبةٍ تُطهى بيدٍ صافيةٍ ونفسٍ نقيةٍ، تُعيد للإنسان إحساسه الأول بالحياة، حين كان الخبز كافيًا، والنية طيّبة، والرضا مائدةً لا تنتهي... ؛ شعرتُ أنّني لم أتناول وجبةً فحسب، بل التقيتُ بقطعةٍ من نفسي كانت تائهة بين ضجيج المدن ومراوغة الأيام... ؛ هناك، في مطعم العمّ أبو محمد التميمي ، تذوّقتُ للمرة الأولى منذ زمنٍ طعم البساطة، طعم الإنسان حين يكون صادقًا مع النار، ومع الرغيف، ومع نفسه ... ؛ نعم , كانت تلك الوجبة فطورًا للجسد، لكنها كانت أيضًا صلاةً صامتةً للروح.
كان صباحي ذاك فجرًا آخر يولد في داخلي — فجرًا علّمني أن البساطة ليست نقيض العظمة، بل أصلها، وأن لحم العم أبي محمد لم يكن لحمًا يُؤكل فحسب ... بل ذاكرةً تُشوى على جمر الوفاء والطيبة والنقاء .



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكائن الذي فضحته إضاءته
- كيمياء الوجود بين صرامة القوانين ووهم الاستثناء
- الواقع المزيف: بحثًا عن الحقيقة في زمن الالتباس وطمر الوعي
- حين تدور الأسطوانة… ويستيقظ زمنٌ لم يمت
- وليمة الجوع الذي لا يُشبِع … وسراب الشِّبع الذي لا يرحم
- العابر بين ظلاله
- نارٌ تُضيء ظِلال الروح
- النقل والرواية بوصفها ساحة للصراع: نقد تمثّلات الخصم والاخر ...
- اشكاليات مفهوم الأمة العراقية / 10 / ازدواجية المعايير وإشكا ...
- الهجرة بوصفها فعلًا اجتماعيًّا معقّدًا: بين الاستبداد السياس ...
- نحو تأسيس وعي وطني جديد: مقاربة فلسفية-سياسية في مفهوم الأمة ...
- جشع محطات الوقود الأهليّة… حين يتحوّل «القليل» إلى منظومة فس ...
- الضياع… حين تغترب النفس عن ذاتها وتصبح الحياة بلا بوصلة
- العوامل الصانعة للوعي الجمعي والثقافة العامة : بين القيادة و ...
- حين يتحول المجرم إلى وجيه .. والمجتمع إلى شريك في الجريمة..! ...
- ما بعد الفناء النووي: الإنسان حين يحترق بعقله
- سرقات في ظلال القانون — حين تتخفّى اللصوصية بثياب الفضيلة
- مقاربة سياسية لما بعد الانتخابات العراقية 2025: بين توازن ال ...
- العراق بين مطر السياسة وجفاف الرافدين ... قراءة في العقل الت ...
- سقوط القيم في الصراع السياسي والانتخابي : قراءة في التحلل ال ...


المزيد.....




- 2025 بين الخوف والإثارة.. أبرز أفلام الرعب لهذا العام
- -سيتضح كل شيء في الوقت المناسب-.. هل تيموثي شالاميه هو مغني ...
- أهلًا بكم في المسرحية الإعلامية الكبرى
- الأفلام الفائزة بجوائز الدورة الـ5 من مهرجان -البحر الأحمر ا ...
- مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم أنتوني هوبكنز وإدريس إل ...
- الفيلم الكوري -مجنونة جدا-.. لعنة منتصف الليل تكشف الحقائق ا ...
- صورة لغوريلا مرحة تفوز بمسابقة التصوير الكوميدي للحياة البري ...
- حفل ختام مهرجان البحر الأحمر السينمائي.. حضور عالمي وتصاميم ...
- -رسالة اللاغفران-.. جحيم المثقف العربي وتكسير أصنام الثقافة ...
- مصر: مبادرة حكومية لعلاج كبار الفنانين على نفقة الدولة


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - حين يشوي العمّ ( أبو محمد) لحمَ الذاكرة على جمر الزمن