أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - الكائن الذي فضحته إضاءته















المزيد.....

الكائن الذي فضحته إضاءته


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 09:44
المحور: الادب والفن
    


وُلد ذات فجرٍ مكسور، لا في تمام النور ولا في حضن الظلمة، بل في البرزخ العجيب بينهما، حين يتردّد الضوء قبل أن يختار مصيره... ؛ لم يكن صراخه الأول صراخ لحمٍ ودم، بل صرخة فكرةٍ أفلتت من قبضة العدم، فارتجّت لها زوايا الوجود الخفيّة... ؛ انبثق نوره شحيحًا، لا ضعفًا فيه، بل لأن الكون من حوله كان ممتلئًا حتى التخمة بالظلام .
حين وُلد، لم يكن ميلاده حدثًا عاديًا في سجلّ الأزمنة، بل كان شرخًا صغيرًا في جدار العتمة... ؛ فقد أشرق من جبينه ضوءٌ شبيه ببريق الكريستال حين تلامسه يدُ الشمس، لكنه بدا خافتًا، لا لأن جوهره ضعيف، بل لأنّه انبثق في قلب مجرّات لم تعرف الضياء يومًا، وتنفّس في فضاءاتٍ اعتادت السواد حتى صار لها وطنًا... .
كبر، وكان في وجهه شيء لا يُرى ولكن يُحَسّ، شيء يجعل القلوب ترتبك من غير سبب، ويجعل الأرواح الموحلة تستشعر الخطر من حضوره وحده ... ؛ كان كمرآةٍ تصدم القبيح بحقيقته، وكجرحٍ مفتوح يذكّر العالم بآثامه المنسيّة... ؛ فمنذ خطواته الأولى، بدأت العيون تتسع له لا إعجابًا، بل ارتيابًا، وبدأت القلوب الحاقدة تتدرّب على كراهيته قبل أن تجد لها ذريعة ... ؛ نعم ؛ منذ تلك اللحظة، صار الفتى—الذي كانت البراءة تُقيم على ملامحه كصلاةٍ صامتة—هدفًا لكل ما يُعادي النور بطبيعته... ؛ اذ أصبح قِبلةً لسهام اللئام، ومرآةً تُفزع الظلال حين ترى قبحها منعكسًا ... .
كان هو المفارقة بعينها: يحمل في صدره قلب حملٍ وديع، وعلى جبينه اشارة تغري الذئاب... ؛ كان كالقمر: له وجهٌ يغتسل بالضياء، وآخر تلوّثه آثار العتمة من شدّة التصاقها به... ؛ وكان كقنديلٍ وحيد في ليلٍ مكتظّ بالحشرات؛ يجذبها بنوره لا ليغويها، بل لتأتي إليه مدفوعةً بلعنتها، فتهلك عند تخومه ... ؛ و كلما ازداد صفاؤه، اشتدّ حوله العفن... ؛ وكلما لانت كلمته، تقوّست في وجهه السكاكين ... ؛ هكذا صار هو: مركز الجذب… ؛ ومركز الألم... ؛ ومغناطيس الأحزان، والهدف الدائم لكل هجومٍ بلا سبب، ولكل كراهية بلا تاريخ...!!
رافقتْه هذه اللعنة منذ الطفولة، عبر المراهقة، حتى خط الشيب إلى روحه قبل أن يخطّه الزمن في شعره... ؛ لم يكن يطأ مكانًا إلا وتتبّعته عيون الأضداد بحدقة الحقد، ولا يستقرّ في أرضٍ إلا وداهمته فلول الشياطين وشذّاذ الآفاق من المجرمين والمنحطّين، كأنّ وجوده وحده إعلان حربٍ غير مكتوبة...!!
لم يفهم في طفولته ومراهقته وشبابه سرّ تلك السهام التي كانت تُرمى عليه بلا سبب، ولا تلك الحروب الصغيرة التي كانت تُفتَح في طريقه دون إعلان... ؛ كان يظنّ – بسذاجة الملائكة الساقطة حديثًا إلى الأرض – أن الخير يُكافَأ، وأن النقاء يربك الشر فيستحي منه... ؛ نعم , في بداياته، لم يكن يفهم : لماذا يُحارَب وهو لم يُقاتل ... ؛ ولِمَ يُكره وهو لم يَكره ؟!
كان مسالمًا إلى حدّ السذاجة ... ؛ نقيًّا إلى درجة الاستباحة ... ؛ كأنّ طيبته كانت بابًا مفتوحًا لكل مكرٍ وجريمة ... ؛ لكن الأيام—وهي المدرسة القاسية التي لا تمنح شهاداتها إلا بالندوب—علّمته الحقيقة العارية: أن الأضداد لا تتآلف ... ؛ و النقيضان لا يجتمعان ... ؛ وأن عداوة الأشرار للأخيار، والسفهاء للحكماء، والقساة للضعفاء , واللؤماء للنبلاء , والبخلاء للكرماء … ؛ - نعم , تعلّم متأخرًا أن الضوء لا يُخجل الظل، بل يفضحه… ؛ وأن الفضيحة تلد الكراهية ... - ؛ ليست حادثة طارئة ، بل قانونًا كونيًا لا يُنقَض.
نعم , قد أدرك أن السفلة لا يكرهون الحكماء لأنهم ظلموهم، بل لأنهم يذكّرونهم بما عجزوا عن أن يكونوه... ؛ وأن الأقوياء المزيفين لا يطاردون الضعفاء لأنهم خطر، بل لأنهم مرآة لزيف القوة ... ؛ وعرف أيضًا أن الطيب يجذب المفترسين كما يجذب الجرحُ الذباب، لا لأنه يدعوهم، بل لأن رائحته صادقة أكثر مما ينبغي لعالمٍ فاسد... ؛ وأن الكريم لا يُستنزف لأنه غني أو غبي ، بل لأنه يفتح الباب كثيرًا، فيدخل منه اللصّ قبل الصديق... ؛ وهكذا… لا يحتاج الجلاد لحجة ما دامت الضحية واقفةً في الضوء.
و كذلك علم انه :من سابع المستحيلات أن يمتدح الفسادُ الطهارة، أو أن يُنصف الطالحُ الصالح، أو أن يعشق النذلُ النبيل لأنه سيبقى دائمًا شاهدًا على سقوطه... .
وفهم أيضًا—بمرارةٍ تشبه طعم الرماد—أن الطيب هو أكثر من يستدعي النصّابين إلى مائدته ،وأن الكريم هو أكثر من تُغزَى خزائنه، وأن الضعيف هو الإعلان المفتوح لكل متسلّط ... .
نعم… ؛ كثيرًا ما يدعو المقتولُ قاتله دون أن يدري ... ؛ وكثيرًا ما تلفت الضحيةُ انتباه الجلّاد فقط لأنها واقفة في الضوء...!!
حاول أن يختبئ... ؛ جرّب أن يُطفئ بعضًا من نوره كي ينجو، أن يُصغّر صوته كي لا يُغتال صداه، أن يُشبه الآخرين قدر استطاعته... ؛ لكن عطره كان يفضحه، وصمته كان يشي به، وحتى انكساره كان يلمع أكثر مما ينبغي في أعين المتربصين...!!
نعم ؛ عندها قرّر أن يهجر الخلق، لا كرهًا لهم، بل صيانةً لما تبقّى منه ... ؛ ولجأ إلى الخالق كما يلجأ الجريح إلى الغيب حين تخونه الأرض ... ؛ إلا أن رائحته كانت تفضحه أينما حلّ وارتحل ... ؛ رائحة النقاء لا تختبئ طويلًا في عالمٍ يتغذّى على العفن وعلى مص دماء الابرياء وسحب طاقة الانقياء ... .
ما إن يستقرّ في مكان ... ؛ حتى تلحقه كلاب البرّية، وتطوّقه ضباع الشر، وتنقضّ عليه خفافيش الظلام من سقوف الأرواح المظلمة ... ؛ فتكدّر عليه يومه، وتنهش سكينته، وتفسد عليه ما تبقّى من حلمٍ صغير في الحياة.
وحين ضاق بالعالم، لجأ إلى العلوّ، لا هربًا، بل طلبًا للمعنى... ؛ احتمى بالخالق حين خانته المخلوقات، وتشظّى في داخله سؤال واحد لا يهدأ:هل يُعاقَب الإنسان لأنه نقيّ أكثر مما يحتمل هذا الوحل؟!
وحين حانت ساعة موته ... ؛ وفي لحظة الرحيل، صار جسده أخفّ من الوجع، وقف المشهد الأخير كما لو أنه محكمة كونية لا تخطئ ، اصطفّ المشهد كأنه محكمة لا تخصّ الأرض وحدها :عن يمينه ملائكة النور، بوجوهٍ لا تعده إلا بالسكينة والراحة والخلاص ،وعن شماله شياطين الشر، لا تزال تلوّح له بالثبور والنار وعظائم الامور ... ؛ وكان هو واقفًا بين الفريقين ... ؛ ينظر إليهما معًا بعينٍ أنهكها البصر، وقلبٍ أنهكه الصراع ... ؛ نظر إليهم وهو يبتسم لأول مرة بلا خوف… ؛ حينها فقط، فهم أخيرًا: أن معاناته لم تكن لعنة… ؛ بل ثمن النور في عالمٍ لا يحبّ الضوء ... ؛ نعم , عرف أن المعركة لم تكن عليه، بل كانت به ... ؛ وأن نوره، الذي أتعبه في الأرض، كان هو وحده جواز العبور إلى ما بعد الألم ... .



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيمياء الوجود بين صرامة القوانين ووهم الاستثناء
- الواقع المزيف: بحثًا عن الحقيقة في زمن الالتباس وطمر الوعي
- حين تدور الأسطوانة… ويستيقظ زمنٌ لم يمت
- وليمة الجوع الذي لا يُشبِع … وسراب الشِّبع الذي لا يرحم
- العابر بين ظلاله
- نارٌ تُضيء ظِلال الروح
- النقل والرواية بوصفها ساحة للصراع: نقد تمثّلات الخصم والاخر ...
- اشكاليات مفهوم الأمة العراقية / 10 / ازدواجية المعايير وإشكا ...
- الهجرة بوصفها فعلًا اجتماعيًّا معقّدًا: بين الاستبداد السياس ...
- نحو تأسيس وعي وطني جديد: مقاربة فلسفية-سياسية في مفهوم الأمة ...
- جشع محطات الوقود الأهليّة… حين يتحوّل «القليل» إلى منظومة فس ...
- الضياع… حين تغترب النفس عن ذاتها وتصبح الحياة بلا بوصلة
- العوامل الصانعة للوعي الجمعي والثقافة العامة : بين القيادة و ...
- حين يتحول المجرم إلى وجيه .. والمجتمع إلى شريك في الجريمة..! ...
- ما بعد الفناء النووي: الإنسان حين يحترق بعقله
- سرقات في ظلال القانون — حين تتخفّى اللصوصية بثياب الفضيلة
- مقاربة سياسية لما بعد الانتخابات العراقية 2025: بين توازن ال ...
- العراق بين مطر السياسة وجفاف الرافدين ... قراءة في العقل الت ...
- سقوط القيم في الصراع السياسي والانتخابي : قراءة في التحلل ال ...
- جمر التوازن تحت مطر الفوضى والتشويش: محاولة للوجود والاتزان ...


المزيد.....




- فنان من غزة يوثق معاناة النازحين بريشته داخل الخيام
- إلغاء حفلات مالك جندلي في ذكرى الثورة السورية: تساؤلات حول د ...
- أصوات من غزة.. يوميات الحرب وتجارب النار بأقلام كتابها
- ناج من الإبادة.. فنان فلسطيني يحكي بلوحاته مكابدة الألم في غ ...
- سليم النفّار.. الشاعر الذي رحل وما زال ينشد للوطن
- التحديات التي تواجه التعليم والثقافة في القدس تحت الاحتلال
- كيف تحمي مؤسسات المجتمع المدني قطاعَي التعليم والثقافة بالقد ...
- فيلم -أوسكار: عودة الماموث-.. قفزة نوعية بالسينما المصرية أم ...
- أنغام في حضن الأهرامات والعرض الأول لفيلم -الست- يحظى بأصداء ...
- لعبة التماثيل


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - الكائن الذي فضحته إضاءته