محفوظ بجاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 09:34
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لسنا من دعاة العرق ولا ممّن يضعون الناس في قوالب ضيّقة ليبرّروا لأنفسهم حقيقة لم يفهموها بعد. ومع ذلك، لا ننتظر اعترافًا من أحد، ولا نعلّق هويّتنا على أبواب الذين لا يعرفون وزن التاريخ. فنحن لا نخوض نزاعًا على تسمية، بل معركة وعي، والمعركة الحقيقية لا تُخاض بالصمت ولا بترك الساحة لمن يتغذّى على الجهل. هناك دائمًا من يتعمّد التشويه ويعيد خلط الأوراق، ويصنع أوهامًا يريد لها أن تصبح واقعًا بديلًا؛ وتركه دون ردّ يشبه ترك شرارة صغيرة وسط هشيم يابس، سرعان ما تتحوّل إلى حريق يعصف بكل شيء.
لسنا بحاجة إلى صراخ أو شعارات، بل إلى أن نضع الحقائق في مكانها الصحيح: واضحة، صلبة، غير قابلة للالتواء. فهذه الأرض لم تُعرف بهويّة دخيلة، ولا بتاريخ مستورد، ولا بروايات تُكتب في لحظة غضب. جذورها عميقة في الزمن، صمدت أمام الغزوات ومحاولات الطمس، وظلّت شاهدة على أجيالٍ مرت وتركت آثارها فوق صخورها ولغاتها وذاكرتها. لسنا في حرب مع أحد بل في حرب ضد النسيان؛ حرب ضد من يريد تحويل الحقيقة إلى رأي، أو تحويل التاريخ إلى منشور سريع لا يزن كلمة ولا يقدّر دمًا.
الهويّة ليست شعارًا نرفعه ثم نخلعه حين نملّ، وليست بطاقة حزبية ننضمّ بها إلى جماعة، بل مسؤولية ثقيلة وحملٌ يعرفه من عاشته الأجيال ودافعت عنه دون صخب. ولأننا ندرك حجم هذا الحمل، نقف اليوم لا للدفاع عن هويةٍ مُهدّدة، بل لحماية إرثٍ لا يُشترى ولا يُفاوض عليه، إرثٍ بُني بعرق الناس وبدماء الشهداء وبصبر من حملوا الجزائر في القلب قبل أن تُكتب على الخرائط.
إن الذين يحاولون اليوم جرّ الجزائر إلى هوية صغيرة لا يفهمون أن الحقيقة أكبر من كل الروايات التي ينسجونها. فالجزائر لم تتشكّل صدفة، ولم تولد على يد الغازي أو الوافد، بل خرجت من قلب تاريخ طويل يبدأ من نوميديا العريقة، من أرض ماسينيسا ويوغرتن وملوكٍ وحضارات سبقت كل التحوّلات، واستمرت رغمها. إن أصل هذه البلاد واضح لمن أراد أن يرى
راسخ لمن أراد أن يفهم، ولا يحتاج إلى شهادة أحد. فالتاريخ أعمق من الادّعاء، والهوية أقدم من المزاج، والأرض لا تُعرّف بلسان عابر، بل بجذورٍ تمتدّ آلاف السنين في الجبال والأودية والقبور والنقوش والذاكرة.
وهكذا، يبقى الجوهر ثابتًا مهما حاول الضجيج أن يعلو: الجزائر أمازيغية الجذور، نوميدية الأصل، تتّسع لأبنائها جميعًا، لكنها لا تتنازل عن حقيقتها مهما طال الزمن. والوعي سيأتي، عاجلًا أو آجلًا، لأن الحقائق لا تموت… حتى لو نام فوقها الغبار لبعض الوقت.
#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟