|
|
تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 06:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نصٌّ مُكمِّل للوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق
د. علي عبد الرضا طبله 2025.12.10
1. تمهيد: من تشخيص الجرح إلى طريق العمل
كلُّ حديثٍ عن «ما العمل؟» يفقد معناه إذا لم يُسبَق بسؤالٍ أكثر جذرية: ما الذي جرى فعلاً لهذا البلد، ولهذه الطبقة العاملة، ولهذا اليسار، ولهذا الحزب الذي حمل يوماً آمال الكادحين؟
إنّ هذا النص لا يكتب تاريخاً سردياً، ولا يصفي حسابات مع أشخاص أو تنظيمات، ولا يقدّم «برنامجاً انتخابياً». إنّه محاولة لوضع خريطة ماركسية واضحة للأزمة التاريخية المركّبة التي يمرّ بها العراق، وللطبقة التي تحكمه، وللطبقات التي تُسحَق في هامشه، وللمسارات الواقعية الممكنة أمام حركة شيوعية تريد أن تعود أداة تحرّر لا ملحقاً في نظام المحاصصة.
وهو نصٌّ مُكمِّل للوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق؛ يتغذّى من روحها ومنهجها، ويعمل على توضيح ما بقي فيها مضغوطاً أو تلميحاً أو اختصاراً، عبر قراءة متصلة لخطّ الانحدار من 8 شباط 1963 إلى دولة الريع والفصائل، ومن دستور 2005 إلى خطر انهيار النفط، ومن أزمة الحزب إلى أزمة المجتمع، ومن خطاب «المكوّن» إلى ضياع مفهوم «المواطنة».
2. الجذر التاريخي للأزمة: من 1963 إلى 1978 ثم إلى المنافي
الأزمة الراهنة ليست بنتَ 2003 وحده؛ جذورها تعود إلى الانقلاب الفاشي في 8 شباط 1963، حين تداخلت أذرع المخابرات الإمبريالية الأميركية مع القوى القومية والبعثية، وتحالفات خليجية وإقليمية، وبعض المرجعيات الدينية والقوى القومية الكردية، لإسقاط مسارٍ وطني–ديمقراطي هشٍّ كان يتلمّس طريقه بعد ثورة تموز.
منذ تلك اللحظة بدأ مشروع منظم لتدمير كل حوامل الوعي الطبقي والتنظيم الطبقي: تصفية القيادات الشيوعية، ضرب النقابات، ملاحقة الكوادر العمالية والفلاحية والطلابية، تجريم الفكر الماركسي، وتثبيت دولة أمنية تعيش على نزع السياسة من المجتمع وتحويله إلى رعايا لا مواطنين.
جاءت هجمة 1978 لتشكّل الذروة الثانية لهذا المسار: قمعٌ شاملٌ للمعارضة العراقية، بشقيها الأساسيين: أحزاب الإسلام السياسي وشبكات المرجعية من جهة، والحزب الشيوعي والتيارات الماركسية واليسارية والديمقراطية من جهة أخرى. كانت الغاية واضحة: تفريغ البلاد من أي قطب طبقي منظم، وإبقاء المجتمع محشوراً بين آلة الدولة القمعية وبين أشكالٍ مشتتة من التديّن والعشيرة.
انهيار الكفاح المسلح لاحقاً، وتشتّت المناضلين في المنافي، لم يكونا مجرّد نتيجة عابرة، بل لحظة كسر بنيوي: فقدت الطبقة العاملة عمقها التنظيمي، وفقد الفلاحون سندهم السياسي، وتحوّل جزء كبير من المعارضة إلى قوة مبعثرة في الخارج، تعتمد على دعم دولٍ ومنظمات لا تلتقي دائماً مع مصالح الشعب.
هكذا دخل العراق حقبة التسعينيات: دولةٌ شمولية منهكة بالعقوبات والحروب، مجتمعٌ جائعٌ ومحاصر، وطبقة عاملة مسحوقة بين الحصار والبطالة، ومعارضةٌ ممزقة بين عواصم العالم. هنا بدأت ملامح الكارثة التي ستنفجر بعد سنوات على شكل احتلالٍ مباشر وإعادة تشكيل للدولة على أسس تناقض جوهرياً أي مشروع تحرّر طبقي.
3. من الاحتلال إلى دستور 2005: دولة الريع والمحاصصة والفصائل
حين دخل الاحتلال الأميركي بغداد في نيسان 2003 لم يدخل إلى مجتمعٍ سليمٍ يبحث عن إصلاح، بل إلى مجتمع مدمَّر، منهك، بلا حركة طبقية حية، وبلا يسارٍ قادرٍ على قيادة مقاومةٍ سياسية–اجتماعية واسعة.
كان الاحتلال واعياً لطبيعة اللحظة: فاستبدل الدولة الوطنية المأزومة بدولة ريعية–محاصصاتية–فصائلية، صيغت أسسها السياسية والقانونية في دستور 2005، وفي مجمل «الهندسة الدستورية» للنظام الجديد.
هذا الدستور لم يُبنَ على مفهوم المواطنة المتساوية، ولا على عقد اجتماعي طبقي بين مجتمعٍ ومؤسسات دولة، بل بُني على منطق «المكوّنات» التي ينبغي أن تُطمأن بنِسَب وحصص، وأن تُدار عبر توزيعٍ أفقي للسلطة بين كتل قومية–طائفية، لا عبر بناء دولة حديثة عمودية تقوم على فصل السلطات، وسيادة القانون، والحقوق الاجتماعية.
هكذا جرى تكريس ثلاث حقائق خطرة:
أولاً: إرساء نظامٍ أقرب إلى الكونفدرالية المقنّعة منه إلى الفدرالية الديمقراطية؛ حيث تَرسّخت في إقليم كردستان سمات شبه دولة لها علمها وقوانينها وقواتها، فيما بقيت بقية البلاد تحكمها معادلة مركزٍ ضعيفٍ ومحافظاتٍ متنازعة، على أرضٍ دستورها ملغومٌ بتعارضات السلطة والثروة (النفط، كركوك، الصلاحيات).
ثانياً: استبدال مفهوم «المواطن» بمفهوم «ابن المكوّن»، وتحويل الولاء من معيارٍ سياسي–طبقي إلى معيارٍ هويّاتي؛ حيث يجري الحديث عن «استحقاق شيعي» و«استحقاق سنّي» و«استحقاق كردي»، لا عن برنامجٍ اقتصادي–اجتماعي يطال عمّال البصرة وموظفي الموصل وفقراء الناصرية وبغداد بالمعنى نفسه.
ثالثاً: فتح الباب واسعاً أمام القوى الإقليمية والدولية لتتعامل مع العراق بوصفه ساحة توازن بين مكوّنات وطوائف وقوميات، لا بوصفه دولة ذات سيادة كاملة. بهذا الشكل تشكّل الإطار الذي ستتحرّك داخله الطبقة المالية–الريعية–الفصائلية الحاكمة في العقود التالية.
4. من هو الحاكم الفعلي؟
الطبقة التي أمسكت بمقاليد السلطة بعد 2003 لم تولد من رحم اقتصادٍ وطني منتج، ولا من تراكمٍ طويلٍ لبرجوازية صناعية أو تجارية وطنية، بل تشكّلت من مزيجٍ هجين:
وهي طبقة ليست متجانسة، بل تتكوّن من: رأسمال فصائلي رأسمال ديني–حزبي رأسمال إداري–بيروقراطي ورأسمال عشائري–إقليمي ورأسمال كردي–ريعي وشبكات تهريب وتمويل خارجي
هذه الطبقة تتناقض داخليًا وتتحارب على الريع، لكنها تتوحد عند نقطة واحدة: منع أي تغيير اقتصادي–اجتماعي يعيد بناء مجتمع منتج.
طبقة ريعية–فصائلية مركّبة. ((Rentier–Militia Bloc))
إذن، هي طبقة ريعية–فصائلية مركبة، من تحالف بين البرجوازية الحزبية، والبيروقراطية العليا، والبرجوازية الفصائلية–المسلّحة، والبرجوازية التجارية–المصرفية، وأجنحة من البرجوازية العشائرية–الدينية، تمسك مجتمعةً بجهاز الدولة والريع والسوق والعنف المنظم. من سياسيّي معارضةٍ سابقين معدمين، تلقّوا دعماً مالياً وسياسياً في المنافي، وعادوا ليحوّلوا مواقعهم الجديدة إلى منصّات نهب وثراء؛ من بقايا جهاز الدولة السابق، الأمنية–العسكرية والإدارية، التي أعادت تموضعها في أجهزة الدولة الجديدة وشبكاتها الخفية؛ من قادة فصائل مسلحة تشكّلت في ظروف الاحتلال والمقاومة والإرهاب، ثم تحوّلت تدريجياً من أذرع عسكرية إلى أذرع مالية؛ من رجال دين وقادة عشائر ومقاولين ووسطاء، وجدوا في الدولة الريعية فرصة تاريخية للتحوّل إلى جزء من الطبقة المالكة.
هذه الطبقة لا تحكم عبر صندوق الاقتراع، بل عبر منظومة متشابكة من: الريع النفطي، الفساد المنظّم، اقتصاد الظل، المال السياسي، والسلاح غير الخاضع لاحتكار الدولة.
وهي طبقة لا مصلحة لها في بناء دولة قانونٍ حديثة؛ لأنّ قيام دولة ذات سيادة قانونية فعلية يعني نهاية امتيازاتها. كما لا مصلحة لها في نمو طبقة عاملة واعية ومنظمة؛ لأنّ هذه الطبقة هي العدو التاريخي الوحيد القادر على انتزاع السلطة منها.
5. البنية الاجتماعية اليوم: من الطبقة العاملة إلى «البروليتاريا المهدَّدة»
تدمير الصناعة الوطنية، وتفكيك القطاع العام، وفتح الأسواق بلا ضوابط، وتحويل الملايين إلى موظفين صغار في جهاز دولةٍ مترهّل، أو إلى عاطلين عن العمل، أو إلى عاملين بعقود هشة وموسمية، كل ذلك أعاد تشكيل الخريطة الطبقية.
الطبقة العاملة الصناعية الكلاسيكية تراجعت كمّاً ونوعاً. حلّت محلّها كتلة واسعة من العاملين في الخدمات، والقطاعات الهشة، والاقتصاد غير المنظّم، إلى جانب عشرات الآلاف من خرّيجي الجامعات العاطلين، وفقراء المدن، وشرائح ريفية اقتُلعَت من العلاقة الحيّة مع الأرض.
هذه الكتلة، التي يمكن وصفها بالبروليتاريا المهدَّدة، تعيش بلا ضمان، بلا استقرار شغلي، بلا أفق، وبلا أدوات تنظيم، لكنها في الوقت نفسه الحامل الاجتماعي الموضوعي لأي حركة تحرّر طبقي في الظروف الحالية، إذا ما توفرت لها قيادة وبرنامج وأدوات تنظيم.
أمّا الفلاحون، فقد تحوّل جزء كبير منهم إلى ملحقين باقتصاد العشيرة والسلاح والتجارة غير المشروعة، أو إلى فقراء مدنٍ جدد، بعد أن أفرغت السياسات الزراعية المتخبطة الريف من الإنتاج ومن الكرامة معاً.
الطبقة الوسطى تآكلت؛ جزءٌ منها اندمج في جهاز الدولة الإداري بأجورٍ تتآكل مع التضخم، وجزءٌ آخر هاجر، وجزءٌ ثالث يعيش انقساماً بين ثقافة مدنية نسبية وبين واقعٍ يفرض عليه ممارسات زبائنية–طائفية.
إنّ نظام «المكوّنات» الذي ثُبّت في دستور 2005 لم يهبط من السماء، بل بُني على تاريخ طويل من انعدام الثقة بين القوى الاجتماعية–السياسية الرئيسة في العراق، واستثمرته قوى الاحتلال بوعيٍ كامل لتحويله إلى بنية حكم دائمة.
الأكراد، الذين عاشوا عقوداً من التنكّر والاضطهاد والقصف، دخلوا الحقبة الجديدة بذاكرةٍ مثقلة وبقيادةٍ حزبية–عشائرية ترى في كلّ مركزٍ عراقي خطراً محتملاً، فاختارت أن تبني في الإقليم سلطة برجوازية خاصة بها، تتقاسمها عشيرتان وحزبان، يناوران بين بغداد وأنقرة وطهران وواشنطن وأربيل–السليمانية، لضمان استمرار امتيازاتهما في المال والسلاح والأرض.
الشيعة، الذين تعرّضت أحياؤهم وحركاتهم وقواهم السياسية لعقود من القمع والملاحقة والاستخفاف، دخلوا مرحلة ما بعد 2003 وهم يحملون شعوراً حقيقياً بالمظلومية، وجاءت غالبية قوى المعارضة — الدينية واليسارية والشيوعية — من صفوفهم. غير أن هذا الشعور، بدلاً من أن يُترجم إلى مشروع دولة مواطنة وعدالة اجتماعية، جرى تحويله إلى رأسمال سياسي بيد أحزابٍ دينية–ريعية ادعت تمثيل «الأغلبية»، واستخدمت لغة المظلومية لتبرير قيام نظام محاصصة طائفية، لا نظام مواطنة متساوية.
أمّا السنّة العرب، فقد انتقلوا من موقع الهيمنة التاريخية على جهاز الدولة — جيشاً وأمناً وبيروقراطيةً — إلى موقع «الشريك المقنّن» في غنيمة السلطة داخل منظومة المحاصصة. هذا الانتقال من مركز السيطرة إلى موقع المشاركة المنضبطة ولّد شعوراً عميقاً بالخسارة، جرى التعبير عنه بخطاب «التهميش» و«استعادة الدور»، واستغلّته قوى إقليمية وبقايا النظام السابق وجماعات جهادية–سلفية لإشعال دورات متتالية من التمرّد والحرب الأهلية.
بهذه الطريقة تحوّل انعدام الثقة التاريخي بين الأطراف إلى أساسٍ لنظام الحكم نفسه؛ فأضحى العراق يُدار كسوق دائمة للمساومة بين «مكوّنات» متشاكسة، لكل منها ذراع حزبية ومالية ومسلّحة وإعلامية، بدل أن يُبنى كدولة مواطنة موحّدة تستند إلى مصالح طبقية مشتركة للكادحين من كلّ القوميات والطوائف. 6. الريع، والاستهلاك، والهاوية الممكنة
المجتمع الذي يعيش على الريع وحده يتحوّل تدريجياً إلى مجتمع استهلاكي لا إنتاجي، وإلى كتلة من السكان تُقاس العلاقة بينهم وبين الدولة بكمية ما يتلقونه من رواتب وتحويلات ودعم، لا بموقعهم في عملية الإنتاج.
الاقتصاد العراقي اليوم معرَّضٌ لهزّة كارثية عند أي انهيار كبير في أسعار النفط. الذاكرة القريبة تحمل أكثر من إنذار: انهيار أسعار منتصف الثمانينيات، سنين الحصار، صدمة 2014، ثم أزمة 2020 مع جائحة كورونا.
السؤال ليس نظرياً: ماذا سيحدث لو هبط سعر البرميل إلى خمس دولارات أو عشرة؟ أي موارد ستبقى لدولة تعتمد في أكثر من تسعين بالمئة من إيراداتها على النفط؟ كيف ستدفع رواتب موظفيها؟ وكيف ستحافظ على بقايا الخدمات؟ وكيف ستدير مجتمعاً تعوّد على الاستهلاك من دون إنتاج؟
إنّ دولةً كهذه تشبه جسداً مربوطاً بجهاز تنفس خارجي؛ أي انقطاع طويل في التيار يعني الموت السريري. ولهذا فإنّ الحديث عن «إصلاح» داخل بنية كهذه، من دون مساس بجذر الريع، يبقى أقرب إلى إدارة أزمة لا إلى حلّها.
7. الدولة أم اللا–دولة؟
منظومات العقاب المتوازية
غياب دولة قانون حديثة فتح الباب أمام ثلاث منظومات عقابية موازية:
منظومة العشيرة وسلطة «الفصل» ومجالس الصلح العرفية، ومنظومة المؤسسة الدينية، التي تتحول فيها الفتوى والخطاب المنبري إلى سلطة فعلية على حياة الناس وسلوكهم، ومنظومة الفصائل المسلحة التي تمارس الردع والإنفاذ بقوة السلاح، خارج أي رقابة قضائية أو سياسية حقيقية.
وجود هذه المنظومات الثلاث لا يعني بالضرورة اختفاء الدولة؛ لكنه يعني شيئاً أكثر خطورة: تفكّك مفهوم الدولة الحديثة في الوعي والممارسة. المواطن لا يعود يرى في القضاء والقانون والمؤسسات الرسمية مرجعه الأخير، بل يلجأ إلى شيخ العشيرة أو رجل الدين أو صاحب النفوذ المسلّح.
وهكذا يتآكل مفهوم المواطنة ويُستبدل بمفاهيم القرابة والانتماء الطائفي والولاء العنفي، وتفقد فكرة «العقد الاجتماعي» أي مضمون واقعي.
إعادة بناء الدولة لا تعني تغيير حكومة بحكومة، بل استعادة احتكار العنف لصالح القانون، وإعادة الاعتبار لقضاءٍ مستقل، وقوانين وضعية علنية، ومنظومة حقوق لا تسمح للعشيرة أو رجل الدين أو حامل السلاح أن يحلّ محلّها.
8. أزمة الحركة الشيوعية واليسار: من الانخراط إلى الذوبان
أمام هذه اللوحة، لم يكن اليسار العراقي — وفي قلبه الحزب الشيوعي — بمنأى عن الانهيار البنيوي. الهجمات المتكررة، المنافي، الانشقاقات، الأحكام القاسية، ضياع الكوادر، كل هذا أثّر في العمق، لكنّ اللحظة الفاصلة جاءت مع الانخراط غير المشروط في «العملية السياسية» بعد 2003، تحت عناوين براغماتية متعددة.
اختُزل التحليل الطبقي إلى لغة عامة عن «الفساد» و«سوء الإدارة»؛ استُبدلت الطبقة العاملة بالمفهوم الفضفاض لـ«القوى المدنية»؛ جرى التعامل مع الدستور بوصفه حقيقة ثابتة لا ينبغي المساس بجوهره؛ تقدّم خطاب الحقوق المدنية والشخصية على خطاب التحويل الاقتصادي–الاجتماعي؛ وتحوّل التنظيم شيئاً فشيئاً إلى جهاز فوقي، يعيش في عوالم الانتخابات، والبيانات، والتحالفات، أكثر مما يعيش في عالم العمال والفلاحين وفقراء المدن.
ليس جوهر المسألة في خطأ تكتيكي هنا أو تحالف هناك؛ بل في ترك المنهج الماركسي لصالح خليطٍ من المقولات الليبرالية–المدنية، التي ترى المشكلة في «سوء إدارة السلطة» لا في طبيعتها الطبقية، وفي «الفساد» لا في الريع، وفي «المحاصصة» لا في النظام الذي يجعل المحاصصة شرطاً لبقائه.
9. عن الخطابات الإصلاحية الشائعة
السنوات الماضية شهدت ظهور موجة من الخطابات التي تتحدث عن «مراجعة داخلية»، و«تنشيط العمل الميداني»، و«الانفتاح على قوى اليسار»، و«إقامة تحالفات وطنية واسعة»، إلخ. هذه الطروحات تبدو مقبولة في ظاهرها، بل قد تلامس شعوراً عاماً بالحاجة إلى شيء جديد.
لكن المشكلة ليست في النيات، بل في حدود الرؤية.
حين يُصوَّر الانهيار الحالي بوصفه حصيلة «ضعف في الأداء»، أو «تقصير تنظيمي»، أو «أخطاء في القيادة»، أو «غياب المبادرات»، فإنّ ذلك يعني حصر أزمة تاريخية معقّدة في إطارٍ إداري–نفسي ضيّق.
المسألة أبعد بكثير: الأزمة هي نتيجة طبيعيّة لانفصال الحركة الشيوعية عن قاعدتها الطبقية، وذوبانها في لغة المجتمع المدني، وإدارة سياسةٍ يومية داخل نظامٍ لا يمكن إصلاحه من الداخل لأنه مبنيٌّ على منع الإصلاح.
من دون تحليل طبقي لطبيعة الدولة بعد 2003، من دون نقد جذري لدستور 2005 بما هو عقد مكونات لا عقد مواطنين، من دون مواجهة صريحة منظومة الريع والسلاح والطغمة المالية–الفصائلية، تبقى كل دعوات «التنشيط» و«التطوير» مجرّد تحسين لشكل الدوران داخل حلقة مفرغة.
10. الدستور، الفدرالية، والمواطنة
من الضروري العودة إلى سؤال الدستور لا لتمزيقه خطابيّاً، بل لفهم جوهره:
هل ما هو قائمٌ اليوم فدرالية ديمقراطية حقيقية، أم كونفدرالية رخوة بين مركزٍ ضعيف وأقاليم وكيانات و«مناطق متنازع عليها»؟ هل هو دولة واحدة بمواطنة متساوية، أم بنية مفتوحة لاحتمالات التقسيم الناعم إلى ثلاث وحدات كبرى على الأقل؟ من الذي يدفع، موضوعياً، باتجاه هذا الخيار؟
اللغة التي صيغ بها الدستور، والممارسات التي تلت، تشير إلى أنّ الخطر ليس احتمال التقسيم فحسب، بل أخطر منه: تطبيع الوعي العام على قبول فكرة أنّ العراق «مجموعة مكوّنات» يمكن في أي وقت إعادة ترتيب علاقتها على شكل انفصال أو كونفدرالية أو أقاليم متنازعة، حسب ميزان القوى الإقليمي والدولي.
خطاب المواطنة الحقيقية غاب تقريباً؛ حلّ محله خطاب «حماية حقوق المكوّن»، و«ضمان تمثيل المكوّن»، و«استحقاق هذا المكوّن أو ذاك». في ظل هذا الخطاب يصبح من الطبيعي أن تذوب الهوية العراقية الجامعة، وأن يفقد المواطن فخره بقول: «أنا عراقي» قبل أي صفة أخرى.
البديل ليس شعاراً وطنوياً إنشائياً، بل عقداً دستورياً جديداً يعيد تعريف الدولة على أسس: سيادة وطنية كاملة غير منقوصة، مواطنة متساوية بلا تمييزٍ ديني أو طائفي أو قومي، نظام جمهوري ديمقراطي اجتماعي، اقتصاد منتج يخضع لرقابة المجتمع، وقضاء مستقل لا يخضع لعشيرة أو مرجعية أو حامل سلاح.
11. ما العمل؟ خطوط لمسارٍ مفتوح
لا توجد وصفة جاهزة، ولا خطة يمكن أن تخرج من مكتب وتُفرض على مجتمع حيّ. لكن يمكن وضع ملامح لمسارٍ تاريخي ينبغي أن يُفتح للنقاش بين كل الشيوعيين، واليساريين، والمناضلين من أجل العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية.
أول هذه الملامح هو العودة إلى التحليل الطبقي بوصفه الأداة الوحيدة القادرة على كشف ما يستتر خلف اللغات الهويّاتية: من هي الطبقة التي تحكم فعلياً؟ كيف تُنتج ثروتها؟ ما علاقتها بالاحتلال وبالإقليم وبالرأسمال العالمي؟ كيف تستخدم الدين والعشيرة والإعلام لإدامة سيطرتها؟ وأين تقف الطبقة العاملة بكل تلويناتها الجديدة في مواجهة هذه الطبقة؟
الملمح الثاني هو إعادة وصل الحركة الشيوعية بالقاعدة الاجتماعية الحقيقية للكادحين اليوم: عمال الموانئ، عمال الخدمات، سائقو النقل، موظفو الدرجات الدنيا، المعلمون والممرضون والعاطلون عن العمل، النساء العاملات في الظل، الشباب المحاصر بين البطالة والهجرة والمخدرات، وفقراء الأحياء الشعبية في بغداد والبصرة والموصل والسليمانية والناصرية، وكركوك، وسائر المدن، والبلدات.
الملمح الثالث هو بناء تنظيم من القاعدة، لا من الأعلى؛ تنظيمٌ لا يكتفي بالمقرّات والبيانات، بل يعود إلى الخلية في الحيّ، في مكان العمل، في الجامعة، في القرية؛ تنظيمٌ يجعل من التثقيف الماركسي جزءاً من الحياة اليومية، لا درساً نظرياً معزولاً؛ تنظيمٌ يتعلم من الناس بقدر ما يعلّمهم، ويصغي إلى خبرتهم بقدر ما يقدّم تحليله.
الملمح الرابع هو الموقف من الدولة القائمة: لا يمكن لحركة تحرّر طبقي أن تقبل بأن تكون جزءاً من نظامٍ طائفي–فصائلي–ريعي، ولا أن تبرر وجودها عبر حصةٍ في برلمان أو مجلس محافظة. المطلوب موقفٌ مستقل جذري، يفتح أفق تغييرٍ دستوري–سياسي–اقتصادي، لا إصلاحٍ تجميلي داخل هندسة صُمِّمت لمنع التغيير.
الملمح الخامس هو إعادة الاعتبار لوحدة النضال من أجل: الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية، والسيادة الوطنية، بوصفها أوجهًا لجوهر واحد: كسر سلطة الطغمة المالية–الفصائلية التي تحكم باسم «المكوّن» وتنهب باسم «المظلومية» وتُخضِع باسم «الأغلبية» أو «الهوية».
12. خاتمة: الطبقة قبل الحزب، والإنسان قبل الشعار
جوهر ما تطرحه هذه الوثيقة، مع الوثيقة المركزية، هو إعادة ترتيب الأولويات: الطبقة قبل الحزب، الإنسان قبل الشعار، المواطنة قبل المكوّن، العمل قبل الخطاب، والتحرّر قبل الاصطفاف مع أي محور أو دولة أو قوة خارجية.
من دون وعي طبقي لا معنى لليسار. ومن دون حركةٍ من أجل العدالة الاجتماعية لا معنى للشيوعية. ومن دون دفاعٍ عن السيادة الوطنية لا معنى لأي حديث عن الحرية.
الأزمة التي يعيشها العراق اليوم ليست قدراً، بل نتيجة مسارٍ تاريخي يمكن قلبه. لن يكون بيد الطبقة المالية–الريعية–الفصائلية التي صنعته، ولا بيد «إصلاحات» داخل القفص ذاته، بل بيد طبقةٍ كادحة تستعيد وعيها بذاتها، وتنظّم صفوفها، وتبني أدواتها السياسية الجديدة.
إنّ التناقضات داخل الكتلة الطبقية الحاكمة — بين أجنحتها الحزبية، والإقليمية، والفصائلية، والبيروقراطية — ليست فرصة للاحتماء بجناحٍ ضد آخر، بل مجالٌ لكشف جوهر النظام أمام الجماهير وتوسيع هامش حركة الطبقة الكادحة. فالتقليد الماركسي لا يرفض استخدام تناقضات الخصوم، لكنه يرفض أن تتحوّل الحركة العمالية إلى ذيلٍ لأي جناح منهم.
هنا فقط يصبح لسؤال «ما العمل؟» معنى حقيقي، ويصبح للوثيقة المركزية، وللنصّ المكمِّل لها، دورهما: أن يكونا أحد المفاتيح لا القفل، وأحد منطلقات النقاش لا نهايته، وأحد أصوات المستضعَفين في هذا البلد، الذين لم يتكلم أحد باسمهم بحق، منذ زمنٍ طويل.
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا يريد الشيوعيون؟
-
الوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق - يا شيوعي
...
-
لماذا خسر الحزب؟ وما الذي يجب فعله الآن؟
-
العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية د
...
-
أوقفوا الإبادة فورًا: الشعب الفلسطيني يقرر
-
الاعتراف الغربي بدولة فلسطين و”مشروع ترامب للسلام”: تحليل ما
...
-
التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
-
من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
-
قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
-
الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
-
هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
-
الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
-
التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض
...
-
تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية
...
-
الحرية لا تُنتزع بالخطب، بل بالسلطة الطبقية الواعية
-
الاشتراكية والثورة: هل يمكن التحرر دون سلطة؟ رد على أحمد الج
...
-
نحو الأممية الشبكية والتنظيم الافقي في الحزب الشيوعي: منهجية
...
-
من الدولة إلى التنظيم الطبقي: في الرد على أطروحات أحمد الجوه
...
-
نحو تجديد ماركسي-لينيني يتجاوز المأزق اللاسلطوي - رد على أحم
...
-
النهج التجديدي في الماركسية واللينينية: قراءة جدلية نقدية في
...
المزيد.....
-
روسيا تعلن وفاة سفيرها في كوريا الشمالية ألكسندر ماتسيغورا
-
-جزر صخرية- تمتد وسط سهول السافانا الشاسعة بأنغولا.. ما سرها
...
-
من السلطعون إلى الماريغوانا.. إحباط عملية تهريب غريبة بطائرة
...
-
الإمارات تدعم بـ550 مليون دولار خطة الاستجابة الإنسانية لـUN
...
-
لماذا تمتلك القطط قدرة عجيبة على التنبؤ بالطقس؟
-
مباشر: أوكرانيا تستعد لطرح نسختها المعدلة من خطة السلام على
...
-
المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو تغيب عن حفل تسلم جا
...
-
أميركا تحقق في وفيات يشتبه بارتباطها بلقاحات كورونا
-
الكونغرس يصوت اليوم لإلغاء عقوبات -قيصر- عن سوريا
-
مقاتلتان أميركيتان تقتربان من أجواء فنزويلا بشكل غير مسبوق
المزيد.....
-
قراءة في تاريخ الاسلام المبكر
/ محمد جعفر ال عيسى
-
اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات،
...
/ رياض الشرايطي
-
رواية
/ رانية مرجية
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
المزيد.....
|