أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - حارس الإشارة والوادي الصامت: عزلة الوعي في متاهة الحداثة














المزيد.....

حارس الإشارة والوادي الصامت: عزلة الوعي في متاهة الحداثة


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 00:59
المحور: الادب والفن
    


تأمل في قصة "The Signalman" لتشارلز ديكنز
"الوحدة هي أكثر الأماكن ازدحاماً." ميشيل دي مونتين
في أعماق واد مظلم، حيث لا يخترق الضوء إلا بصعوبة، ولا يُسمع إلا صرير القطارات المسرعة، يجلس رجل وحيد على حافة الزمن: الحارس. ليس مجرد موظف يراقب السكة الحديد، بل هو رمز للكائن البشري المعذب بوعيه، المنبوذ في زاوية من العالم لا يزورها أحد، يُناجي خواطره، ويصارع ظلالاً لا يراها سواه. في هذه القصة (1866)، لا يكتفي ديكنز برسم لوحة غوثيكية من الرعب النفسي، بل يغوص في أعماق العزلة الوجودية—العزلة التي لا تكمن فقط في الوحدة الجغرافية، بل في انفصال الذات عن العالم، وعن الآخر، بل وحتى عن ذاتها.
"كل إنسان محكوم عليه بالحرية؛ هذه الحرية تظهر في الفراغ الذي يتركه الآخرون في حياتنا."، جان بول سارتر
يقدم ديكنز شخصية الحارس ككائن منفرد في عالمه الضيق، حيث تحيط به التضاريس الطبيعية كسجن غير مرئي. هذه العزلة المكانية تصبح مرآة للعزلة النفسية التي يصفها الفيلسوف الوجودي. في انعزاله، يواجه الحارس حريته المطلقة في تفسير العلامات الغامضة التي تصل إليه، لكن هذه الحرية نفسها تصبح مصدرًا للرعب. إنه مسجون في فضاء رمزي تتلاشى فيه الحدود بين الذاتي والموضوعي.
"نحن محكومون بالوحدة لأننا لا نملك جسدًا واحدًا." إميل سيوران
ويُبرز العمل فشل التواصل المتكرر: الراوي يحاول فهم رواية الحارس، والحارس يحاول تفسير إشارات الشبح، والشبح نفسه يبدو عاجزًا عن نقل رسالته بوضوح. هنا تتجلى العزلة الديكنزية كما وصفها سيوران: حتى عندما يحاول الآخرون الوصول إلينا، تظل هناك هوة لا تجسر بين الذوات.
رغم دقة وعيه وثقافته، يعيش الحارس حالة من الانفصام بين العقل والواقع. يرى رؤى لا يفهمها، ويردد نداءً بلا مصدر: "انتبه! احترس!"، وكأن الصوت ينبع من أعماق وعيه المثقل بالرعب والتشاؤم. هنا نستدعي صرخة سيوران: "الوجود صرخة بلا مصدر، وانعكاس بلا مرآة". الحارس يصرخ، لكن لا أحد يسمع؛ يرى، لكن لا أحد يصدق. يعيش في فجوة بين الحواس والعقل، بين الواقع والكابوس—فجوة لا يعبرها سوى من فقد الأمل في الاتصال.
وفي عزلة جسده، تتضاعف عزلة معرفته. يدرك المستقبل قبل حدوثه، لكنه عاجز عن تغييره. هذا التناقض الفاجع، البصر دون القدرة، يذكرنا بتيتوس ليفيوس: "القدر لا يخبر، بل يُفرض". أكثر من ذلك، يشير إلى مأساة الإنسان الحديث: امتلاك أدوات المعرفة دون القدرة على التأثير. العزلة ليست غياب الآخر فحسب، بل غياب الفاعلية.
عبر عدسة هايدغر، يظهر الحارس مثالاً حيا للكيان "الملقى" (Geworfenheit)—كيان أُلقي في عالم لا يفهم قوانينه، يبحث عن معنى في بيئة تفتقر إلى التواصل الإنساني الحقيقي. القطارات، رمز التقدم الميكانيكي، تمر كخيال، لا تتوقف، ولا تصغي. حركة بلا رحمة، زمن ميكانيكي يدوس على الزمن الإنساني. هنا يصبح الحارس ضحية الحداثة، كما لاحظ تشيزاره بافيزي: "تنتج البشر ولا تنتج الإنسان". تنبأ ديكنز قبل قرن ونصف بعزلة الإنسان في مواجهة التقدم التكنولوجي، مقدما رؤية استباقية تتنبأ بنقد معاصر للعالم الحديث: التقدم لا يقضي على العزلة بل يعيد تشكيلها. وكما لاحظت شيري توركل: "كلما زاد اتصالنا، زادت وحدتنا".
"الوحدة هي الصديق الوحيد للعقل العظيم." آرثر شوبنهاور
يقدم ديكنز العزلة كحالة تسمح بظهور أنماط غير عقلانية من التفكير. في عزلة الحارس، يصبح حساسًا بشكل مفرط للعلامات والرموز. هذا يتناغم مع ملاحظة باسكال: "كل شقاء الإنسان ينبع من عدم قدرته على الجلوس بهدوء في غرفة بمفرده". لكن ديكنز يعكس الحقيقة العكسية: القدرة على الجلوس بمفردنا تكشف حقائق مقلقة لا يراها المنخرطون في العالم.
"الوحدة تخلق الأصالة الأصلية، في خوفنا ورعبنا." كارل يونغ
تدفعنا القصة للتساؤل: هل العزلة تكشف مصيرنا أم تصنعه؟ الحارس يصبح مهووسًا بالإشارات التي تتجاهله. هل هي تنبؤات حتمية أم انعكاسات لاضطرابه النفسي؟ هنا يلمس ديكنز فكرة يونغ عن اللاوعي الجمعي والأشكال النمطية التي تظهر في حالات العزلة والقلق.
"ليس هناك من هو أكثر وحدة من الإنسان الذي يحب الجميع." فريدريك نيتشه
تظهر العزلة في القصة كشَرط مزدوج: تفسد العقل وتدفعه للهلاوس، وفي الوقت نفسه تمنح رؤية خاصة للحقائق غير المتاحة للجماهير. ديكنز لا يحسم المعضلة، بل يتركها معلقة للتأمل.
يموت الحارس كما رآه في رؤياه: بلا إنذار فعال، بلا نجدة. لكن موته ليس نهاية القصة، بل قمّتها الفلسفية. يثبت أن العزلة تقتل حتى وسط الحركة، وأن الإنسان مهما امتلك من يقظة عقلية يظل عرضة للانطفاء إذا لم يُصادق، ولم يُسمع، ولم يُؤخذ على محمل الجد. وكما قال سارتر: "الجحيم هو الآخرون"، لكن ديكنز، بتمرد أدبي عبقري، يعيد الصياغة: "الجحيم هو غياب الآخرين".
في The Signalman، لا يروي ديكنز حكاية رعب فحسب، بل يقدم تشريحًا وجوديًا للإنسان الحديث: يعيش في صمت وسط الزحام، يتأمل المصائر بلا قدرة على تغييرها، يتوق إلى الصوت البشري في عالم يُصم آذانه بالحديد والسرعة. الدرس الأعظم هنا ليس في الرؤى الخارقة، بل في العزلة التي تسبق الموت—عزلة لا تشفى بالكلمات، بل بالوجود المشترك، والاعتراف المتبادل، وربما، بلحظة قصيرة، بقطار يتوقف.
إن دراسة العزلة في الأدب لا تقتصر على وصف حالة اجتماعية أو نفسية، بل تصبح مرآة للعلاقة بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان والعالم. وفي أعمال تشارلز ديكنز، تتجلى العزلة كعنصر مركزي في رسم الشخصيات وصراعها الداخلي مع المجتمع، حيث تكشف الطبيعة الإنسانية في أبعادها الأخلاقية والفكرية.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رعب التحول: قراءة مع هودجسون*
- حين يتكلم الجمهور: من لوبون إلى شكسبير إلى يومنا
- بين العزلة والنداء: اختبار وجود
- النهر الذي لم نعبره مرتين: قراءة في قصة نجيب محفوظ -نصف يوم-
- وجهان للحرية: صمت المعرفة وضجيج الواقع
- الكلب*… ذلك المخلوق الذي أحبنا أكثر مما نستحق
- الخوف لا يخلق الإنسان السوي: بين الوازع الداخلي وسلطة الخارج
- تبنى المدن وتترك العقول خرابا
- هل نملك الشجاعة لمراجعة ثقافتنا السائدة؟
- مهرجان الحنفية: مسرحيات الفشل في الأنظمة الديكتاتورية
- كلمات من القلب
- ما لا يعود
- بين ناطحات السحاب وسحابات الدم: هل أصبح التقسيم مصيرا محتوما ...
- الدين لله والوطن للجميع: رؤية في السياق السوري*
- العدو الذي لا نعرفه: التأمل في الصراع الداخلي عبر Face/Off-
- سوريا ليست لفئة واحدة، بل تعددية جميلة لا تُستبدل
- ورقة خريفية في مهب الوجود
- بين ديكنز والخلود: حين يشيخ الزمن ولا نزال نحلم بالشباب
- الماضي بوابة للتأمل… والمستقبل أفق للخلق
- بين الحلم والهيمنة....نحن هنا


المزيد.....




- الأونروا تطالب بترجمة التأييد الدولي والسياسي لها إلى دعم حق ...
- أفراد من عائلة أم كلثوم يشيدون بفيلم -الست- بعد عرض خاص بمصر ...
- شاهد.. ماذا يعني استحواذ نتفليكس على وارنر بروذرز أحد أشهر ا ...
- حين كانت طرابلس الفيحاء هواءَ القاهرة
- زيد ديراني: رحلة فنان بين الفن والشهرة والذات
- نتفليكس تستحوذ على أعمال -وارنر براذرز- السينمائية ومنصات ال ...
- لورنس فيشبورن وحديث في مراكش عن روح السينما و-ماتريكس-
- انطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي تحت شعار -في حب السينما ...
- رواية -مقعد أخير في الحافلة- لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام ...
- الخناجر الفضية في عُمان.. هوية السلطنة الثقافية


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - حارس الإشارة والوادي الصامت: عزلة الوعي في متاهة الحداثة