أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - حين يتكلم الجمهور: من لوبون إلى شكسبير إلى يومنا














المزيد.....

حين يتكلم الجمهور: من لوبون إلى شكسبير إلى يومنا


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8546 - 2025 / 12 / 4 - 18:47
المحور: قضايا ثقافية
    


وصلني فيديو تتحدث فيه سيدة عن ثقافة الجمهور وتستوحي تحليلاتها عن مناخنا السياسي من غوستاف لو بون، وهذا ذكرني بالكتاب نفسه، فأردت أن أستعيد معكم أصدقائي بعضا من أفكاره العامة. كان لوبون يرى أن الإنسان يتغير تماما حين يتحول من فرد مستقل إلى جزء من جمهور؛ إذ يبدأ شيء يشبه الذوبان في الجماعة، فيتراجع صوته الداخلي لصالح النبض الجمعي، وتظهر في سلوكه جرأة أو اندفاع لم يكن ليظهرهما منفردا. ويعتقد لوبون أن الجماهير كائن عاطفي أكثر منه عقلي، وأن الانفعال هو المحرك الأول لسلوكها، ولذلك تكون أكثر قابلية للتأثر بالصور والشعارات والرموز مما هي بالحقائق أو الاستدلالات الهادئة. ومن الظواهر التي ركز عليها مفهوم العدوى النفسية، حيث ينتقل الشعور أو الانفعال عبر الحشد بسرعة لا تحتاج إلى تفسير منطقي، وكأن الجمهور يمتلك عقلا واحدا لحظيا. ويشبه لوبون هذه الحالة بنوع من التنويم الجماعي المؤقت الذي يُضعف الإرادة الفردية ويزيد قابلية الأفراد للاستجابة، ولذلك تظهر أهمية القائد الذي يجيد مخاطبة العاطفة وتحويل الأفكار إلى صور بسيطة مؤثرة. ومع ذلك، كان لوبون يؤكد أن الجماهير يمكن أن تكون نبيلة أو مدمرة بالقدر نفسه؛ فهي قادرة على البطولة كما هي قادرة على الانفعال والعنف، وما يحدد الاتجاه ليس طبيعة أفرادها بقدر ما هو الظرف الجمعي الذي يلتقون فيه. ربما تغيرت الوسائط اليوم، من الساحات إلى الشاشات، لكن كثيرا مما قاله لوبون ما زال يفسّر هذه الظواهر ويضيء ذلك التحول الغامض من "أنا" إلى "نحن".
وما كتبه لوبون يجد مثالا بالغ الوضوح في أحد أشهر مشاهد شكسبير في مسرحية يوليوس قيصر. بعد اغتيال قيصر، يقف بروتس أمام الجمهور الروماني، متحدثا بثقة العالم بعدالة قضيته. يخاطب عقول الحاضرين، لا عواطفهم، مؤكدا أن قتله لقيصر لم يكن كراهية له، بل حبا لروما وخوفا من طغيان يهدد جمهوريتها. ينصت الجمهور إليه ويصدق منطقه، وتهدأ نفوسهم تدريجيا حتى يصلون إلى قناعة بأن بروتس رجل شريف، وأن فعله كان ضرورة سياسية. هنا نرى الجمهور في لحظة استعداد للتأثر، عقلانيّة ظاهرية لكنها قابلة للانقلاب بسهولة.
ثم يصل مارك أنتوني، في واحد من أذكى مشاهد البلاغة في الأدب العالمي. يبدأ حديثه بتواضع متعمد، مؤكدا أنه جاء ليدفن قيصر لا ليمدحه، وأنه لا ينوي معارضة بروتس "الشريف". لكنه يبدأ بلمسات صغيرة على وتر العاطفة: يذكر الناس بمآثر قيصر، بدموعه حين رأى فقراء روما، وبإنجازاته العسكرية، وبمواطن الخير التي تجاهلوها في لحظة غضب. ثم يستخدم تقنية تكرار الجملة الشهيرة: «وبروتس رجل شريف» بطريقة تجعلها تتحول تدريجيا من إقرار إلى سخرية، ومن سخرية إلى اتهام مبطن. هذه اللمسات تحرك الجمهور من منطقة التفكير إلى العاطفة، ومن الهدوء إلى الغليان. وما إن يعرض عليهم قميص قيصر المثقوب بالطعَنات، حتى تشتعل العدوى النفسية التي تحدث عنها لوبون، وينقلب الجمهور كليا على القتلة الذين قبل دقائق كانوا يصفقون لهم. يصبح الحشد كائنا جديدا، بذاكرة قصيرة وقلب سريع الاشتعال، ويخرج الناس في حالة هياج كامل يطالبون بالانتقام.
هذا المثال الشكسبيري لا يُظهر فقط مهارة الكاتب في تصوير الجمهور، بل يقدم تجسيدا دقيقًا لفكر لوبون: الجمهور يتحرك بالرموز والصور، يصدق الانفعال أكثر من الحجة، ويحتاج إلى قائد يتقن لغة العاطفة ليقوده. في دقائق معدودة، رأينا كيف تتبدل القناعة من النقيض إلى النقيض، وكيف يتحول الجمهور نفسه من مؤيد لبروتس إلى آلة غضب في يد مارك أنتوني. وما يهم هنا ليس أخلاق الجمهور، بل تلك القدرة الغامضة للتجمع البشري على أن يتنفس بعقل واحد، ويشعر بشعور واحد، ويتحرك باتجاه واحد بمجرد أن يجد الخطاب الذي يوقظ فيه تلك الطاقة الكامنة.
هكذا يلتقي شكسبير مع لوبون عبر قرون، ليقولا الشيء نفسه: إن الجماهير لا تُفهَم بالعقل وحده، بل بالعاطفة والخيال، وباللحظة التي يصبح فيها الفرد جزءا من موجة أكبر منه.
ومع هذه الأمثلة، من صفحات شكسبير إلى صفحات لوبون، يبدو أن الجماهير لم تتغير كثيرا. فما دامت تتنفس بالعاطفة قبل العقل، وتتحرك بدافع اللحظة لا بدافع المصلحة، فإنها كثيرا ما تنساق لما يشبه "نَفَس القطيع" الذي يجعلها تهتف بما يناقض أحيانا أبسط حقوقها، وتدافع عمّن يضرّها، وتعارض ما ينفعها. فالجمهور ــ كما يظهر في المشهدين الشكسبيريين وكما وصفه لوبون ــ قادر على أن ينسى ذاته حين ينغمس في موجة جماعية، فيتخذ مواقف لا تشبهه ولا تشبه مصالحه، بل تشبه تلك القوة الغامضة التي تجتذب الحشود حين يختلط الخيال بالغضب، والرمز بالعاطفة. وهكذا يتجدد المشهد في أكثر من مكان، ولا سيما في البيئات التي يضعف فيها الوعي الثقافي وتفقد فيها الكلمات معناها الحقيقي، فتتحول الشعارات إلى سحر سريع، والخطاب إلى أداة قيادة عمياء. لذلك قد يبدو شكسبير كاتب اليوم، ولوبون محللا لظواهر الساعة، لأن ما وصفاه من حركة الجماهير ليس تاريخا مضى، بل ظلا يرافقنا كلما ارتفعت الضوضاء وانخفضت البصيرة.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين العزلة والنداء: اختبار وجود
- النهر الذي لم نعبره مرتين: قراءة في قصة نجيب محفوظ -نصف يوم-
- وجهان للحرية: صمت المعرفة وضجيج الواقع
- الكلب*… ذلك المخلوق الذي أحبنا أكثر مما نستحق
- الخوف لا يخلق الإنسان السوي: بين الوازع الداخلي وسلطة الخارج
- تبنى المدن وتترك العقول خرابا
- هل نملك الشجاعة لمراجعة ثقافتنا السائدة؟
- مهرجان الحنفية: مسرحيات الفشل في الأنظمة الديكتاتورية
- كلمات من القلب
- ما لا يعود
- بين ناطحات السحاب وسحابات الدم: هل أصبح التقسيم مصيرا محتوما ...
- الدين لله والوطن للجميع: رؤية في السياق السوري*
- العدو الذي لا نعرفه: التأمل في الصراع الداخلي عبر Face/Off-
- سوريا ليست لفئة واحدة، بل تعددية جميلة لا تُستبدل
- ورقة خريفية في مهب الوجود
- بين ديكنز والخلود: حين يشيخ الزمن ولا نزال نحلم بالشباب
- الماضي بوابة للتأمل… والمستقبل أفق للخلق
- بين الحلم والهيمنة....نحن هنا
- -طلّقني!-
- سألتنا كولا إن كنّا سنعود... فبكى البحر قبلنا


المزيد.....




- أسرار تقديم الهدايا: نصائح مثاليّة من مصممة شهيرة
- رئيس وزراء العراق يُعلّق على -خطأ- تصنيف حزب الله اللبناني و ...
- هل لعب -الزيّ النازي- دورًا في مراكمة ثروة -هوغو بوس-؟
- روبوتات مدعومة بالذكاء الاصطناعي في طوكيو تستعرض ابتكارات تق ...
- في زيارة هي الأولى من نوعها.. وفد من مجلس الأمن في سوريا
- أبواب أمريكا المغلقة.. هل يتلاشى حلم الشباب العربي بالهجرة ب ...
- الجيش الإسرائيلي يهاجم -أهدافاً- لحزب الله في جنوب لبنان ويو ...
- بسبب الكيتامين.. طبيب نجم هوليوود الراحل ماثيو بيري يواجه 40 ...
- السلطات التونسية تعتقل المعارض أحمد نجيب الشابي لتنفيذ حكم ب ...
- سوريا: أول زيارة رسمية من نوعها لوفد من مجلس الأمن الدولي إل ...


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - حين يتكلم الجمهور: من لوبون إلى شكسبير إلى يومنا