|
سألتنا كولا إن كنّا سنعود... فبكى البحر قبلنا
أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 8474 - 2025 / 9 / 23 - 02:15
المحور:
الادب والفن
ذلك العام، لم يكن مجرد قرار سفر... كان هروبا رحيما من قبضة شتاء برلين الجليدي الذي لم يكتف بقضم الأصابع، بل نال من الروح نفسها، فجمدها حتى كادت تنسى كيف تنبض. احتجنا — أنا وهي — إلى مهد دافئ، إلى أحضان البحر المتوسط التي تهمس للقلوب المتعبة: "تعالي، استريحي، فأنت في حضن الأسطورة". اليونان؟ لم تكن وجهة... كانت حبا قديما، عشقته قبل أن أطأ ترابها، قبل أن أشم ملوحة هواءها، قبل أن أسمع لهجتها وهي تهمس بأسماء الآلهة. عرفتها من الأساطير، حين كنت أتخيل أثينا تطل من فوق جبل، وبوزيدون يهز رمحه في أعماق إيجة، وأفروديت تولد من زبد الأمواج... ثم عرفتها أكثر، وأعمق، وأكثر إيلاما وإشراقا، من خلال كلمات نيكوس كازنتزاكيس، ذلك الساحر الذي حول الأرض إلى قلب ينبض، والكلمة إلى دم يجري في العروق. "زوربا"... يا للهول! كم بكى قلبي معه، ورقص، وتمرد، وصلى! وكم اشتعلت روحي مع "المسيح يصلب من جديد"! كل جملة كانت تفتح لي بابا إلى عالم أشعر أنني وُلدت فيه في حياة سابقة. حتى حين قرأته يقول "قويسة المغلي"، عن الميرمية، شعرت أن رائحتها تعبق في أنفي، وأن طعمها يلسع لساني... كأن الترجمة لم تكن كلمات على ورق، بل كانت تعويذة أعادتني إلى وطن لم أولد فيه، لكنني بلا شك عشت فيه. فقررت: سأذهب. سأرى. سأشم. سألمس. طارت بنا الطائرة أولا إلى أثينا، المدينة التي تتنفس تاريخا من كل شرفة، ومن كل حجر. ومن هناك، انطلقنا بالباخرة من ميناء رافينا، إلى أندروس، أولى الجزر، وأقربها، وكأنها تمد يدها نحونا قائلة: "تعالوا، ابدأوا معي... سأكون لكم المهد". صعدنا إلى السطح، كما نصحتننا صديقة ألمانية كانت تخشى الموت أكثر مما تخشى العزلة خاصة بعد أن شاعت أخبار عن هشاشة السفن اليونانية وعدم أمانها بعد حوادث غرق السفن ذلك العام والذي سبقه، وكأن البحر قرر أن يذكرنا بأنه لا يزال إلها لا يُستهان به. وضعت الحقائب...وتركتها معهم، وتركت نفسي أمشي على متن الباخرة... أراقب الصاعدين، أتأمل البحر، أُحدق في أثينا وهي تتراجع ببطء، كأنها تلوح لنا وداعا بيد من رخام. ثم ضحكت، ضحكة صافية، حين رأيت الخنازير! نعم، خنازير بالعشرات، تتدافع بحماس غريب نحو العنبر السفلي، كأنها في رحلة حج إلى جزيرة مقدسة! كم كان المشهد سورياليا... كأن اليونان تقول لي: "لا تأخذ الحياة بجدية... حتى الخنازير هنا تعرف كيف تستمتع بالرحلة!" انطلقت الباخرة، وزمجرت بوقها كنداء قديم، وطارت النوارس حولها كأنها تبارك رحلتنا، ورسمت خلفها خطا أبيض كالحرير... فوقفت هناك، وسط الزحام، أسأل نفسي: هل هناك أحد مثلي يرى كل هذا للمرة الأولى؟ هل هناك من يشعر بكل قطرة ماء، بكل نسمة هواء، بكل نظرة، كأنها هدية من السماء؟ وبعد ساعتين... وصلنا. أندروس. نزلنا الرصيف، وسألنا عن العنوان... واستقبلنا صاحب البنسيون، رجل في أواخر الستين، لكن عينيه كانتا تضيئان كنار لم تعرف يوما أن تطفأ. إلى جانبه زوجته، أصغر منه بسنوات، لكنها تحمل في عينيها دفء الأمهات وحكمة الجدات. كان أول ما قاله لي، بلسان إنجليزي أنيق كأنه تعلمه من شكسبير نفسه: "التقاليد هنا تقول: لا تدخل بيتا دون أن تشرب كأسا من المشروب البيتي فأخذ الكأس الصغير، وملأه من ذلك المشروب المقطر الذي يذيب الهموم كما تذيب الشمس الصقيع (إنه راكي) أما زوجته، فقد أتت بقدح آخر، مملوء بسائل ذهبي معطر من النارنج أو كما يسمونها في بلدي شراب "شجرة الزفير" وأعطتها لزوجتي... ثم نظر إلي، وابتسامة تلمع في عينيه، وقال: "كنتَ أضحك في سري حين تتحدث تليفونيا معي من برلين... كنت أقول: نحن في نيسان! وأنت تسأل: كيف الطقس عندكم؟" كأنه يذكرني: لقد عبرت الجليد... وها أنت الآن في حضن الربيع الأبدي. بعد أن استقرت الحقائب في زاوية الغرفة، كأنها تقول: "استرحوا، نحن وصلنا"... لم تتحمل نفسي الانتظار. نظرت إليها وقلت دون كلمات: "هيا، البحر ينتظرنا". نزلنا الدرج، ثم سألنا أول من مر بنا: "أين البحر؟" فابتسم الرجل ابتسامة لم تكن مجرد رد فعل، بل كانت دعوة... دعوة إلى الثقة، إلى التسليم، إلى حب المكان. قال: "امشيا بأي اتجاه... ستصلان إليه. لا تخافا، فهو ليس مزدحما... بل شاغرا. ينتظركما. هو لكما". ضحكت في نفسي: كأن البحر هنا ليس ملكا للجميع، بل مخصص لنا، كهدية من السماء، أو كمكافأة بعد شتاء طويل من الجليد والوحدة. وما إن وطئت أقدامنا الشاطئ، حتى فهمت المزحة... أو بالأحرى: فهمت الحقيقة. رمالٌ ذهبية تمتد كثوب عروس لم يلمسه أحد، وماء في زرقة تكاد تؤلم العين من جمالها، وصمت لا يقطعه سوى همس الأمواج وهي تغني لنا، فقط لنا، أغنية قديمة كالأرض، جديدة كالحب. لم يكن هناك أحد. لا صراخ أطفال، لا كراسي ملونة، لا باعة متجولين... فقط نحن. أنا وهي. والسماء. والبحر. كأن الجزيرة قررت أن تخفي نفسها عن العالم كله، لتمنحنا إياها، نحن الاثنين، هدية لا تقدر بثمن، إنها الخلوة المقدسة. في اليوم التالي، سبحنا... لا كمن يسبحون للرياضة أو التسلية، بل كمن يغتسلون من ذنوب الشتاء، كمن يتقدسون بماء نزل من جبال الأولمب، أو من دموع بوسيدون حين رأى عاشقين يبحثان عن السلام. خرجنا من الماء كأننا ولدنا من جديد، خفيفي الروح، نقيي القلب. ثم مشينا... في أزقة الجزيرة الضيقة، حيث تتدلى الياسمين من الشرفات، وتلوح لنا الأشجار كأصدقاء قدماء. جلسنا في مقهى صغير، كرسيه من خشب لكنه يحمل في طياته قصصا لا تعد. طلبنا قهوة لم تكن مجرد قهوة، بل كانت لحظة... ووقفنا أمام مطعم فخم يطل على الميناء، فابتسمت لي وقالت: "هل نأكل هنا الليلة؟" فقلت: "كل شيء هنا فخم... حتى الهواء". وفي اليوم الثالث، صرنا نمطا... نمطا جميلا لا يكرر. نستيقظ مع الضوء الأول، نتناول فطورنا ببطء كأن الزمن توقف، ثم نحمل مناشفنا وأرواحنا، ونذهب إلى "شاطئنا"... نعم، "شاطئنا". لأنه لم يعد شاطئا عاما، بل مملكتنا الصغيرة. نمشي حفاة، نرسم على الرمل بأصابعنا كلمات لا يقرأها أحد غير البحر، نغطس في الماء كأننا نعود إلى رحم الأم، نستلقي على المناشف ونقرأ، أو نصمت... والصمت بيننا ليس فراغا، بل حضورا. كأننا طائران، لا يقيدهما قفص، ولا يقلقهما صوت. كل شيء حولنا يتحرك بحرية: النوارس، الأشجار، الأمواج، نحن... حتى الريح تمر بيننا كأنها تعرف أننا لا نريد أحدا سوانا. وبعد العصر، حين تميل الشمس قليلا وتبدأ تلوح وداعا بلون ذهبيٍ دافئ، ننهض... لا لأننا متعبان، بل لأن الجزيرة تدعونا لاستكشافها أكثر. نمشي في طرقاتها المرصوفة، نمر على كنيسة صغيرة بابها مفتوح دائما، وكأنها تقول: "ادخلوا، صلوا، أو اجلسوا... فالرب يحب العشاق". نقف عند منعطف صغير، ننظر إلى الأفق، فلا نرى سوى البحر والسماء... وكأن العالم كله تلاشى، وبقي فقط نحن... وقلوبنا... وصوت الموج. بعد العصر، حين تبدأ الظلال تتمدد كأنها تتهيأ للنوم، كنا نمشي بلا وجهة... أو لعل القلب كان هو البوصلة. مررنا بجانب عجوز يجلس على كرسي خشبي متكسر الساق أمام بيت صغير...ذلك الكائن الذي يبدو كأنه قطعة من قمر سقط في الماء ومررنا بمتجر صغير لبيع التحف اليدوية... فقط رائحة الخشب المشبع بزيت الزيتون، والخزف المطلي بألوان بحر إيجة... كانت رؤوسنا تلتقط من لحظات لا تتكرر. وفي طريق العودة، سمعنا من شرفة مطلة على الميناء من يعزف ويغني.. انه لحن بطيء، كأنه يغني لحبيبين يمشيان تحت ضوء خافت. توقفنا... لم ننظر إلى بعضنا، لكن أيدينا التقت، وكأن الأغنية أمرتنا بذلك دون أن نعرف معني كلماتها... لم نعرف من يعزف... ولم نسأل. بعض الألحان لا تحتاج إلى أصحاب... هي تعزف للروح، لا للأذن. عدنا إلى البنسيون مع غروب يلوح بألوان لم ترسمها فرشاة إنسان... برتقالي يذوب في وردي، ثم أرجواني يغرق في زرقة عميقة... وكأن السماء تقول: "هذه اللوحة... هديتي لكم اليوم". وجلسنا على الشرفة الصغيرة، نتأمل... لم نتحدث كثيرا... لأن الكلام كان سيفسد السحر. كان يكفي أن ننظر إلى البحر، وإلى بعضنا، وإلى النجوم وهي تبدأ تطل واحدة تلو الأخرى... كأنها تعد لنا ليلة أخرى من الليالي التي لا تنسى. وقبل أن ننام، همست لي: "هل تعرف؟ أنا لا أريد أن أذهب إلى جزيرة أخرى غدا... أريد أن أبقى هنا... معك... مع هذا الشاطئ... مع هذا الصمت... مع هذا الكون الذي يبدو أنه خلق فقط ليحتوينا". فقلت لها وأنا أمسك يدها: "اليونان لم تكن وجهة... كانت وعدا. وأندروس... لم تكن محطة... كانت معجزة".
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التعايش والاحترام
-
الخير والشر: معادلة الإنسان والكون بين الفطرة والضرورة
-
جلنار والفراشة
-
السوري… الحلم المؤجل والحرية الغائبة
-
النقاء السياسي واللغة
-
الاغتراب الجيلي وابتعاد الشباب عن الشأن العام في سوريا
-
الروبوت الحامل: بين التحرر من العقم وفقدان قدسية التجربة الإ
...
-
مأزق الساحل السوري: جذور وتداعيات
-
مومياء الفارس
-
اختطاف النساء
-
السلطة الحقيقية: الثقة بدلا من الخوف و المساواة بدلا من التف
...
-
حين تموت الأحاسيس ببطء
-
المثقف المستقل والولاء للحقيقة في عصر الانتماءات الجامدة
-
حين تُحرق الكتب وتنجو الأفكار: من ابن رشد إلى فهرنهايت 451
-
الحرية والإبداع: ركيزتا التقدم ونهضة الأمم
-
التسامح والمصالحة: قوة الأمم في مواجهة أحقاد الماضي
-
الدين: من مصدر للسلام إلى أداة للصراع
-
أرض تأكل أبناءها
-
بين العنف والعفو: مقاربات أدبية وفلسفية في طبيعة الإنسان
-
ونتساءل عن لوطن
المزيد.....
-
ادباء ذي قار يستضيفون القاص محمد الكاظم للاحتفاء بمنجزه الاد
...
-
أختتــام فعاليــات مهــرجـــان بغـــداد السينمــائـــي
-
فنانون أمريكيون يدعمون جيمي كيميل.. ومتحدث يوضح لـCNN موعد ع
...
-
غزة والجزائر والكاريبي.. فرانز فانون ينبعث سينمائيا في مئويت
...
-
غزة والجزائر والكاريبي.. فرانز فانون ينبعث سينمائيا في مئويت
...
-
سفير فلسطين في بولندا: نريد ترجمة الاعتراف بدولتنا إلى انسحا
...
-
كتاب عن فرنسوا ابو سالم: شخصية محورية في المسرح الفلسطيني
-
أمجد ناصر.. طريق الشعر والنثر والسفر
-
مؤتمر بالدوحة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافي
...
-
الاحتمال صفر
المزيد.....
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|