أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 20:49
المحور:
قضايا ثقافية
في سلسلة من ست محاضرات رئيسية، ألقاها في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) عام 1993، ثم أَدرجها لاحقا في كتاب صدر عام 1994 تحت عنوان (Representations of The Intellectual)، تحدّث الراحل إدوار سعيد، من بين الأشياء الأخرى ، عن أن المثقف الحقيقي أن يكون شخصية عامة مستقلا لا يتبع الحكومات أو الشركات أو المؤسسات ــ وبحكم واقعنا أضيف: الأحزاب ـــ التي قد تُضعف نزاهته، ففي حين أن التبعية لإحدى الأشكال التنظيمية المؤطرة المذكورة للتو قد تُتيح "للمثقف" سمعة أو مكاسب مادية، إلا أن النتيجة تكون في انحراف ولاءاته الأساسية في قول الحقيقة حول العدالة وحرية الإنسان. فالمثقف الحقيقي هو من لا يمكن بسهولة أن تُجندَه الحكومات أو الشركات أو الأحزاب. لذا هناك رفض لفكرة المثقف "الخبير" الذي يخدم السلطة أو الأنظمة السياسية وإنما المثقف الحقيقي يجب أن يكون صوتا مستقلًا يعتمد على الضمير النقدي وليس المصالح الشخصية أو الأيديولوجيات الجاهزة.*
لا بل أيضا يتمثل الواجب الأخلاقي للمثقف في أن يتحدث نيابة عن، وباسم، الصامتين والمهمّشين والمضطهدين، حتى وإن كان ذلك محفوفا بالمخاطر. ويشمل ذلك مواجهة الكثير من القوى التي لا يتسع المجال لتعدادها هنا. ويستشهد سعيد بأمثلة من التاريخ – مثل أنطونيو غرامشي (الذي سجنه موسوليني) وبرتولد بريخت (الذي نُفي بسبب الفاشية) – لإظهار كيف يجب على المثقفين مقاومة التبعية والقمع. وبتعبير سعيد نفسه: "دور المثقف هو أن يقول الحقيقة للسلطة، وأن يكون صوتا لمن لا صوت لهم، حتى عندما يكون هذا الصوت غير مريح أو غير شعبي."
وبالطبع، لم يكن سعيد ليترك جانبا مسألة أن المثقف غالبا ما يحتل موقع المنفى أو الهوامش – سواء كان منفى حقيقيا أو رمزيا. تتيح هذه الصفة للمثقف، كونه "منفصلًا" عن التيار السائد، رؤية أكثر وضوحا وأن يمتلك بعدا نقديا ويُقدم نقدا أكثر شجاعة في نقض الخطابات المهيمنة. ومن هنا فذلك يترجم بما يكرره سعيد أن على المثقف الحقيقي يجب أن يقف مع المهمشين ويسائل الروايات الرسمية. ومن الجدير بالذكر هنا أنه في حين يصبح المثقف هامشيا اجتماعيا بسبب موقفه لكنه مركزي أخلاقيا.
والمثقف في منطقتنا إن لم ينتهج دوره كما يتصوره سعيد في الانخراط بقضايا الشرائح المهمشة والصامتة تبقى خياراته، ضمن ظروف ومناخات وخصوصيات المنطقة، منحصرة في إما أن يتحول إلى بوق للنظام (مثل مثقفي السلطة في الأنظمة الاستبدادية) أو أن ينعزل في البرج العاجي الأكاديمي بعيدا عن قضايا الشعب.
وهنا لابد من الحديث عن شريحة من "المثقفين" يبددون دورهم الإنساني حين يتأطرون ضمن معيار حزبي، فالمتحزب سيكون ولاءه للحزب الذي ينتمي إليه أيا كانت عقيدته أو أيديولوجيته وليس للناس المهمشين والمضطّهَدين. بل، وبشكل أشد تحديدا للمعالم: لا يمكن فهم دور المثقف في المجتمع دون التمييز الجوهري بين نوعين متباينين من الوجود الفكري: المثقف المتحزب، الذي يُختزل دوره في كونه "محامي الدفاع" عن حزب أو أيديولوجيا، والمثقف المستقل، الذي يرى في نفسه "قاضيا نزيها" يحاكم الواقع بمنطق المعرفة والأخلاق، لا بمقتضى الانتماء. يكمن الفرق الجوهري بينهما في مصدر الولاء، فالمحزّب يُقدّم ولاءه الأول والأخير للحزب أو الدولة أو الإيديولوجيا، حتى حين تُخطئ، ويُصبح خطابه تعبويا دفاعيا، يُبرر السياسات، ويُجمّل القمع، ويشوّه المعارضين باسم "الوحدة" أو "الاستقرار". أما المثقف المستقل، فهو – كما صوّره إدوارد سعيد ببلاغة – شخصٌ ينتمي إلى الحقيقة والعدالة والضمير الإنساني، لا إلى كيان سياسي أو منظمة حزبية. ولاؤه ليس لطرف، بل لمسؤوليته الأخلاقية تجاه المجتمع، وبوصلته لا تُحدد بالانتماء، بل بالتساؤل والنقد الذاتي.
هذا التمايز ينعكس بوضوح في طبيعة الخطاب وعلاقته بالسلطة. فبينما يُوظف المتحزب أدواته الفكرية لخدمة خطاب الحزب، ويعتمد على خطاب أيديولوجي مغلق، يُعيد إنتاجه عبر وسائل الإعلام أو التنظيم الحزبي، يظل المثقف المستقل يعتمد على العقل، والنسبية، والشكّ المعرفي، ويُصدر خطابه من خارج المؤسسة، غالبا من خلال الكتابة النقدية، أو التعليم أو الحوار العام. وعلاقته بالسلطة ليست علاقة انتماء أو تبرير، بل علاقة مواجهة ومساءلة: فهو لا يخشى أن يُعارض النظام إذا ظلم، ولا يتردد في نقد الحلفاء إذا أخطأوا. في المقابل، قد يصبح المتحزب جزءا من جهاز السلطة ذاته إن صعد حزبه إلى الحكم، فيتحول من ناقد إلى أداة تبرير، بينما يبقى المستقل خارج الدوائر الحاكمة، مُعرّضا للتهميش أو القمع، لكنه محافظا على نزاهته.
ولا يعني أن المثقف المستقل لا يملك ميولا سياسية أو رؤية أيديولوجية، بل قد يكون لديه توجّه يساري أو ليبرالي أو قومي، لكنه لا يُلزم نفسه بخط حزبي جامد، ولا يُقدّم الحقيقة على مذبح الولاء. هنا تكمن خطورة الاستقطاب، الذي يفرض على المثقف اختيار طرف في صراع ما – كما حصل مع كثير من المثقفين العرب خلال الربيع العربي – فيُجبر الكثيرون على التخلي عن نقد النظام مقابل معارضة التدخل الخارجي، أو العكس، فيفقدون وظيفتهم كأصوات نقدية حرة. أما المتحزب، فهو لا يعاني من هذا التوتر، لأنه سبق أن استسلم لانتمائه، وجعل من الحزب مصدرا مطلقا للحق.
وقد تجلى هذا التمايز في واقع الفكر العربي المعاصر: فبينما برّر بعض مثقفي الأحزاب القومية أو اليسارية العربية دكتاتورياتٍ باسم "الوحدة" أو "المقاومة"، حافظ آخرون على استقلاليتهم، كـمحمد أركون الذي نقد التراث الديني دون أن يُستَخدم كذريعة للخطاب الاستشراقي، أو هشام شرابي الذي انتقد الأنظمة العربية دون أن يتبنى أجندة خارجية، أو أدونيس الذي، رغم إشكالاته، رفض الانحياز الكلي لأي طرف. هؤلاء يُجسّدون النموذج السعيدي للمثقف: الهواوي، الغريب، الناقم، الذي لا ينتمي إلا إلى سؤاله.
باختصار، فإن المثقف المستقل يُقلق السلطة من أجل الحقيقة، أما المتحزب فيُبرّر السلطة من أجل الولاء. والخطر الأكبر لا يكمن في وجود المثقف المتحزب، بل في أن تُختزل صورة المثقف في هذا النموذج، فيُصبح النقدُ المُؤدلج أداة للسيطرة، ويُستبعد الصوت الحرّ وراء سدّ "الانتماءات". وهنا تكمن دعوة سعيد الخالدة: أن يبقى المثقف غريبا، حرا، مُضطربا، لا يُريح السلطة، ولا يُريح الجماهير، لأنه لا يبحث عن جمهور، بل عن حقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إن الحديث عن استقلالية المثقف ومسؤوليته الأخلاقية في مواجهة السلطة ليس بجديد، ولا ينحصر في إدوارد سعيد، الذي وإن كان من أبرز ممثلي هذه الرؤية في العصر الحديث، إلا أنه جاء في سياق تيار فكري طويل، امتد عبر قرن من الزمان، تناول فيه فلاسفة ومفكرون من الشرق والغرب دور المثقف كـ"الواشي بالخفي"، و"الناطق باسم الصامتين"، و"الغريب في وطنه". يعود أحد أقدم التحذيرات الصريحة من تبعية المثقفين للسلطة إلى جوليان بندا في كتابه الكلاسيكي "الخيانة: تأملات في المثقفين" (1927)، حيث حذر من "خيانة المثقفين" حين يتخلى هؤلاء عن وظيفتهم في الدفاع عن القيم العقلانية والأخلاقية، ليصبحوا أدوات في يد القومية والسلطة. وبعد ذلك، أعاد أنطونيو غرامشي تصور المثقف من خلال مفهوم "المثقف العضوي"، مميزا بين المثقف التابع للطبقة الحاكمة، والمثقف النابض من رحم الجماهير، وهو مفهوم أثّر بعمق في فكر سعيد نفسه. وفي منتصف القرن العشرين، قدّم ميشيل فوكو تحليلات عميقة في محاضراته حول "المثقف والسياسة"، حيث فرّق بين "المثقف العام" الذي يُنتج خطابا مطلقًا، و"المثقف المُختص" الذي يمكنه فضح آليات القوة من موقع معرفي دقيق.
في السياق العربي، شهدت السبعينات والثمانينات انطلاقة لخطاب نقدي حاد حول علاقة المثقف بالسلطة، كان أبرزه أعمال جورج طرابيشي في "انتفاضات المثقفين"، وعبد الله الغذامي في "المثقف والسلطة"، حيث تناول كلاهما تحوّل المثقف العربي من ناقد مستقل إلى شخصية مُستَقطبة، إما في معسكر الدولة أو في معسكر الممانعة، مما يهدد استقلاليته. وفي الوقت نفسه، قدّم محمد عابد الجابري في "المثقف العربي ورهانات الحداثة" قراءة نقدية لعجز المثقف العربي عن بناء مشروع فكري مستقل، بسبب هيمنة الأطر الأيديولوجية والدينية.
مع تغير العصر، واصل المثقفون الحديث عن هذه القضية بأشكال جديدة. ففي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ناقش توني جودت في مقالاته وكتاباته، خاصة في "Reappraisals"، ضرورة عودة المثقف العام الذي يتحمّل مسؤولية التدخل الأخلاقي في الشأن السياسي. وفي المقابل، حذر روجر شاتز في مقالات نُشرت لاحقا في "The Death of the Public Intellectual?" من تراجع هذا الدور لصالح "الخبراء" و"المؤثرين" في العصر الرقمي. كما قدّم نوام تشومسكي نموذجا عمليا للمثقف المستقل في أعماله مثل "Manufacturing Consent" و"Profit Over People"، حيث كشف كيف تُستخدم المعرفة لتبرير القمع والرأسمالية. وفي السياق النسوي والتحريضي، دعت باتريشيا هيل كولينز في "On Intellectual Activism" إلى إعادة تعريف المثقف كـ"مُنَاضل معرفي" من أجل العدالة الاجتماعية، مدمجة بين الأكاديميا والعمل الجماهيري.
في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تزايدت التحديات بفعل صعود الشعبوية، والرقمية، والرقابة الخفية. ففي "Twilight of Democracy" (2020)، تناولت آن أبلباوم ظاهرة انتقال بعض المثقفين من نقد السلطة إلى تبرير الاستبداد، مستخدمة مصطلح "الكليرك" (clercs) للإشارة إلى المثقفين الذين يقدمون غطاء فكريا للأنظمة السلطوية. وفي "The Great Recoil" (2021)، حلّل باولو جرباودو تحول النخب الفكرية بعد الجائحة والشعبوية، بينما واصل توماس سويل في "Intellectuals and Society" (2010) نقدَه لنفوذ المثقفين غير المُحاسبين على صنع السياسات. من جهة أخرى، أبرزت بريامفاندا جوبال في "Insurgent Empire" (2019) دور المثقفين المناهضين للاستعمار في تقويض الخطاب الإمبريالي من الداخل. وفي السياق العربي، جاءت أعمال مثل "المثقف العربي وسؤال القوة" لشاكر النابلسي، بعد الربيع العربي، لتعيد طرح السؤال المحوري: كيف يمكن للمثقف أن يحافظ على استقلاليته في ظلّ انهيار الأنظمة وصعود الجديدة منها؟
هكذا، لا يُنظر إلى إدوارد سعيد كمُبتكر لهذه الفكرة، بل كواحد من أبرز مَن أعطَوها صوتًا عالميًا في عصر ما بعد الكولونيالية، مستندًا إلى تراث فكري عابر للحدود، من بندا وجرامشي إلى فوكو وهانا آرنت، وفي الوقت نفسه منسجما مع صرخات المثقفين العرب الذين عانوا من القمع، والتجنيد الأيديولوجي، وفقدان الحيز العام. إن دعوته في "تمثيل المثقف" إلى أن يكون المثقف "هاويا" بروحه، "غريبا" بموقعه، و"شجاعًا" بخطابه، ليست انطلاقة من العدم، بل هي حلقة في سلسلة طويلة من النداءات المتعاقبة، تطالب المعرفة أن تبقى وسيلة للتحرر، لا أداة للسيطرة.
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟