أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 8456 - 2025 / 9 / 5 - 07:32
المحور:
قضايا ثقافية
في رواية فرانكنشتاين (1818)، تُقدم ماري شيلي مشهدا جوهريا حيث العالم فيكتور فرانكنشتاين يخلق كائنا بشريا دون تدخل أنثوي، دون علاقة جنسية، دون حمل، دون ولادة طبيعية. العملية كلها تجري في مكان معزول، تختزل الإنجاب في فعل تقني منفرد. ما بدا حينها كرمز للجنون العلمي، بات اليوم، بعد أكثر من قرنين، على وشك التحقق — ليس عبر مخلوق يُركب من أجزاء، بل عبر روبوتات أنثوية قادرة على الحمل والولادة الاصطناعية، كما يُعلن عن مشروع صيني قيد التطوير.
هذا التحوّل ليس تقدما تقنيا فقط، بل زلزالا علميا؛ انقلابا أخلاقيا، فلسفيا، وأنثروبولوجيا في فهمنا للإنجاب، للأمومة، ولعلاقة الإنسان بالتكنولوجيا.
السؤال لم يعد: "هل يمكننا؟"،
بل: "هل ينبغي أن نفعل؟"،
وأعمق من ذلك: ماذا نخسر حين نُحلل ما كان محرما تقنيا، لكنه كان مقدسا إنسانيا؟
1. القراءة النسوية: من استلاب الأنثى إلى تسييل الأمومة
نبقى مع القراءة النسوية لـ فرانكنشتاين، كما قدّمتها نظريات مثل كارول جيليجان ودوروثي ديوكسمير، ترى في الرواية استلابا جذريا للأنثى من عملية الإنجاب. فالإنجاب، في التاريخ البشري، كان التجربة المركزية التي عرّفت الأنثى، لا ككائن بيولوجي فقط، بل كحاملة للحياة، للمستقبل، للذاكرة.
لكن فرانكنشتاين يُخرج الأنثى من هذه الدائرة.
يخلق من دونها.
وحتى عندما يفكر في صنع "زوجة" للمخلوق، يُدمّرها قبل أن يكمل صنعها — ليس خوفا من المخلوق، بل خوفا من امرأة مستقلة، قادرة على التكاثر بمعزل عن السيطرة الذكورية (Gilbert & Gubar, 1979).
وهذا النقد لا يفقد قيمته اليوم بل يكتسب بعدا جديدا حيث يصبح خيال ماري شيلي العلمي حقيقة علمية اليوم. فالروبوت الحامل، مهما كانت نواياه "إنسانية"، يُعيد إنتاج نفس السيناريو: الإنجاب كعملية تقنية، تُدار من خارج الجسد الأنثوي، وتُخرج الأم من مركز الفعل. الخطر هنا يتجاوز الاستلاب إلى "تسييل" الأمومة ذاتها، حيث تتحول التجربة الجسدانية والعلائقية الفريدة إلى مجرد "خدمة" تقنية قابلة للاستبدال والشراء، مما يهدر قيمة التجربة المعاشة التي تُشكّل هوية الملايين من النساء.
2. استنساخ دوللي: ولادة الأخلاق البيولوجية والتحول إلى "منتج"
وليس خارج إطار التفكير بهذا الموضوع استحضار قصة استنساخ دوللي والتمييز الأخلاقي بين الاستنساخ والاستنسال. ففي عام 1996، مع استنساخ النعجة دوللي، دخلت البشرية عصرا جديدا: عصر التحكم في النسخ الجيني.
لم يعد الإنسان مجرد منتج للطبيعة، بل صانع للكائنات الحية.
لكن ردود الفعل لم تكن تقنية فقط، بل أخلاقية وقانونية وفلسفية.
أسئلة كثيرة طرحت:
هل المستنسخ "نسخة" لا تمتلك نفس المقومات والخصائص التي يمتلكها البشر أم "فرد جديد"؟
هل له نفس الحقوق التي يتمتع بها الابن أم هو مجرد مستنسخ اصطناعي؟
وهل يُسمح باستخدامه كمصدر لأعضاء؟
هنا، برز مفهوم "الكرامة البيولوجية" (bioethical ethics)، كما عرّفه هيوز (Hughes, 2006) في نظريته حول "الترقّي البشري" (human enhancement).
وأجمعت معظم اللجان الأخلاقية على أن كل كائن بشري، حتى لو استُنسخ، يمتلك كرامة لا تُنتقص، ولا يمكن تداوله كأداة.
لكن الخطر لم يكن في الاستنساخ نفسه، بل في التحويل من "كائن" إلى "منتج". وهنا بدأ الحديث عن "الإنسان المصمّم" (designer human)، وعن الأخلاقيات المحيطة بالتعديل الجيني.
3. تسلسل الجينوم البشري: الخط الأحمر بين العلاج والتحول والتفاوت الطبقي
مع إتمام مشروع تسلسل الجينوم البشري الذي اكتمل عام 2003، أصبح بالإمكان معرفة البنية الجينية لكل إنسان.
وسرعان ما بدأت الأسئلة: هل نُصلح الجينات المسببة للأمراض؟ أم نُحسّن البشر؟ هل نخلق أطفالا بعيون زرقاء، بذكاء عال، بمناعة ضد السرطان؟
هنا، وضع العلماء والفلاسفة ما يُعرف بـ"الخط الأحمر" (the red line): العلاج الجيني مقبول (مثلا: علاج فقر الدم المنجلي)، بينما التحسين الجيني غير مقبول (مثلا: إنجاب طفل "أفضل" من غيره) (Juengst, 1997).
السبب؟ لأن التحسين الجيني لا يُعيد توازن الطبيعة، بل يُعيد تشكيل الهوية البشرية، ويفتح باب التمييز البيولوجي. وهنا يبرز بُعد اجتماعي-اقتصادي خطير: من سيتمكن من الوصول إلى هذه التقنيات الباهظة؟ إذا أصبح "تحسين" النسل حقيقة، فسنواجه خطر خلق فجوة بيولوجية طبقية، حيث يصبح الأغنياء "مُحسّنين" جينياً بينما يبقى الفقراء "طبيعيين"، لتدخل البشرية في حقبة جديدة من عدم المساواة الجذرية.
4. الروبوت الحامل: بين الأمل الطبقي والانفصال عن التجربة الإنسانية
الخبر الأخير عن تطوير روبوتات أنثوية قادرة على الحمل يُعيد طرح كل هذه الأسئلة، لكن بزاوية جديدة وجودية: هل يمكن للآلة أن تُصبح أما؟
من ناحية عملية، لا يمكن تجاهل الفوائد: آلاف الأزواج العقيمين سيجدون أملا. النساء اللواتي يعانين من عيوب رحمية سيتحررن من معاناة العقم. حتى الرجال المثليون سيُصبح بإمكانهم "إنجاب" أطفال ببدائل تقنية.
ولكن، وأيضاً من الناحية العملية، تظهر إشكالية الوصول المالي وعدالة التوزيع. هل ستتحول الأرحام الاصطناعية إلى سلعة فاخرة متاحة فقط للأثرياء، مما يعمق جراح التفاوت الاجتماعي؟
أما من ناحية فلسفية، فيُطرح سؤال وجودي محوري: هل الحمل مجرد وظيفة بيولوجية يمكن استنساخها تقنيا؟ أم هو تجربة إنسانية شمولية لا تُنقل إلى الآلة؟
الحمل، في تجربته التقليدية، ليس فقط عملية بيولوجية، بل:
• تجربة نفسية فيها القلق والأمل والتأمل في المستقبل.
• تجربة اجتماعية عن الاستعداد والدعم الأسري.
• تجربة وجودية فيها الشعور بالارتباط بالحياة والتجدد والمسؤولية.
عندما تُنقل هذه التجربة إلى روبوت، فإننا لا نُنجز تقنية فحسب، بل نُنكر جوهر التجربة الإنسانية ذاتها، ونحوّل الأمومة إلى خدمة تقنية مجردة. ولا يغيب هنا الموقف الديني، الذي يرى في هذه التقنيات تجاوزاً للحدود الفاصلة بين دور الخالق والمخلوق، وعبثاً بالنسق الفطري للخلقة، مما يهدد بزلزلة المفاهيم الأساسية للنسب والوالدية.
5. التكنولوجيا والأخلاقيات: نحو عقد اجتماعي تكنولوجي جديد
العصر ما بعد الإنساني (posthuman era) الذي ندخله لا يرفض التكنولوجيا، لكنه يُطالب بـ"أخلاقيات تكنولوجية" (techno-ethics) تراعي:
• الكرامة الإنسانية فوق كل اعتبار.
• العدالة في الوصول إلى التقنية وعدم خلق تمييز بيولوجي.
• الحفاظ على التجارب الأساسية التي تُشكّل الهوية البشرية.
الحمل الآلي قد يكون حلا إنسانيا لحالات العقم القصوى، لكن لا يجب أن يصبح أبداً نموذجا معياريا للإنجاب. وإذا أصبح الروبوت هو "الأم"، فهل سيُسأل الطفل يوما: "ممن أُنجبت؟ أم ممن صُنعت؟"
كما حذر الفيلسوف إدغار موران: "التقدم التقني لا يُقاس بقدرته على التحقق، بل بقدرته على التأني".
خاتمة: الإنسان أولاً وأخيراً
الحمل الآلي ليس نهاية المطاف، بل علامة استفهام كبرى معلقة على جبين مستقبل الإنسانية. المثقف والمتعلم والحكيم ليسوا ضد التقدم، بل ضد استبدال التجربة الإنسانية بالكفاءة التقنية المجردة، وضد اختزال الحياة إلى سلعة.
فلنُطور الروبوتات، لكن لا نسمح أبداً لأن تُستبدل الأم.
فلنستخدم التكنولوجيا لإنقاذ الحياة وتخفيف المعاناة، لكن لا نسمح لها أن تُعيد تعريفنا أو أن تمحو قدسية تجاربنا.
لأن الإنسان لا يُقاس بمنشئه، بل بكرامته، وبعمق التجربة التي عاشها، وليس بالطريقة التي صُنع بها. التحدي الأكبر الذي يواجهنا ليس في الإجابة على سؤال "هل يمكننا صنعها؟"، بل في الإجابة على سؤال "أي بشر سنصبح إذا فعلنا؟".
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟