أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - مومياء الفارس



مومياء الفارس


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8448 - 2025 / 8 / 28 - 02:47
المحور: الادب والفن
    


بينما وجد الكثير من الأوربيين نفسهم في وضع مريح وراحوا يتنفسون صعداء بعد الزوال المادي لجدار برلين وانهيار عالم كان جاثما فوق صدورهم كالكابوس، كان الألمان على وجه الخصوص يشعرون وكأن عليهم استكشاف ما كان قريبا جغرافيا وبعيدا سياسيا واجتماعيا وواقعيا وصعب المنال...هكذا، ذات ربيع من النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين، نشرت مجلة دير تاجِس شبيجِل البرلينية خبرا صغيرا أرادت منه أن يكون كبيرا، وكأنه همسٌ من زمن آخر يتوق لصراخ في الحاضر ليذكّر بالتاريخ، عن مومياء محفوظة في كنيسة قرية نائمة تُدعى كامبيل، في قلب مقاطعة براندنبورغ الهادئة. قرية لا يتجاوز عدد سكانها بضعة مئات، تقع على بعد ساعتين بالقطار من برلين، حيث لا يسمع المرء سوى لغة الطبيعة متمثلة في صوت الرياح تهمس بين حقول القمح المحيطة بالقرية وحفيف أوراق الشجر. لكن في هذه القرية، وفي كنيسة رطبة، تقبع جثةٌ لم تذلّ للزمن، ولم تُسلم نفسها للتراب: إنها مومياء الفارس فون كالبوت.
ليس من السهل أن تُصَدِّق أن هناك موتى لا يموتون حقا، وأن بعضهم يواصلون العيش بيننا، ليس بأرواح، بل بجثث جافة، محفوظة كأن الزمن نفسه توقف عندهم. فون كالبوت، ذلك الرجل الذي كان ذات يوم رمزا للسلطة والنفوذ في هذه البقعة من ألمانيا، لم يُدفن كغيره. بل ظلّ ماثلا، شاخصاً كأنه يراقب... يراقب كيف تتغير الأرض على مر الزمن، وكيف تتهاوى الإمبراطوريات، كيف يهرب الناس من الجوع، وكيف يعودون إلى الماضي بحثا عن أسباب الحاضر.
يقول المختصون إن جسده لم يتحلل كبقية الجثث، ليس بسبب طقس دفن سري، ولا بفعل مواد كيميائية استخدمت في التحنيط، بل لأن هذا الفارس كان يشرب الخمر بكثرة. نعم، كان يغرق في النبيذ، حتى في آخر أيامه. وكأن جسده، بعد الموت، استمرّ في تخزين ما اعتاد عليه: الكحول، الذي منع البكتيريا من التهامه. فكان أن بقي جسدا جافا، مشوها قليلا، لكنه حيّ بمعناه الأثري. كأنه عقابٌ أو مكافأة بوجوده: أن يعيش إلى الأبد، ليس في الذاكرة، بل في الجسد.
لكن الحكاية لا تنتهي عند التحنيط التلقائي. فبعد الحرب العالمية الثانية، حين انكسرت ألمانيا وانهارت برلين تحت وطأة القنابل والجوع، امتدّت أيادي البرلينيين الجائعة إلى حقول براندنبورغ المجاورة، ليسرقون البطاطا والحبوب، ويحصلون على ما لم يزرعوه. كان الجوع حينها يأكل في العظام، والخوف يأكل في الأرواح، حسب وصفهم...
وهنا، في لحظة يائسة من لحظات البقاء، اتخذ أهالي كامبيل قرارا غريبا، مأساويا، كوميديا إلى حدٍ ما: أخرجوا مومياء فون كالبوت من كنيستهم، ووضعوها بين البطاطا المزروعة، أو على تلة صغيرة تطلّ على الحقل. كان الهدف بسيطاً: استخدام الجثة كفزاعة لتخويف البرلينيين. تخويفهم من الموتى، من الأشباح، من الماضي الذي لا ينام. "إذا أتيتم، فسترون من لا يموت"، كأنهم يقولون. وهكذا، أصبح الفارس، بعد أن كان رمزا للسلطة، ثم جسدا عالما، ثم أداة تخزين طبيعية، صار في النهاية حارسا للزرع.
لكن العالم، كماعادته، لا يترك الأسرار وحيدة... في الثمانينات أو التسعينات، جاءت بعثة يابانية إلى كامبيل. علماء، أطباء، متخصصون في التحنيط والحمض النووي. أرادوا فحص المومياء، أخذ عينات، تحليل الجينات، كشف أسرار التحنيط الطبيعي. وفعلا، أخذوا عينة من ساقه، وأخرى من بطنه، تركوا في جسده ثقبين صغيرين، كأنهما جراحان قديمان، لا يندملان. وعرضوا على السلطات المحلية (حينها) مائة ألف دولار مقابل اقتناء المومياء. لكن السكان رفضوا. لم تكن المومياء سلعة. كانت جزءا من ترابهم ومن ذاكرتهم بل ومن هويتهم.
لكن الأغرب لم يكن في رفض البيع، ولا في استخدام المومياء كترهيب زراعي، بل في الحقيقة التي كشفتها التحاليل وهي أن معظم سكان كامبيل يحملون جينات المومياء فون كالبوت.
ليس لأنهم من نسله، ولا لأن عائلته استمرت عبر الأجيال. بل لأن الفارس، في زمنه، كان يتمتع بما عُرف في أوروبا الوسطى بـ "حق الليلة الأولى" (Droit du seigneur). تلك العادة القاسية، التي تمنح السيد الإقطاعي الحق في أن يكون أول من يدخل بعروسٍ جديدة في قريته، في ليلة زفافها. لا يُعرف كم من امرأة مرّت بين يديه، ولا كم من طفل وُلد في الظلام، يحمل دمه دون أن يعرف. لكن الأثر بقي في العيون و في ملامح الوجه و في شكل الأنف و في لون الشعر. حقيقة يراها الناظر وتؤكدها الجينات.
اليوم، حين ينظر أحد أبناء كامبيل إلى مرآته، قد يرى وجها يشبه وجها من القرن السابع عشر. قد يرى في ابتسامته شيئا من ذلك الفارس القاسي، أو في غضبه شيئا من نفسيته المتقلبة. لكنه لا يشعر بالخزي. بل بالفخر، ربما لأن هذا الرجل، مهما كان طغيانه، أصبح جزءا من لحمهم ودمهم. لم يمت. لم يُنسَ. بل تحوّل من سيد إلى أسطورة، ومن طاغية إلى أب جماعي.
هناك وأنت تتأمل في وجوه البشر وتراقب بدهشة أشجار الكستناء تشعر بأشياء كثيرة تختلط ببعضها، هناك لا يُدفن الموتى فقط. بل يُحتفظ بهم. ليس بدافع الخرافة، بل بدافع الذاكرة. لأن في حفظ الجسد، حفظ للتاريخ. وفي بقاء المومياء، رسالة مفادها أن الماضي لا يذهب، بل يختبئ في الجينات، في الحقول، في عيون الناس.
وقد يكون في ذلك عبرة وهي أن كل ظالم، أو سيد، أو حاكم، قد ينتهي به المطاف ليس في الكتابات، بل في دماء من ظلمهم. وأن التاريخ، في لحظة ما، ينتقم بهدوء، لا بالسيف، بل بالوراثة.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اختطاف النساء
- السلطة الحقيقية: الثقة بدلا من الخوف و المساواة بدلا من التف ...
- حين تموت الأحاسيس ببطء
- المثقف المستقل والولاء للحقيقة في عصر الانتماءات الجامدة
- حين تُحرق الكتب وتنجو الأفكار: من ابن رشد إلى فهرنهايت 451
- الحرية والإبداع: ركيزتا التقدم ونهضة الأمم
- التسامح والمصالحة: قوة الأمم في مواجهة أحقاد الماضي
- الدين: من مصدر للسلام إلى أداة للصراع
- أرض تأكل أبناءها
- بين العنف والعفو: مقاربات أدبية وفلسفية في طبيعة الإنسان
- ونتساءل عن لوطن
- الموت: التأمل في اللايقين الحتمي
- تأمل سريع في مرور الزمن ودروس الحياة
- الحلم بالنهوض بعد الظلم والقمع
- أهمية القاعدة الشعبية في الحكم
- فراق أبدي
- سوريا: ملتقى الشعوب ونموذج للتعايش الثقافي
- أمل سوريا الجديد
- الانتقام والهدم: نحو تجاوز إرث الثأر لبناء سوريا المستقبل
- الخوف: ثقافة عالمثالثية أم تركيب اجتماعي؟


المزيد.....






- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - مومياء الفارس