أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - الكلب*… ذلك المخلوق الذي أحبنا أكثر مما نستحق














المزيد.....

الكلب*… ذلك المخلوق الذي أحبنا أكثر مما نستحق


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 00:11
المحور: قضايا ثقافية
    


منذ فجر الحكاية الأولى، كان الكلب رفيق الإنسان. سار إلى جواره في الصيد، وفي الحروب، وفي الغربة. شاركه خبزه البسيط، وحرس نومه، وصمت حين خانه العالم. ومع ذلك، لم يسلم الكلب من ظلم الإنسان، لا بسوط ولا بحجر، بل بالكلمة: تلك التي تصنع المديح واللعنة معا.
ففي كثير من لغات الأرض، صار "الكلب" شتيمة. أن تقول لشخص "أنت كلب" تعني أنك أهنته في عمق كرامته. وفي الوقت نفسه، لم يخل الأدب العالمي من محاولات لإنصاف هذا الكائن الذي بدا في وفائه أكثر إنسانية من الإنسان ذاته.
الكلب في الموروث الإنساني: من أنوبيس إلى الأسطورة العربية
في مصر القديمة، وُجد "أنوبيس"، إله الموتى برأس كلب أو ابن آوى. كان حارس المقابر، ومرشد الأرواح في رحلتها إلى العالم الآخر. لم يكن رمزا للنجاسة أو الدناءة، بل كان تجسيدا للوفاء والعبور، دليلا على أن الإنسان القديم أدرك في الكلب روحا مقدسة لا يستهان بها.
وفي بلاد الرافدين، سجل في الألواح البابلية أن الكلاب كانت تربى في معابد الإلهة "غولا" شافية الأمراض، فقد ربط السومريون بين الكلب والشفاء والوفاء. أما في الهند القديمة، فقد وُصف الكلب في "الماهابهاراتا" بأنه الكائن الذي تبع الإله "يودهيشتيرا" إلى الجبل الأخير، ولم يتخلّ عنه حتى في الموت، بينما تخلى عنه الجميع.
لكن حين نصل إلى الحكاية العربية، تتبدل الموازين.
ففي رواية حنا مينه "الياطر" [وقد اقتبستها بنفسي وجعلتها مقدمة لمقال عن جملوكية الأسد نشرته عام 2004]، تروى حكاية رمزية عن كيف أصبح الذئب كلبا : جوع وثلوج وقصر يرمي فضلاته لجياع الغابة، حتى تدجن الذئاب التي كانت حرة. وحين اعتادت على الفتات، فقدت روحها الأولى وصارت "كلاب".
إنها استعارة لاذعة عن التدجين الأخلاقي والسياسي والاجتماعي: حين يعتاد الإنسان على الفتات يفقد نداء الحرية، ويغدو مطيعا، مروضا، ينتظر العظمة بدل أن يصطاد مصيره بيديه.
من الذئب إلى الكلب: رمزية الانكسار الإنساني
الحكاية العربية تلتقي هنا مع رؤية الروائي الروسي ميخائيل بولغاكوف في روايته الشهيرة "قلب كلب" حيث يتحول فيها كلب إلى إنسان بعد تجربة علمية، لكنه يحتفظ بكل الغرائز الدنيا، حتى يفوق البشر همجية وتطفلا. أراد بولغاكوف أن يقول إن الإنسان ليس عقلا فحسب، بل منظومة قيم، وإننا حين نمنح كلبا جسد إنسان دون روحه، نحصل على كائن أسوأ من الاثنين معا....لكن، أليست الرواية ذاتها تظلم الكلب؟ فالكلب في الواقع لا يعرف الكذب ولا النفاق ولا الخيانة، وهي أمراض بشرية خالصة. وهنا يطل السؤال الموجع:
من الأوفى حقا؟ من الأصدق؟ أهو الكلب الذي يحرس باب الفقير دون مقابل، أم الإنسان الذي يطعن صديقه بحجة المصلحة؟
وفي ثقافات أخرى الكلب عنوان وفاء لا ينسى، ففي اليابان مثلا، تحول اسم "هاتشيكو" إلى أسطورة وطنية. ذلك الكلب الذي كان ينتظر صاحبه يوميا أمام محطة القطار، حتى بعد أن مات صاحبه، وظل الكلب يأتي في الموعد نفسه لتسع سنوات تالية، ينتظر من لن يعود. اليوم، يقف تمثاله في قلب طوكيو كرمز للوفاء المطلق.
وفي الثقافة الغربية، تكررت رمزية الكلب في الأدب والسينما بوصفه الضمير المخلص الذي لا يخون: من قصة "أولد يَلَر" في الأدب الأمريكي، إلى فيلم "مارلي وأنا" حيث يصبح الكلب مرآة للأسرة وحياتها، لا مجرد حيوان أليف.
أما في الموروث الإسلامي، فثمة حضور نبيل للكلب في قصة أصحاب الكهف: "وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد" مشهد يرفع الكلب إلى مرتبة الحارس الروحي الذي يرافق الصالحين في خلودهم. وهذا يعتبر تكريم بليغ حين يمنح النص المقدس كائن اتخذ رمزا للنجاسة...!!
ولكن اللغة تظلم الوجود فهي، كما يقول رولان بارت، "تحمل في طيّاتها أيديولوجيا نائمة".
حين نشتم أحدا بقولنا "كلب"، فإننا لا نهينه فحسب، بل نسهم في تكريس تصور تاريخي عن الدونية. لقد نسينا أن هذا الكائن هو أول من آمن بالإنسان دون شرط، وأول من شاركه خبزه ودفء ليله...!
إن كلمة “كلب” في وجداننا الثقافي صارت مرادفا للذل، بينما هي في حقيقتها مرادف للوفاء والصبر. إنها المفارقة التي تلخص مأساة الإنسان مع ذاته: يكرم من يخونه، ويهين من يظل أمينا له حتى النهاية.
لعل الكلب ليس سوى مرآة لما فينا: فإذا كنا أوفياء، رأينا فيه نفسنا، وإذا كنا غادرين، احتقرناه. إن نظرتنا للكلب تكشف عن جوهرنا، كما تكشف لغتنا عن وعينا.
ولذلك، حين يصر الناس على استخدام "كلب" كإهانة، فإنهم في العمق يعترفون بأنهم يخشون هذا النقاء الذي لا يعرف الخيانة. ربما لهذا السبب يظل الكلب رمزا مؤلما للبراءة المستمرة، للولاء الذي لا يكل، وللنبل الذي لا يفهم الزيف. إنه الصديق الذي لا يتقن سوى حب واحد لا يتغير، والظل الذي لا يغادر صاحبه إلا حين يرحل الأخير عن الحياة.
في النهاية، يبدو أن الكلب لم يكن يوما بحاجة إلى من يدافع عنه. لقد أنصفه الوجود نفسه.
كل خفقة ذيل فرِح برؤية صاحبه، كل نظرة دافئة في عينيه، كل ليلة حراسة أمينة، هي بيان صامت عن معنى الوفاء الحقيقي. أما نحن، البشر، فما زلنا نكافئه بالشتيمة، وننسى أننا من يحتاج إلى دروسه، لا هو إلى لغتنا. إنه الكائن الذي لم يخن يوما، ولم يعرف الكذب، ولم يختر إلا أن يحب.. فمن منا، إذن، الإنسان؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بالأمس كان يحكي عن شخص استغله فوصفه: "واحد كلب" وهذا دفعني لكتابة هذا المقال



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخوف لا يخلق الإنسان السوي: بين الوازع الداخلي وسلطة الخارج
- تبنى المدن وتترك العقول خرابا
- هل نملك الشجاعة لمراجعة ثقافتنا السائدة؟
- مهرجان الحنفية: مسرحيات الفشل في الأنظمة الديكتاتورية
- كلمات من القلب
- ما لا يعود
- بين ناطحات السحاب وسحابات الدم: هل أصبح التقسيم مصيرا محتوما ...
- الدين لله والوطن للجميع: رؤية في السياق السوري*
- العدو الذي لا نعرفه: التأمل في الصراع الداخلي عبر Face/Off-
- سوريا ليست لفئة واحدة، بل تعددية جميلة لا تُستبدل
- ورقة خريفية في مهب الوجود
- بين ديكنز والخلود: حين يشيخ الزمن ولا نزال نحلم بالشباب
- الماضي بوابة للتأمل… والمستقبل أفق للخلق
- بين الحلم والهيمنة....نحن هنا
- -طلّقني!-
- سألتنا كولا إن كنّا سنعود... فبكى البحر قبلنا
- التعايش والاحترام
- الخير والشر: معادلة الإنسان والكون بين الفطرة والضرورة
- جلنار والفراشة
- السوري… الحلم المؤجل والحرية الغائبة


المزيد.....




- السودان- مفوض أممي: الفاشر تشهد فظائع مروعة والأطفال يموتون ...
- الكنيست يقر القراءة الأولى لمشروع قانون يُجيز إغلاق وسائل ال ...
- إسبانيا: تعرّض ضابطيْ شرطة لضربٍ وحشي أدّى لكسرٍ في الأسنان ...
- تقرير أممي: 70 ألف شخص نزحوا يوميا العقد الماضي بسبب الكوارث ...
- أمنستي تدعو نيجيريا لتبرئة 9 نشطاء أعدمتهم قبل 30 عاما
- سوريا توقع إعلان تعاون سياسي مع التحالف الدولي ضد تنظيم الدو ...
- أول تصريح لترامب عن أحمد الشرع بعد لقاء البيت الأبيض
- من الفراعنة إلى الذكاء الاصطناعي، كيف تطورت الكوميكس المصرية ...
- -نعمل مع تل أبيب على التفاهم مع دمشق-.. ترامب: نريد سوريا نا ...
- لقاء تاريخي بواشنطن .. ترامب يستقبل الشرع وسط تحولات سياسية ...


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - الكلب*… ذلك المخلوق الذي أحبنا أكثر مما نستحق