أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 18:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ثمة فيديو متداول على الإنترنت—من بين عشرات مقاطع الكراهية التي تحضّ على العنف والقتل والإقصاء—يُظهر مجموعة مسلّحة ملتحية تهلّل بصوت صاخب، وضحك عبثيّ، معلنةً أنّ سوريا ليست سوى لون ديني واحد، أو بالأحرى لمذهب واحد. هذا الفيديو ليس مجرّد مشهد عابر، بل تجسيد صارخ لروح الانغلاق والتحزب التي تحاول فرض نفسها على العالم، في وقت بنيت الحضارة الإنسانية على التفاعل، والتلاقح، والتنوّع.
في زمن تتعالى فيه أصوات التطرف والانغلاق، وتنادي بحصر الوطن لفئة واحدة أو مذهب وحيد، يغدو التذكير بقيمة التعددية واجبا أخلاقيا ووطنيا. التعدّدية ليست ترفا فكريا، ولا مجرد شعار جمالي، بل هي نبض الحياة ذاتها، وسر ازدهار الحضارات عبر العصور. إنها الفسيفساء التي تكوّنها ألوان وأشكال وثقافات ولغات ومذاهب مختلفة، لتنتج لوحة إنسانية لا تضاهى في جمالها وثرائها.
وسط هذا المناخ الذي تتصاعد فيه أصوات التعصب، وترتفع فيه شعارات "النقاء الديني" الوهمي، كما في ذلك الفيديو الذي يصوّر سوريا لفئة واحدة، تبرز الحاجة إلى التذكير بحقيقة إنسانية راسخة: لم تبن حضارة عظيمة أبدا على لون واحد، أو فكر واحد، أو عقيدة واحدة. التعددية ليست مجرّد "واقع يجب التعايش معه"، بل هي المنبع الحقيقي لقوة المجتمعات وحيويتها. وهي، قبل كل شيء، قيمة إنسانية راقية وركيزة أساسية لبناء مجتمعات حية، مزدهرة، ومتقدّمة.
التعدّدية.. ليست تسامحا، بل اعتراف بالثراء
هناك قول للفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي يفيد بأن: "الحوار ليس أن تتكلّم مع من يتفق معك، الحوار الحقيقي هو أن تتكلم مع من يختلف عنك." هذه هي الروح الحقيقية للمجتمع التعددي. إنه ليس مجرد "تسامح" سلبي، حيث نتحمل وجود الآخر بصمت، بل هو احتفاء نشط بالاختلاف. إنه الاعتراف بأن الرؤية الأحادية للعالم ناقصة ومشوهة، وأن الحكمة متناثرة بين الناس جميعا. وكما قال الإمام علي: "الناس أعداء ما جهلوا." فالمعرفة والتعارف هما أداة تجاوز العداء.
التعدّدية هي الفسيفساء الإنسانية وهي لوحة واحدة بألوان لا تحصى وقد شبه نجيب محفوظ المجتمع التعددي بالفسيفساء، قائلا: "المجتمع كالفسيفساء، تتجلى جماليته في تعدد ألوانه."
فلو كانت كل القطع بنفس اللون، لما رأينا ذلك الجمال المبهر. هكذا هي المجتمعات؛ ثراؤها في تنوع أعراقها، لغاتها، تقاليدها، ومعتقداتها. هذا التنوّع هو ما يخلق نسيجا اجتماعيا قويا ومقاوما، كالغابة التي فيها أنواع شتى من الأشجار، فهي الأكثر قدرة على مواجهة العواصف.
منذ أمد بعيد، كانت المجتمعات التي تضمّ مجموعات من الثقافات والمعتقدات تمثل نموذجا للتعايش، حيث يعيش الناس من مختلف الأديان والعرقيات جنبا إلى جنب في تناغم. وعلى الرغم من أن بعض الأصوات قد ترتفع هنا وهناك لتروج لمفاهيم الانغلاق والتمييز، فإن الحقيقة الثابتة هي أن التعددية مصدر حيوي للغنى الثقافي والاجتماعي. فالتنوع لا يثري الحياة اليومية فحسب، بل يسهم بشكل كبير في تطور الفكر والمجتمع ككل.
التعددية: مصدر قوة وإبداع
أولًا، التعدّدية مصدر قوة. فهي مَعينٌ حيويّ للابتكار والإبداع. كما يشير الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في كتابه "العقد الاجتماعي" إلى أن: "الحرية في التعددية هي التي تتيح لكل فرد أن يسهم برؤيته الخاصة ويثري مجتمعه بأفكار جديدة." المجتمعات التي تحتوي على تنوع عرقي وديني وفكري تكون أكثر قدرة على الابتكار، لأنها تتيح للناس من خلفيات مختلفة تبادل الأفكار وطرح حلول غير تقليدية للمشاكل. في هذا السياق، يأتي الابتكار من دمج الأفكار المتنوّعة، أو من الإبداع الجماعي بين أفراد لا يشتركون في نفس الدين أو المذهب أو الثقافة.
ثانيًا، تساهم التعدّدية في تعزيز قدرات التواصل بين الأفراد من خلفيات متنوعة. يقول عالم الاجتماع الأمريكي روبرت بيل في دراسته حول التعددية الثقافية: "المجتمعات المتنوعة تؤدي إلى تواصل ثقافي وتبادل معرفي غزير." هذا التواصل المستمر بين أفراد المجتمع من خلفيات مختلفة يعزز التفاهم المشترك ويكسر الحواجز الثقافية التي قد تعيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي.
ثالثًا، تجعل التعددية الأفراد أكثر قدرة على الفهم والاحترام. كما يشير مالكوم إكس في أحد تصريحاته الشهيرة: "التنوع هو الذي يسمح للأمة أن تستوعب الآخر وتتعلم منه، وتحقق التقدم من خلال تبادل الخبرات." نعم، وبحق، في مجتمع متعدّد الثقافات، يتعلم الأفراد كيف يتعاملون مع اختلافاتهم، ويكتسبون مهارات جديدة في حل النزاعات والتفاوض والتواصل الفعّال—وهو أمر حيوي في عالم يشهد تزايدا في الترابط بين الأمم والشعوب.
رابعًا، تساهم التعددية في بناء مجتمع أكثر عدالة وشمولية. عبر النظر في الأديان والمعتقدات المختلفة، يجد الأفراد طرقا للتصالح مع بعضهم البعض، ويدركون أهمية احترام الحقوق الإنسانية والمساواة. وفقا للمفكر الهندي أمارتيا سِن: "إن التعدّدية تضمن أن كل فرد يملك نفس الحقوق والفرص." وهو يؤكد على أهمية دمج مختلف الفئات الاجتماعية والإثنية في التنمية السياسية والاجتماعية.
التعدّدية ودورها في تقدّم الأمم
على مستوى أوسع، تعتبر التعددية عنصرا حيويا في تقدم الدول والمجتمعات. المجتمعات التي تحتفل بالتنوّع وتستثمر فيه تشهد مستويات أعلى من التطور الاجتماعي والاقتصادي. فمثلًا، الدول التي تحتضن التنوّع—ككندا—تتمتع بسمعة عالمية في تقديم فرص تعليمية وعملية عادلة للمواطنين من مختلف الخلفيات. هذا يشجع على التماسك الاجتماعي ويسهم في تطور الاقتصاد بشكل مستدام. كما يلاحظ روبرت بوتنام: "الدول التي تحتفظ بتعدّدية اجتماعية ودينية تخلق بيئة مستدامة للنمو الاجتماعي والاقتصادي." ولا يقتصر أثر التعددية على الجانب الثقافي والأخلاقي، بل يمتد إلى مجال الابتكار والاقتصاد. ففي دراسة حديثة لمعهد ماكينزي العالمي، وُجد أن الشركات التي تضم فرق عمل متنوعة عرقيا وثقافيا هي أكثر ابتكارا وتحقيقا للأرباح. لماذا؟ لأن وجهات النظر المختلفة تدفع إلى التفكير خارج الصندوق أو إطار التفكير المتجانس، وتولد حلولا إبداعية للمشكلات. المنظور الواحد ينتج أفكارا متماثلة، بينما يخلق الاختلاف ساحة لولادة الجديد. ويؤكد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما هذه الفكرة بقوله: "إن تنوعنا هو مصدر قوتنا، وليس ضعفنا." فالأمة التي تستطيع أن تجمع بين مواطنيها من مختلف الخلفيات تحت مظلة المواطنة المتساوية والعدالة، هي أمة تستفيد من كل طاقات أبنائها دون استثناء.
كيف نبني مجتمعًا تعدّديًّا حقيقيًّا؟
بناء المجتمع التعددي لا يحدث بالتمني، بل يتطلب:
التعليم: غرس قيم الاحترام والفضول تجاه الآخر منذ الصغر.
العدالة: ضمان المساواة في الحقوق والواجبات لكل المواطنين، بغض النظر عن انتماءاتهم.
الحوار: خلق مساحات آمنة للقاء والتواصل بين مكونات المجتمع المختلفة، لأن الخوف والجهل هما أعداء التعددية.
الثقافة والفنون: دعم الإنتاج الثقافي الذي يعكس هذا التنوّع ويحتفي به.
وليس من زائد القول هنا الإشارة ، كمثال، إلى ما دعا إليه أكثر من أكاديمي أمريكي، من بينهم لويس مونتروز، حول انتهاج سياسة في التربية والتعليم في الولايات المتحدة تهدف إلى جعل المناهج تخاطب الجميع—الملوّنين والنساء والمهاجرين—وليس الإنسان الأبيض وحده، في خطوة تهدف إلى جعل الجميع يشعرون بالانتماء الثقافي قبل العقائدي للوطن.
سوريا والتعددية
أما عن سوريا التاريخ فقد كانت دوما نموذجا للتعددية، فقد عاشت سوريا، على امتداد تاريخها العريق، نموذجا حيا للتعددية. من حلب إلى دمشق، ومن اللاذقية إلى الحسكة، شكلت شعوب وأديان وطوائف نسيجا اجتماعيا غنيا، تعلم فيه الجار من جاره، وتعلم الطفل في المدرسة أن الاختلاف لا يعني العداوة، بل فرصة للتعلم والنمو. لكن بعض الأصوات اليوم، المسلحة بالجهل أكثر من سلاحها المادي، تريد أن تمحو هذه الفسيفساء، وتعيد رسم ما تبقى من جغرافية البلد وسكانه بلون واحد باهت، كأن الحياة لا تزدهر إلا في رتابة الموت!
سوريا، كمهد للحضارات، كانت عبر تاريخها نموذجا للتعايش. هي أرض جمعت بين الآراميين والآشوريين واليونان والرومان والعرب، وبين المسيحيين والمسلمين واليهود ومذاهبهم المتعددة. هذا هو جوهرها الحقيقي، وليس الصورة الضيقة التي يروج لها المتطرفون.
التعددية ليست ضعفا، بل قوة.
التعددية ليست فوضى، بل نظام دقيق من التفاعل والاحترام المتبادل.
والتعددية ليست تهديدا للهوية، بل توسع لها، وتنويع لروافدها.
لنتذكر قول نيلسون مانديلا، رمز المصالحة والتعددية في جنوب إفريقيا: "لا يوجد مستقبل لأي بلد يحاول أن يبني نفسه على استبعاد جزء من شعبه."
وقد أدرك الفلاسفة والمفكرون منذ قرون أن التنوع هو وقود التقدم. فالمجتمعات الأحادية، مهما بلغت من الانضباط، تصاب بالركود الفكري، وتصبح عرضة للانهيار عند أول اختبار. أما المجتمعات المتعددة، فهي كالنهر الجاري: تتجدد مياهه من روافد مختلفة، فلا يجف، ولا يتعفن.
يؤكد عالم الاجتماع روبرت بوتنام أن: "المجتمعات المتنوعة، رغم التحديات الأولية، تنتهي إلى أن تكون أكثر إبداعا، أكثر تسامحا، وأكثر قدرة على حل المشكلات."
لأن في التعددية، يتعلم الإنسان أن وجهة نظره ليست الوحيدة، وأن الحقيقة قد تكون متعددة الوجوه. يتعلم أن الاختلاف في العقيدة لا يلغي الإنسانية المشتركة، وأن التنوّع في اللغة أو العرف لا يضعف الوطن، بل يثريه.
في عالمٍ يتسارع نحو، وفي، العولمة، لم يعد الانغلاق خيارا ذكيا، بل انتحارا فكريا وحضاريا. الدول التي تحتضن تعدديتها—كندا، سويسرا، سنغافورة—لم تكتف بالتعايش السلمي، بل حولت اختلافاتها إلى محرك للابتكار، وجسر للتفاهم الدولي، وسبب لجذب العقول والمواهب من كل صوب.
أما من يرفع السلاح ويصرخ: "لا مكان هنا إلا لفئة واحدة!"، فهو لا يدافع عن دين أو هوية، بل يعلن استسلامه أمام عجزه عن فهم العالم، وخوفه من الآخر. وهو بذلك يكرس ثقافة الموت، لا ثقافة الحياة.
إن بناء وطن حقيقي لا يبدأ بإخلائه (أو تطهيره) من "الآخر"، بل باحتضانه.
لا يبدأ بإسكات الأصوات المختلفة، بل باستماع صادق لها.
ولا يبدأ بفرض لون واحد على الفسيفساء، بل بحماية كل لون ليكمل لوحته مع غيره.
ضرورة التعددية في بناء المستقبل
في الختام، دعونا نتذكر كلمات محمود درويش، الشاعر الذي عاش التعددية في لحمه ودمه:
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة... على هذه الأرض ما يجعل الحياة حياة." وما يجعل الحياة حياة، هو بالضبط: التنوع، الحوار، الاحترام، والقدرة على أن نرى في وجه الآخر مرآةً لنا، لا سيفًا علينا. فلنُبق فسيفساء وطننا حية، متلألئة، متنفسةً لأنّ سوريا—ككل أوطان العالم الحقيقية—ليست لفئة واحدة، بل لكل من يحبها، ويعمل لرفعتها، بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو لونه أو لغته.
ونستذكر أيضا كلمات درويش التي تقول: "وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافرا.. أنا الغريب والآخر، والنسب هنا طيف من النخيل." الوطن الكبير هو الذي يتسع للغريب والآخر، ويجد في هذا الاتساع ثراءه وديمومته.
في هذا السياق، يرى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس أن:
"التعدّدية ليست عبئا، بل هي ثراء حقيقي للمجتمع، وسر من أسرار تقدمه."
فهو يرى أن قدرة المجتمعات على التقدم تكمن في قدرتها على دمج التعددية في صلب هوية المجتمع.
فلْيكن شعارنا دوما: الوحدة في التنوّع، وليس التوحيد في الانغلاق.
*************************
المراجع
Bell, R. (1993). Cultural Diversity and Social Cohesion. University of Chicago Press.
Huber, J., & van der Linden, L. (2007). The Role of Diversity in the Development of Social Capital. Cambridge University Press.
Putnam, R. D. (2007). E Pluribus Unum: Diversity and Community in the Twenty-first Century. Scandinavian Political Studies.
Sen, A. (2006). Identity and Violence: The Illusion of Destiny. W.W. Norton & Company.
روجيه غارودي: من كتاباته حول حوار الحضارات.
نجيب محفوظ: من الحوارات والأقوال المأثورة.
باراك أوباما: من خطاباته الرئاسية.
محمود درويش: من ديوان "أثر العابر".
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟