أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - رعب التحول: قراءة مع هودجسون*














المزيد.....

رعب التحول: قراءة مع هودجسون*


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8547 - 2025 / 12 / 5 - 20:51
المحور: الادب والفن
    


منذ قرأتها بقيت معي مثل هاجس تقفز حينا إلى مقدمة رأسي في ليل، في عزلة في موقف غير متوقع، إنها قصة ويليام هوب هودجسون القصيرة قصيرة "الصوت في الليل" ، 1907 والتي تحكي عن بحار يعثر على قارب مهجور في وسط المحيط، وعلى متنه رجل مخفي الوجه يروي حكاية تقرف العقل: كيف أن فطرا غريبا، نما على جزيرة نائية، بدأ يلتهم جسد حبيبته، ثم جسده هو، ببطء بيولوجي لا رحمة فيه، ليس كوحش يمزق اللحم، بل ككائن ناعم، متماوج، يعيد تشكيل الهوية من الداخل، حتى لم يعد هناك "هو" أو "هي"، بل كتلة هلامية تنمو في صمت.
نعم، ولأعوام، ظلت هذه القصة في ذهني استعارة ذكية عن الخوف الذي يتجاوز الخوف من اللحظة إلى ما هو الخوف من الاندثار، من التحول غير المرئي، من أن تذوب في شيء لا يشبهك. كنت قرأتها كمحذر فلسفي: احذر أن تفقد شكلك الإنساني.
لكنني فهمت حقيقتها لا حين قرأتها، بل حين لمسَتْني.
لم أكن أتوقع أن يلمسني الليل. لا بالرياح، ولا بالموج، بل بشيءٍ ينتصب في الظلام كشبح صامت، مغطّى بجلد أخضر مخضر، لزج كأنه يتنفس. مددت يدي، فغاصت أطرافي في طبقة هلامية دافئة ببرودة غير طبيعية، كأنني ألمس كبد كائن نائم تحت جلد ميت. لم يكن الماء هو الذي جرني، بل هذا الملمس: ذلك الالتصاق الرطب الذي ينكر الحدود بيني وبينه، كأنه يقول: "لقد كنت بلاستيكا، والآن أنا كائن. وربما… سأكونك."
في تلك اللحظة، لم يعد هودجسون كاتبا من قرن غاب، بل. أصبح صوتا في رأسي، يهمس: "أرأيت؟ هذا ما كنت أقصده."
حينها، كنت وحيدا على الشاطئ، بعد منتصف الليل، حين قررت السباحة. البحر هادئ، والقمر معلق كعين رمادية تراقب . وفي الأفق، تلك الكرات البلاستيكية الضخمة، علامات أمان وضعتها الجهات المختصة لتحديد منطقة السباحة الآمنة. لكن الزمن فعل ما لا تفعله العواصف: غطتها الطحالب والأشنيات، حتى بدت كأجساد نصف غارقة، نصف نابتة.
لم تكن جميلة، ولا مقززة تماما. كانت غريب، بمعنى الكلمة الأنثروبولوجي الأعمق: شيء لا ينتمي، ولا يرفض الانتماء، بل يفرض نفسه كحقيقة جديدة. رحت أقترب، مدفوعا بالفضول أكثر من الشجاعة. ومن بعيد، سمعت قرقعة خافتة، صوت ارتطام الكرة بأخواتها، كعظام ميتة تحركها أشباح....لكن المفاجأة جاءت عند اللمس. لم تكن الكرة صلبة كما توقعت. بل غلفت بطبقة حيوية حية، هلامية، تغرز بها الأصابع ثم تلتصق كأنها تمسك بي. ثم، فجأة، لسعات صغيرة، ربما أسماك فضولية، أو كائنات مجهرية لا ترى بالعين، بدأت تقرص جلدي. شعرت أنني لست غريبا عن هذا الكائن الهجين… بل أنني مدعو للاندماج به.
في تلك اللحظة، انفتحت ذاكرتي الأدبية. لم أعد أفكر في "الصوت في الليل" كحكاية.
أصبحت أعيشها. الخوف لم يكن من الوحش الخارجي، بل من أن هذا الوحش ينمو من الداخل، من تفاعل البيئة، والزمن، والنفايات، والحياة التي ترفض أن تموت، فتعيد تدوير كل شيء، حتى الجسد.
ما الذي يخيفنا حقًا في أعمال هودجسون!؟
ليس الموت. بل التحول.
ليس حتى التحول إلى وحش، بل إلى شيء لا يمكن تسميته. شيء بلا وعي، بلا نية، بلا شكل، فقط نمو، استهلاك، تكرار عضوي أعمى.
مارثا نوسباوم وضحت أن الاشمئزاز ليس رد فعل على القذارة، بل على تهديد حدود الذات. نحن نعرف أنفسنا ككائنات متماسكة: جلد يفصل الداخل عن الخارج، عقل يسيطر على الجسد، شكل يحمينا من الفوضى. لكن ماذا يحدث حين يذوب هذا الجلد؟ حين يلتصق بك شيء لا تعرف إن كان حيا أم ميتا؟
الكرة البلاستيكية المغطاة بالطحالب هي كائن حدودي ( (liminal being لا صناعة بحتة، ولا طبيعة نقية. هي هجين يهدد الفصل الذي بناه الإنسان بين "نحن" و"العالم".
وهنا يكمن جوهر الرعب البيولوجي: ليس أن تقتل، بل أن تعاد كتابتك دون إذنك. أن تصبح وعاء للطبيعة، بعد أن كنت سيدها.
ضحية هودجسون، وكذلك أنا على ذلك الشاطئ، يخشى أن يختفي، لا كروح، بل كجسم. أن يذوب في كائن جماعي، صامت، لا يهمس إلا حين يلمسك.
والأمر الأكثر إثارة: هذا الكائن الهجين لم يأت من جزيرة نائية. جاء من نفاياتنا. وربما هذا هو مصدر رعبنا المعاصر: لا وحوش الظلام، بل تحولات الضوء. لا الغول الذي يأتي من بعيد، بل الهلام الذي ينمو في الظل هو صورتنا التي تركناها وراءنا، إنه الهلام الذي ينمو من قرب، على نفاياتنا، على حدودنا، مذكرا إيانا بأن الفصل بيننا وبين الطبيعة كان وهما جميلا وخطيرا.
.........................................................................
*وليام هوب هودجسون: (1877-1918) كاتب بريطاني مختص بأدب البحر والرعب الكوني، من أهم أعماله رواية أطراف الأرض وقصة الصوت في الليل المذكورة هنا.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يتكلم الجمهور: من لوبون إلى شكسبير إلى يومنا
- بين العزلة والنداء: اختبار وجود
- النهر الذي لم نعبره مرتين: قراءة في قصة نجيب محفوظ -نصف يوم-
- وجهان للحرية: صمت المعرفة وضجيج الواقع
- الكلب*… ذلك المخلوق الذي أحبنا أكثر مما نستحق
- الخوف لا يخلق الإنسان السوي: بين الوازع الداخلي وسلطة الخارج
- تبنى المدن وتترك العقول خرابا
- هل نملك الشجاعة لمراجعة ثقافتنا السائدة؟
- مهرجان الحنفية: مسرحيات الفشل في الأنظمة الديكتاتورية
- كلمات من القلب
- ما لا يعود
- بين ناطحات السحاب وسحابات الدم: هل أصبح التقسيم مصيرا محتوما ...
- الدين لله والوطن للجميع: رؤية في السياق السوري*
- العدو الذي لا نعرفه: التأمل في الصراع الداخلي عبر Face/Off-
- سوريا ليست لفئة واحدة، بل تعددية جميلة لا تُستبدل
- ورقة خريفية في مهب الوجود
- بين ديكنز والخلود: حين يشيخ الزمن ولا نزال نحلم بالشباب
- الماضي بوابة للتأمل… والمستقبل أفق للخلق
- بين الحلم والهيمنة....نحن هنا
- -طلّقني!-


المزيد.....




- أبرز إطلالات مشاهير الموضة والسينما في حفل مهرجان البحر الأح ...
- رغم حكم بالسجن بتهمة -القيام بأنشطة دعائية-... المخرج الإيرا ...
- المشاهير العرب يخطفون الأنظار في المهرجان الدولي للفيلم بمرا ...
- خمسون عاماً على رحيل حنة آرنت: المفكرة التي أرادت إنقاذ التف ...
- احتفاء وإعجاب مغربي بفيلم -الست- في مهرجان الفيلم الدولي بمر ...
- عيد البربارة: من هي القديسة التي -هربت مع بنات الحارة-؟
- افتتاح معرض فن الخط العربي بالقاهرة بتعاون مصري تركي
- عام فني استثنائي.. 5 أفلام عربية هزت المهرجانات العالمية في ...
- صناع فيلم -الست- يشاركون رد فعل الجمهور بعد عرضه الأول بالمغ ...
- تونس.. كنيسة -صقلية الصغيرة- تمزج الدين والحنين والهجرة


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أكرم شلغين - رعب التحول: قراءة مع هودجسون*