محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 19:04
المحور:
سيرة ذاتية
في قرية "العتايج" الوديعة، حيث يُولد الشعر من تراب الحقول ونبض الفؤاد، جاء عباس السلامي إلى الدنيا في صيف 1956م، كأن الزمن أراد أن يودع تموز وهجه بشاعر سيضيئ حزنه على مدى عقود. تربّى بين ظلال النخل ونشيج الماء، وحين اشتد عوده، حمل حقيبة الحلم ومضى إلى بغداد، ليدرس في كلية الإدارة والاقتصاد، لكنه لم يُسلم نفسه لحسابات الأرقام، بل آوى إلى مأوى الروح... الشعر.
اشتغل موظفًا، وعاش حياةً تبدو مألوفة في ظاهرها، لكن في داخله كانت هناك مجرة من الكلمات، تنمو مثل كائن خفيّ، لا يهدأ إلا حين يُفرغ وجعه على الورق. وكان سفره إلى اليمن عام 2000م علامة فارقة في تجربته؛ هناك، بين جبال صنعاء وبخور الشعر، أصدر مجموعته الأولى "دموع على بوابة الحلم"، وكأنها مفتاح خزائن ذاكرة طال كتمانها. ثم تبعتها "رماد الألق" — عنوان لا يُشبه إلا السلامي نفسه: شاعر يجمع بين النور والاحتراق.
لم يكن السلامي شاعرًا مناسباتيًا ولا سجينًا للوزن التقليدي، بل نسّاج رؤى، ينحت من اللغة عوالم خاصة، تتداخل فيها البساطة مع العمق، والمأساة مع الحنين، حتى بدا شعره كأنه سيرة ذاتية لوجدان جريح. أخرج من دواخله "غواية الصلصال"، و"هذيانات عاقلة"، و"رماد لا تشير إليه البوصلة"، ثم أكمل الطريق بـ"من خرم إبرة" و"ذاكرة عذراء" و"غرقى في سراب"، وصولًا إلى "أمطرني بالضوء فأنا أخجل من عتمتي"، وكأنه يكتب على جسد العالم بخط الوجع والرجاء.
النقاد الذين تناولوا تجربته، مثل الشاعر عبد الأمير خليل مراد، قرأوا في السلامي صوتًا شعريًا يتجاوز الظرفي واللحظي إلى سؤال الوجود والذات. بينما رأى فيه حامد خضير الشمري شاعر الحنين المكتوم، والبوح الموارب، الذي يسكب وجعه في كؤوس اللغة بتؤدة عاشق عجوز يعرف خيبة الانتظار. أما الدكتور عامر عبد زيد، فقد وصفه بأنه أحد الأصوات الشعرية التي تمثل الجسر بين الشعرية العربية الكلاسيكية وروح الحداثة المشتهاة، يكتب بعين الذاكرة ويد التأمل.
ولم تكن مشاركاته في المهرجانات والندوات سوى امتداد طبيعي لصوته الداخلي، ذاك الذي لا يريد التصفيق، بل يصبو إلى الإصغاء. عضو في اتحاد أدباء وكتاب بابل، وعضو فاعل في جمعية الرواد الثقافية، لكنه ظلّ — كما يصفه بعض أصدقائه — شاعرًا بلا ضجيج، يمشي إلى المنصة كما تمشي الغيوم إلى الأعالي، خفيفة، لكن مملوءة بالمطر.
عباس السلامي ليس شاعرًا يكتب القصيدة، بل شاعر تعبر القصيدة من خلاله؛ هو صوت يجيء من زمن لا نعرفه، يسكن اللحظة، ويتركنا بعده نحدق في الفراغ ممتلئين، كمن تبلّل بالحلم. في حضرته، تتوقف اللغة عن الادعاء، وتصير شرفةً على الغياب، أو نايًا وحيدًا في مساء طويل.
#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟