أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - الانتحار كفعل مسرحي وفلسفي















المزيد.....

الانتحار كفعل مسرحي وفلسفي


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8536 - 2025 / 11 / 24 - 19:13
المحور: قضايا ثقافية
    


الانتحار ليس مجرد فعل فردي، ولا يمكن النظر إليه بمعزل عن النص أو الحدث. إن الفعل الانتحاري يسجل نفسه في هوامش الواقع، بين الكلمات غير المنطوقة والفراغات التي تتجاوز القراءة المألوفة. تصبح هذه الهوامش شظايا معاني محتملة لا تُستوعب إلا عبر القارئ الذي يتقمص أدوار المؤرخ والمفسر والمستكشف والمدوّن معًا، ليعيد تركيب شبكة المعنى من شظايا الغياب والحضور والتفاعل بين النص والمشهد والزمان الاجتماعي والنفسي.
حين ننظر إلى الانتحار، لا ينبغي أن نبحث عن الموت بل عن المشهد: الفعل الانتحاري ليس انتقالًا من حضور إلى غياب، بل انتقال من خطاب خاضع إلى عرض أخير يستعيد فيه الجسد حريته من قبضة السلطة. كل منتحر يصبح مخرجًا مضادًا يعيد كتابة نص حياته ضد نص المجتمع
الفضاءات المسرحية للانتحار
1. خشبة الجسد
الجسد هنا ليس موضوعًا يُمارس عليه النفوذ، بل وثيقة حية للحرية المؤقتة، لحظة تتشابك فيها القوة والعنف، حيث تتآكل السلطة أمام قرار فردي مفاجئ، ويصبح الجسد نصًا يقرأه الزمن والمشهد الاجتماعي معًا.
2. كواليس السلطة
ما وراء الانتحار غرف مظلمة تتعدد فيها الخطابات: العائلي والطبي والديني والاجتماعي، كلها تمارس تدريبات خفية على الطاعة. الانتحار تمرد نصي على هذه السلطة المزدوجة، فصل من المخطوطة لم يُسمح بكتابته لكنه يُقرأ في الهوامش بعد الفعل.
3. صالة الجمهور
الجمهور يرى النهاية فقط، لا يعرف السيناريو الكامل، ويظل مشهدًا مفتوحًا لتأويله. المفارقة هنا أن المجتمع يشارك، ربما دون وعي، في كتابة النهاية لكنه لا يملك مفتاح فهمها إلا بعد أن يكون النص قد تجزأ.
4. النص المحذوف
كل منتحر يترك خلفه مسرحية بلا فصل أول، ونحن نقرأ الفصل الأخير ظانين أننا نفهم بينما الحقيقة تكمن في تداخل الغياب والحضور، في المسافات بين الكلمات المنطوقة وغير المنطوقة، وفي شظايا المعنى التي تتطلب من القارئ أن يكون مؤرخًا ومفسرًا وراصدًا في الوقت ذاته.
الانتحار لا يقتل الفرد فقط، بل يفكك المسرح كله كوثيقة وجودية، ويتركنا نحن، كقراء، نحدّق في الخشبة الفارغة قبل أن يكون النص مكتوبًا، غير قادرين على معرفة ما إذا كان العرض قد انتهى أم أننا نحن الذين تأخرنا عن الدخول. السؤال عن النهاية يصبح بالتالي سؤالًا عن البداية، وعن القارئ الذي يقرأ قبل أن يسمح له بالفهم، وعن الزمن الذي يكتب نفسه في الفراغات بين ما قيل وما لم يُقل.
حين ينتحر أحدهم، لا ينهار الجسد بل تُسحب العارضة الأخيرة من سقف بنية كاملة. الذات التي تغادر لا تغادر كفرد، بل كاختبار أخير لمؤسسة لم تستطع أن تحتمله. فالانتحار ليس حدثًا بل محو لنظام كانت اللغة تحاول التظاهر بأنه متماسك. ما يسقط ليس الجسد، بل المخطط السري الذي يوزّع الأدوار ويقرر كيف يجب أن يكون المرء. في العمق، الانتحار أشبه بصرخة تُسمع فقط في الأماكن التي اعتادت الصمت، حيث تتحول الرعشة إلى نص، والنص إلى توقيع غير قابل للتزوير.
مع كل غياب مفاجئ، يتسع العالم كما لو أن مساحة جديدة أضيفت إلى الخريطة القديمة، مساحة لم يرها أحد لأنها لم تكن قابلة للرؤية إلا عبر فجوة، فجوة فتحها من قرر أن يخرج من النص ليكشف أن اللغة — كل اللغة — لم تكن سوى هندسة طارئة لتغطية هشاشتنا.
الانتحار لا يحدث داخل النظام، بل يقع في الحافة التي لا تمتلك اللغة مفردات لتسميته. هو ليس عصيانًا، لأن العصيان يتكلم لغة الجماعة، بل هو خروج من المدونة، انقطاع عن النحو الاجتماعي، حيث يصبح الجسد وثيقة تسترجع ملكيتها بنفسها معلنة: «هذا الشكل لم يعد صالحًا لأن يُضمّ إلى هذه المدينة». لذلك تكره المجتمعات الانتحار: لأنه ليس تهديدًا بل مرآة، مرآة مكشوفة تجعل النظر فيها نسفًا للحقيقة المتداولة. المنتحر ليس ضحية، بل شاهد يحمل واقعة لم تحتمل الثقافة ظهورها، واقعة تُترك كحفرة في الذاكرة الجماعية، تسرّب معنى لا يملك أحد أدوات فهمه.
ما يبقى بعد الانتحار ليس فراغًا، بل مساحة لا ينجح أي تفسير في احتوائها. كل محاولة لفهمها تتشقق من الداخل، لأن المشكلة ليست في سبب الانتحار، بل في الآلة التي جعلت السبب ضروريًا. ورغم أن العالم يستطيع أن يتعلم شيئًا من هذه الفجوات، إلا أنه يفضل الصمم، لأن الاعتراف بما حدث يعني الإقرار بأن نظامًا كاملاً — ثقافيًا ومعرفيًا — قد أخفق.
الانتحار ليس هروبًا من الحياة، بل انهيارًا في الخطاب الذي اختصر الحياة إلى ما لا يُحتمل. ليس فعلًا ضد الحياة، بل ضد الشكل الذي اختطف الحياة. إنه لحظة يعود فيها الجسد إلى كونه محض طاقة بلا هوية، لا موت هنا، بل انفلات من جهاز الإنسان الذي صاغته السلطة الأخلاقية. المنتحر يفتح ثقبًا في جدار العالم، ثقبًا لا يمكن إغلاقه لأن كل حياة يائسة تعثر على صداها هناك.
الانتحار وثيقة ضد نظام لم يصغِ لصمت جسد سحقته تقنيات السلطة: العائلة، العيادة، المدرسة، الدولة. المنتحر ليس هاربًا، بل شاهد خرج من الزمن ليكشف الطقوس الهادئة التي نرتكب فيها قتلنا البطيء. حين ينتحر أحدهم، لا يموت هو؛ تموت نسخة المجتمع التي صاغته. المرآة المحطمة تعيد توزيع الضوء، وفي كل انتحار يولد مفهوم جديد: الجسد بلا جهاز، الحياة بلا مراقب، الذات بلا تاريخ. يصبح المنتحر أرشيفًا يواصل الكتابة في غياب صاحبه.
الانتحار ليس نهاية الحياة، بل نهاية عالم لم تعد الحياة تجد فيه مكانها. إنه افتتاحية للحضور المراقب، حيث يصبح الألم فرديًا وجماعيًا في آن واحد. الفرد يموت، لكن الحدث يبقى: جسمه يتحول إلى نص مفتوح، والزمان يصبح مسرحًا للتفاعلات الغائبة. السلطة تحضر حتى في الغياب، الألم يُسرد بلا لغة، لكنه يُقرأ في الفراغ بين الكلمات، في هوامش المجتمع حيث يكتب كل مراقب دوره غير المرئي.
الانتحار فعل إلغاء وتحويل: إلغاء الذات وتحويلها إلى رمز مهيمن على المشهد الاجتماعي، حيث يسائل كل نسيج علاقات حول هشاشته. كما في المسرح، لا يكفي مجرد الفعل، بل يجب أن يكون معايشًا ومستشعرًا ومتخيلًا من قبل الآخرين حتى يكتمل نص الحدث. الجمهور الصامت هو النص الآخر للانتحار؛ كل نظرة، كل غياب، كل صدمة تولد تواصلًا سريًا بين الموت والحياة. الانتحار يكشف الزمن الحقيقي للحياة: اللحظة التي تنكسر فيها الأحداث الفردية وتصبح مرآة للكل.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أرشفة الغامض
- ما قبل الفراغ المسرحي
- ما قبل الفراغ المسرحي / سيرة الفراغ المسرحي
- صيغ التغير واللايقين المعرفي في الظواهر الاجتماعية والفردية
- هوامش فلسفية II
- برج بابل
- الفضاء الأبيض (المسرح الداخلي)
- عن هوامش الرحلة
- عن زيارتي الأخيرة إلى جزر القمر
- القراءة بوصفها تحريضًا فلسفيًا – I
- ملحوظات أولية حول المسرح
- كولاج
- بريخت بين الاستهلاك الأكاديمي وسوء الفهم المعرفي
- تمارين في ميتافيزيقا الشعر
- في خطأ التقسيم وأوهام التصنيف في الخطاب المسرحي
- لقد عبث المجد بفرائك
- قصيدة تشريحية تقريبًا (تمارين في ميتافيزيقا الشعر)
- أماكن أخرى للهذيان
- في مديح بيكاّسو
- المظهر الكوميدي لمأساة قديمة


المزيد.....




- في اتصاله مع بوتين.. أردوغان يعرض المساعدة بالمفاوضات حول أو ...
- تطوير خلايا دماغ لعلاج الإدمان
- مقتل ثلاثة فلسطينيين بنيران الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وح ...
- بركان -هايلي غوبي- في إثيوبيا يثور للمرة الأولى في التاريخ ا ...
- هجوم انتحاري يستهدف حرس الحدود في بيشاور.. وباكستان: المهاجِ ...
- ميرتس لا يتوقع تحقيق تقدم في المحادثات بشأن أوكرانيا هذا الأ ...
- إحلال السلام في أوكرانيا: خطة ترامب بين -لاءات كييف الثلاث- ...
- العنف ضد المراة : هل تكفي القوانين القائمة للحد من الظاهرة؟ ...
- إسرائيل تقتل قياديا في حزب الله إثر غارة على الضاحية الجنوبي ...
- إسرائيل تتأهب على رد محتمل من حزب الله بعد اغتيال أحد قياديي ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - الانتحار كفعل مسرحي وفلسفي