أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - أرشفة الغامض














المزيد.....

أرشفة الغامض


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 15:47
المحور: قضايا ثقافية
    


المحاكاة ليست مجرد فعل يقف قبالة أصل محدد إنها تلك المنطقة التي يتبادل فيها الأصل وصورته الأدوار حتى يفقد الأصل امتيازه ويغدو بدوره صورة لصورة أخرى فالمحاكي والمحاكى لا يتواجهان إنهما ينسلان إلى بعضهما كما تنسل العلامة إلى معناها ثم تتخلى عنه وعندما تحدث أرسطو عن ميل الإنسان الفطري إلى المحاكاة كان يشير دون أن يسميه إلى ذلك الافتتان الأول الذي لا يميز بين الشيء وتمثيله لأن التمثيل ينجح دائما في أن يقدم نفسه بوصفه أكثر قابلية للفهم من الشيء نفسه فشبيه الأصل لا يقلد الأصل بقدر ما يكشف هشاشته ويمنحه شكلا يمكن القبض عليه ولو لوهلة لكن هذا الشبيه لا يظهر كاملا إنه يخفي عمدا ما لا يمكن تقليده كي لا ننخدع بيسر الصورة على حساب عسر الشيء فالمحاكاة ليست اختزالا بل اقتصادا في الظهور تحفظ ما يمكن أن يقال وتترك للمحو مهمة ما لا يمكن قوله ولأن التفكير لا يحدث في الرأس فقط بل في الفعل تصبح المحاكاة فعلا يفكر الفعل المحاكي ليس بديلا عن الفعل المحاكى إنه إعادة كتابته بلغة أخرى تحويله من حدث متحرك إلى شكل يمكن تأمله كل محاولة للتثبيت ليست سوى سحب للشيء من فوضى الحركة إلى وضوح السكون من العتمة إلى ما يبدو ضوءا لكنه يظل مجرد إضاءة تقنية للنص المحاكى هو النص الذي نراه أما المحاكي فهو القارئ الذي لا نراه القارئ الذي يكتب النص من جديد وهو يقرؤه يبدل علاماته يعيد ترتيب مقصديته ويمده بحياة ثانية الأصل هنا يفقد امتيازه إذ إن النص لا يولد إلا عندما يمر عبر عين لا تظهر عين تكتب أكثر مما تقرأ وتعيد صياغة الواقع لا من أجل تفسيره بل من أجل مضاعفة احتمالاته وهكذا تصبح المحاكاة حقلا تتبادل فيه العلامات مواقعها ساحة لا نبحث فيها عن الحقيقة بل عن ذلك الاهتزاز الذي يجعل الحقيقة ممكنة
المحاكاة ليست مواجهة لشيء نعرفه بل هي طريقة لالتقاط ما ينسحب من معرفتنا إنها الأرشيف الذي لا يحفظ الغامض بل يتركه معلقا في شكل يمكن رؤيته دون أن يكشف نفسه تماما فالمحاكى هو النص الذي نظنه ثابتا النص الذي نمد له يدنا كي نثبته لكن الثبات هنا ليس سوى قشرة ناعمة فوق حركة أعمق لا يمكن القبض عليها والمحاكي هو تلك الحركة الخفية التي تحاول الإمساك بما يفلت دائما فالمحاكاة لا تكرر الأصل بل تمنحه صيغة تجعل غموضه قابلا للقراءة إنها تحويل الغامض إلى أثر أثر لا يشرح شيئا لكنه يمنحنا طريقا نعود منه إلى الغموض نفسه فكل نص نحاول تثبيته هو في الحقيقة نص يتظاهر بالثبات فقط ليتيح للمحاكاة أن تكشف رجفته الأولى وعندما نمارس المحاكاة نكتب ما لا يريد أن يُكتب نستدعي ما يرفض أن يُستدعى ونحوّل الانسحاب إلى حضور مؤقت حضور يكفي لكي نسمع ما لا يمكن قوله لا لكي نعرفه بل لكي نلمس لمعانه وهو يبتعد
أرشفة الغامض لا تنتمي إلى فعل التجميع بل إلى حركة يُعاد فيها التفكير بالجمع نفسه؛ إذ تنقلب الأرشفة من مستودع للثبات إلى جهاز يكشف هشاشة ما يُراد تثبيته. فكل محاولة لإيقاف الغامض عند لحظة قابلة للتدوين تنتهي إلى إظهار ما يفلت، لا ما يستقر، لأن ما يُطلب حفظه هو في جوهره ما يقاوم الحفظ، وما يُساق إلى التصنيف يتحول إلى ما ينقلب على كل تصنيف. إن فعل الأرشفة هنا ليس احتواءً بل انكشافًا لانفلات الأصل، لما لم يكن حاضرًا يومًا لكنه يترك أثرًا يطالب بأن يُتبع.
وحين تنزلق اللغة إلى لفظ «الغوامض» وتوحي بأنه تسمية بريئة تشير إلى صغار الإبل أو المرض غير المعروف السبب، فهي تمارس لعبة أعمق: تكدّس في الكلمة رسوبًا يربط ما هو صغير بما هو مستغلق، وما يلتصق بالجسد بما يتوارى في الرمل. كأن اللغة تختبر منذ بداياتها قدرتها على تمرير ظلالٍ مزدوجة في مفردة واحدة، ظلال تجعل الدلالة تمتد بين ما يُرى وما لا يُرى، بين تناثر الجسد واستعصاء المعنى. إن هذا التراكب ليس انحرافًا في اللسان، بل بنية تجعل اللفظ نفسه فضاءً يتقاطع فيه المحسوس واللامرئي.
وعندما تُعرّف المذاهب الحديثة الإنسان بوجوده في العالم، فإنها تبني مفارقة لا تُحسَم: كيف يمكن لوجود أن يتحدد دون أن يصير شيئًا، ودون أن يتبخر إلى وعي بلا مقاومة؟ بين الشيء الذي يفتقر إلى الأفق والوعي الذي يفتقر إلى العالَم، تتكون منطقة يتعذر تثبيتها—منطقة لا تستقر داخل حدود الوجود ولا تنتمي إلى العدم، بل تنفتح لما هو غير قابل للأرشفة، لما يسكن الشقّ بين حركة الذراع واتجاه النظر، بين اندفاع الجسد وتأخر الدلالة التي تلحق بالحركة كظلّ لا يصل أصلَه.
وحين يتعامل الفكر مع هذه المنطقة بوصفها معطى شفافًا، كما لو أن رفع المطرقة أو النظر إلى الساعة فعل واضح لا يحتاج إلى تفسير، فإن الوضوح نفسه يتحول إلى الغامض الأول، ذلك الغامض الذي لا أرشيف له، لأنه هو ما يتيح للأرشيف أن يوجد. فما يسبق فعل التدوين لا يمكن تدوينه دون أن ينقلب على صيغته، وما يجعل ظهور المعنى ممكنًا يظلّ متوارياً خلف كل ظهور.
ومن هنا يتشكل السؤال الذي لا يمكن التخلص منه: كيف يمكن حفظ ما يمنح الحفظ معناه؟ كيف يُثبَّت ما يفتح باب التثبيت؟ وهل يمكن لأرشفة الغامض أن تحتفظ بغموضه دون أن تحوّله إلى شيء؟ ما يظهر هو أننا لا نكتب إلا أثرًا يتأخر دومًا عن أصله—أصل لم يكن حاضرًا قط، لكنه يفرض نفسه كطيف يعبر النص ويطالب بمتابعة أثر لم يحن أوانه بعد.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما قبل الفراغ المسرحي
- ما قبل الفراغ المسرحي / سيرة الفراغ المسرحي
- صيغ التغير واللايقين المعرفي في الظواهر الاجتماعية والفردية
- هوامش فلسفية II
- برج بابل
- الفضاء الأبيض (المسرح الداخلي)
- عن هوامش الرحلة
- عن زيارتي الأخيرة إلى جزر القمر
- القراءة بوصفها تحريضًا فلسفيًا – I
- ملحوظات أولية حول المسرح
- كولاج
- بريخت بين الاستهلاك الأكاديمي وسوء الفهم المعرفي
- تمارين في ميتافيزيقا الشعر
- في خطأ التقسيم وأوهام التصنيف في الخطاب المسرحي
- لقد عبث المجد بفرائك
- قصيدة تشريحية تقريبًا (تمارين في ميتافيزيقا الشعر)
- أماكن أخرى للهذيان
- في مديح بيكاّسو
- المظهر الكوميدي لمأساة قديمة
- المراثي الوطنية


المزيد.....




- وسط أنباء عن خطة لإنهاء الحرب.. مصادر روسية لـCNN: اتصالات ر ...
- هددت الصين بالرد عسكريًا.. هل تشعل رئيسة وزراء اليابان فتيل ...
- حريق ضخم يلتهم حيًا يابانيًا بأكمله.. وإجلاء أكثر من 175 شخص ...
- إسرائيل تصدر أوامر إخلاء لمبانٍ في جنوب لبنان لشنّ ضربات جدي ...
- أول قبلة عمرها 21 مليون سنة وفق تقديرات العلماء
- -إرهابيو الغد سيتلقون تدريبهم أونلاين- – مقال في التلغراف
- إسرائيل تحذر سكان جنوب لبنان مع غارات على -بنى تحتية- لحزب ا ...
- الصباغ يحصل على الدكتوراه من جامعة عين شمس عن ظاهرة “التسمم ...
- رئيس بلدية جنين محمد جرار: المستوطنون يتلقون تدريبا من الجيش ...
- فرنسا: بعد حادثة السرقة... إدارة متحف اللوفر تقرر تركيب مئة ...


المزيد.....

- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - أرشفة الغامض