ميشيل الرائي
الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 05:53
المحور:
الادب والفن
في زمن بعيد كانت الأرض كلها تتكلم بلسان واحد ذلك اللسان لم يكن مجرد وسيلة للتفاهم بل شبكة خفية تنسق العالم كما تنسق القواعد الموسيقية نفسها وحين مضى الناس شرقاً لم يحملوا اللغة وحدها بل خيوط نظامها كذاكرة للنغمة التي يخشى المسافر أن ينساها هناك في بقعة منبسطة ومضيئة قرروا بناء مدينة تجمعهم وبرج يحميهم من التشتت البرج لم يكن مشروعاً هندسياً بل محاولة لصنع معنى واحد نهائي أو هكذا ظنوا للحظة قصيرة
اللغة خانتهم أو استعادت حريتها الأصوات تفرقت والكلمات تحولت إلى مرايا تكشف وجوه الحقيقة الواحدة لم يعد أحد يفهم الآخر لأن كل واحد بدأ يترجم العالم بلغته الخاصة منذ تلك اللحظة وُلدت بابل لم تكن مجرد مدينة البلبلة بل مدينة المعرفة المكان الذي يتعلم فيه الإنسان أن الوحدة وهم وأن المعنى لا ينبت إلا في الاختلاف وأن الاختلاف ليس حادثاً بل شرط اللغة منذ البدء
البرج كل برج هو نص غير مكتمل كتابة تتأرجح بين صعود وسقوط لغة تسعى للبقاء والمعنى يتفكك في تعدد تأويلاته كل محاولة للسيطرة على الوحدة اللغوية تكشف التعدد كل طموح لفهم الكلمة في لحظة واحدة ينكشف فيه الشرخ، الشرخ الذي لم يُخلق في بابل بل انكشف فيها، شرط مسبق للغة نفسها
كل لغة تبني برجها الخاص وكل قارئ بابل صغيرة وكل قراءة تنهض من أنقاض نفسها الكتابة ليست تذكيراً بالكلمة بل نسيانها المنظم وكل محاولة لإعادة إنتاج المعنى تعيدنا إلى انهيار البرج نفسه لأن كل صعود لغوي يمر عبر سقوط تأويلي وكل سقوط يكشف طبقات النص التي لا تتوقف عن التشظي
في بابل لم تُبنى المدينة بالحجارة بل بنفس واحد أراد أن يصبح معنى وحين تكاثرت الأنفاس اكتشفت اللغة أن وحدتها كانت وهمًا من وعود الطين الوعي لا يولد في الوضوح بل في الضجيج الضجيج الذي لا يُفسر الضجيج الذي يُنشئ المدينة والمعنى والبرج في آن واحد حيث كل كلمة تحمل الغياب وكل معنى يحمل بذرة انهياره
الله لم يبلبل الألسنة بل حرر الكلمات من عبودية الدلالة الواحدة لا توجد لغة أم أو لا وجود للغة الأولى فقط أثرها وكل أثر يحمل في داخله عطب الأصل كأن الله حين نطق أول كلمة نسي معناها ربما لم يفهم البشر بعضهم في بابل لأن اللغة تجاوزت قدرتهم على الفهم اللغة لا تخون الإنسان بل تسبقه دائماً بخطوة نحو المجهول من يبحث عن اللغة الأولى إنما يبحث عن الصمت الذي سبقها كل معنى يفكر في نفسه يبدأ بالاشتباه في برجه الخاص الكتابة ليست تذكيراً بالكلمة بل نسيانها المنظم في كل بابل داخلنا برج لم يكتمل يرفعنا إلى الأعلى كلما سقط فكرة لسان واحد حلم السلطة كل وحدة لغوية تستبطن عنفاً ميتافيزيقياً يسعى لإلغاء الاختلاف باسم النقاء بابل انهيار هذا الحلم وتحرر المعنى من احتكار الإله الصوتي الأسطورة تخفي في جوهرها فكرة سيميائية عميقة أن اللغة لا تنتمي لأصل إلهي بل إلى عملية دائمة من التوليد الرمزي البلبلة ليست فوضى بل نظام جديد في طبقات العلامة
في لحظة انهيار البرج لم تتكلم الأرض بلغات شتى بل انكشف التصدع الأصلي في بنية الدال الاختلاف لم يخلق في بابل بل انكشف فيها بوصفه شرط اللغة منذ البدء بابل ليست حادثة لغوية بل نموذج معرفي كل نظام دلالي يسقط حين يحاول الوصول إلى الاكتمال المعنى لا يستخرج من النص بل يعاد إنتاجه عبر آلية القراءة ما نسميه البلبلة لحظة مقاومة للشفافية الكلمة لا تريد أن تفهم بالكامل لأنها في جوهرها تحيا في تأجيل الدلالة اللغة لا تسعى إلى التفاهم بل إلى البقاء التعدد ليس انقساماً بل شكل من أشكال البقاء الرمزي كل لغة تنقذ المعنى من الموت في لغة أخرى البلبلة طريقة الوجود في مواجهة الفناء السيميائي
البرج لم يكن مشروعاً نحو السماء بل نحو الأصل المفقود حين انهار أدرك الإنسان أن كل صعود لغوي يمر عبر سقوط تأويلي انهيار البرج لم يكن نهاية البناء بل بداية النص النص البرج الذي لا يتم ذاته لأنه يُبنى بالقراءة لا بالحجر تعدد اللغات الخلاص من أب طاغ اسمه المعنى الواحد اللغة لا تطيع تميل إلى التمرد تخلق نظامها في قلب الفوضى الاختلاف ليس في اللغات بل في العين التي تنظر إلى اللغة كل قارئ بابل صغيرة وكل قراءة برج يتأرجح بين الصعود والهاوية لم تبن بابل بالحجارة بل بنفس واحد أراد أن يصير معنى وحين تكاثرت الأنفاس اكتشفت اللغة أن وحدتها كانت وهماً من وعود الطين
تعدد الألسنة لم يكن سقوطاً بل بداية الفكر الوعي لا يولد في الوضوح بل في الضجيج الذي لا يفسر في بابل الأسطورة انهار البرج في بابل الوعي لا يزال ينهار في كل جملة تكتب اللغة ليست أداة للفهم بل آلة كونية للتأجيل كل كلمة تصف شيئاً تخلق ظلاً لما لا يقال أراد البشر أن يصعدوا إلى الله فاكتشفوا أن الله يقيم في المسافة بين كلمة وأخرى تلك المسافة الجنة التي أغلقت علينا منذ البدء بلبلة الألسنة لم تكن تعدداً في الصوت بل تعدداً في الحقيقة كل لغة تحمل لاهوتها الخاص ولا تترجم إلا عبر فقد مؤلم للمعنى حين تتكلم اللغات كلها تصمت الحقيقة الحقيقة لا تقال بل تترجم على نحو سيئ في كل لسان
الكتابة ليست محاولة قول ما لا يقال بل إقامة طقس حول الغياب كل نص بابل صغيرة تنهض من أنقاض نفسها لعل البرج لم يسقط قط ربما ما نراه أنقاضاً هو الشكل الأخير لقيامته اللغة امتحان الوجود في مقاومة العدم وكل من يتكلم يبني لبنة أخرى في برج لم يراد له أن يكتمل
عن اللغة الأولى لم تكن وحدة اللسان دليلاً على الكمال بل على الصمت اللغة الواحدة لا تتكلم بل تكرر ذاتها التعدد يمنح اللغة حقها في الوجود لأن المعنى يولد حين يبدأ الاختلاف عن البرج البرج ليس بناء عمودي بل استعارة أفقية للمعرفة كل طابق في البرج مستوى من التأويل وكل محاولة للصعود بحث عن المعنى الذي يتراجع كلما اقتربنا منه عن العقاب الإلهي الأسطورة لا تخبر عن عقاب سماوي الإله في النص ليس قاضياً بل محرراً حرر البشر من سجن اللغة الواحدة ومن وهم أن الحقيقة يمكن أن تقال بلغة واحدة عن البلبلة البلبلة ليست فوضى في اللسان بل نظام جديد في الفهم اللغة حين تتكاثر تنتج طرقاً متعددة للتفكير فتتحول الفوضى إلى مختبر دائم للمعنى عن سقوط المعنى حين انهار البرج لم يسقط الحجر بل الدلالة المغلقة أدرك الإنسان أن كل بناء معرفي يحمل مبدأ انهياره وأن اللغة مثل العمارة لا تستقر إلا في حالة حركة عن الترجمة الترجمة الابنة الشرعية لبابل ليست محاولة العودة إلى الأصل بل تأسيس لأصول جديدة في كل عبور لغوي المعنى لا يترجم بل يعاد تأويله كل مرة عبر ذاكرة مختلفة عن المدينة بابل مدينة لا جغرافيا لها إنها الذاكرة المشتركة لكل مشروع بشري أراد توحيد ما لا يوحد إنها رمز المعرفة التي تعيد اكتشاف حدودها في لحظة الطموح إلى الكمال عن النص ذاته النص المقدس لا يصف حدثاً بل يكتب تاريخ اللغة في لحظة وعيها بذاتها بابل اللحظة التي أدركت فيها اللغة أنها تنتج العالم لا تصفه عن الإنسان بعد بابل صار الإنسان مفسراً أبدياً لم يعد الكائن الذي ينطق بل الكائن الذي يقرأ العالم نصاً متعدد الطبقات عن الأثر كل قراءة لأسطورة بابل إعادة بناء للبرج كل برج لغوي يُشيّد بالقراءة يُكتب عليه منذ البداية أنه لن يكتمل لا أحد يقرأ الكتاب نفسه مرتين لأن القارئ الثاني يُبنى داخل الأول ثم يهدمه دون أن يدري ما نسميه الحقيقة أثر تتركه الفوضى حين ترتدي قناع النظام المعنى لا يظهر في النصوص بل في الطريقة التي ينسحب بها منها كل قراءة تتبع أثر هذا الانسحاب نحن لا نبحث عن الحقيقة كي نملكها بل كي نستمر في السؤال أمامها كل من يظن أنه فهم اللغة نُفي منها إلى الأبد كل مفهوم يحمل بذرة فساده ما إن يصاغ حتى يبدأ بالتحلل في تعدد تأويلاته كل معرفة اعتراف مؤجل بأننا نبحث عما لا يمكن فهمه العقل لا يضيء المجهول بل يحدد شكل العتمة فقط
#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟