أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - هوامش فلسفية II














المزيد.....

هوامش فلسفية II


ميشيل الرائي

الحوار المتمدن-العدد: 8515 - 2025 / 11 / 3 - 20:53
المحور: قضايا ثقافية
    


B

ايها الزملاء، أيها الباحثون، دعونا نبدأ من سؤال مركزي: هل ينبغي للفنان العربي أن يخضع للمصطلحات النقدية الغربية، أم أن عليه أن يبتكر لغته الخاصة، لغة تنبع من جسده، من ذاكرته، من صمته، ومن المكان الذي يحمله داخله؟
حين سُمّي نوعٌ من المسرح بمسرح العبث، لم يكن الاسم مجرد توصيف، بل محاولة تأسيس نظام نقدي يفرض تصنيفه على الفوضى. المبدع، مع ذلك، غالبًا ما يرفض هذا القيد، يرفض أن يُختزل وجوده في عبارة، يختار أن يكتب من داخل اللحظة نفسها، من قلب التجربة، من ألم وجودي حاد، دون أن يسعى إلى تأسيس مدرسة أو حركة. وما يحدث لاحقًا أن الناقد هو من يشيّد سياج المصطلح، يضع التجربة ضمن خانة محددة، بينما المبدع يظل حرًا في حركته.
في هذه اللحظة، يبرز السؤال على نحو أكثر إلحاحًا في فضائنا العربي: هل يمكن للفنان أن يعيش تجربته قبل أن تصفها المؤسسة النقدية؟ إن الانصياع للمصطلحات الوافدة دون مساءلة ليس معرفة، بل شكل من أشكال العبودية الرمزية. المصطلح الغربي، مهما بدا علميًا، يحمل في بنيته سلطة ثقافية تحاول إعادة إنتاج المركزية الأوروبية، وعندما يُعاد تكراره بلا تمحيص، يتحول المبدع إلى مترجم لتجربة غيره، بلغة ليست لغته.
المطلوب إذن ليس القطيعة مع الغرب، بل ما يمكن تسميته تفكيك الانتماء النظري: إعادة النظر في المصطلح بوصفه أثرًا لغويًا قابلًا لإعادة التأويل داخل سياقنا. كل مفهوم وافد يجب أن يخضع لعملية مزدوجة: تفكيك الجذر، وإعادة الزرع. تحريره من حمولته الثقافية، ثم إعادة صياغته ضمن أفقنا الأنثروبولوجي والجمالي.
لقد استُخدم التراث العربي، من الحكايات الشعبية، من طقوس الأسواق، من الجسد الراقص، ومن الذاكرة الشفاهية، ليصبح مصدرًا لمسرح عربي أصيل وحديث في اللغة، أصيل في الرؤية، متجاوز لكل تصنيفات أجنبية. المسرح العربي لا يحتاج إلى مسرح العبث ليكتشف عبثه، ولا إلى ما بعد الحداثة ليعيش قلقه. في الموروث العربي من طقوس ومقامات ومجالس ما يكفي لتأسيس حداثة عربية لها مفاهيمها ومصطلحاتها الخاصة.
إن الإبداع الحقيقي يبدأ من الانفلات من المفهوم، من التحرر من سلطة المصطلح، لأن المسرح في جوهره ليس فن التمثيل فقط، بل فن تفكيك التمثيل ذاته. إنه لحظة يعاد فيها التفكير في اللغة، في الصوت، في الزمن، في الفراغ. حين نترك للمصطلح سلطة التنظيم نفقد حرية اللعب، تلك الحرية التي هي أصل المسرح.
لنتأمل التراث العربي ليس كمجرد إرث محفوظ، بل كحقل معرفي قابل للتحليل والاكتشاف النقدي. كثيرًا ما نكتشف تراثنا حين يسلط الغرب الضوء عليه، ونظل بحاجة إلى وسيط خارجي يمنحنا الشرعية المعرفية. هذا ما يبرز في المسرح العربي: من مسرح التعزية الحسينية إلى نصوص فلسفية وشعرية عميقة لم تُقدَّم إلا حينما تحوَّلت إلى مادة على يد مؤسسات غربية، بينما نحن العرب وريثو هذه التراجيديا منذ قرون ولم نمنحها الاهتمام الأكاديمي الكامل.
المسألة لا تتوقف عند المسرح، بل تمتد إلى الفلسفة العربية. كثير من فلاسفة العرب لم يلقوا الاهتمام اللازم إلا عبر تقييمات الغرب، أحيانًا دون تمحيص دقيق للنصوص والسياق التاريخي والثقافي. هذه الظاهرة تشير إلى فجوة معرفية: كيف يمكن للعقل العربي أن يستعيد استقلاليته، أن يقرأ التراث قراءة نقدية مستقلة، وفق منهجية قائمة على الملاحظة والتحقق؟
إعادة قراءة التراث ليست مجرد فعل اكتشاف، بل فعل نقدي شامل يقوم على التجربة والملاحظة والتحقق المنهجي. فقط عندها يمكن صناعة تاريخ معرفي خاص بنا، يقرأ التراث من الداخل، ويعيد للفكر العربي حيويته، ويحرره من تصنيفات خارجية غالبًا ما تكون سطحية أو منحازة. هذه هي الطريقة التي يمكننا بها أن نؤسس وعيًا معرفيًا عربيًا مستقلًا، يضعنا في موقع الفاعل، لا مجرد المتلقي لما يقرره الغرب.
ولنسأل الآن: ما طبيعة العلاقة بين المصطلح والسلطة؟ اللغة ليست مجرد أداة لنقل المعنى، بل شبكة من الرموز والقوى، والنص لا يمتلك مركزًا ثابتًا، بل يفتح فضاءً للقراءة والتأويل، حيث يصبح المتلقي شريكًا في إنتاج المعنى. من هنا نفهم أن المصطلح الوافد ليس مجرد وصف، بل شكل من أشكال التحكم الثقافي، يحاصر التجربة في شبكة مسبقة من التوقعات والفهم، بينما يظل المبدع الحر خارج هذه الخانة، يبتكر معانيه من داخل سياقه الحسي والفكري.
كما أن المصطلح نفسه ليس بريئًا، ولا محايدًا؛ إنه قوة تنظّم التجربة، تصنع ما يُسمح برؤيته وما يُحجب، تحدد من يمتلك القدرة على التسمية ومن يُفرض عليه أن يكون متلقيًا لها. التفكيك النقدي لهذه المصطلحات يصبح فعل مقاومة؛ هو عملية كشف العلاقات بين السلطة والمعرفة، لا مجرد تحليل لغوي، وهو فعل يمكّن المبدع من تحرير تجربته من القيد المفاهيمي الخارج عن سياقه.
بدمج هذه الرؤى، يصبح واضحًا أن الإبداع العربي في المسرح والفكر لا يقتصر على إنتاج أعمال جديدة، بل يتعداه إلى إنتاج وعي معرفي: وعي يدرك أن كل مصطلح، كل تصنيف، كل تسمية هي نتاج سلطة، وأن اللحظة الحقيقية للإبداع تبدأ عندما يمكن تفكيك هذا النتاج، وإعادة صياغته ضمن سياقنا الخاص، دون انتظار إذن خارجي، ودون ربطه بشرعية مكتسبة من خارجه.
وهكذا، يصبح التراث والفن والفكر أدوات نقدية، وليست مجرد محتوى محفوظًا. التراث العربي يصبح مساحة لممارسة الحرية الفكرية، حيث تتحول الطقوس والحكايات والمقامات إلى أدوات تفكيك وإعادة تركيب، إلى لغة حية تنتج معرفة مستقلة، ترفض التقييد بالمصطلح الغربي، لكنها لا تتجاهله، بل تعيد وضعه في سياقه الجديد، كأثر قابل للقراءة والتأويل، كقوة قابلة لإعادة التفكير.
في هذا الانزياح، تتحول التجربة المسرحية والفكرية إلى لحظة لإعادة تعريف الذات الثقافية، لحظة لإعادة توزيع السلطة المعرفية، ولحظة لإدراك أن النص، سواء كان مسرحيًا أو فلسفيًا أو شعريًا، لا يملك أحد حق امتلاكه إلا من يفككه ويعيد إنتاجه من داخل تجربته، ليصبح تجربة حية، وليست مجرد تصنيف أو مصطلح جاهز.



#ميشيل_الرائي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- برج بابل
- الفضاء الأبيض (المسرح الداخلي)
- عن هوامش الرحلة
- عن زيارتي الأخيرة إلى جزر القمر
- القراءة بوصفها تحريضًا فلسفيًا – I
- ملحوظات أولية حول المسرح
- كولاج
- بريخت بين الاستهلاك الأكاديمي وسوء الفهم المعرفي
- تمارين في ميتافيزيقا الشعر
- في خطأ التقسيم وأوهام التصنيف في الخطاب المسرحي
- لقد عبث المجد بفرائك
- قصيدة تشريحية تقريبًا (تمارين في ميتافيزيقا الشعر)
- أماكن أخرى للهذيان
- في مديح بيكاّسو
- المظهر الكوميدي لمأساة قديمة
- المراثي الوطنية
- المراثي الوطنيّة II
- قراءة معرفية للمسرح العربي: استقصاء البنية والمعرفة
- كولاجات
- أطفال يخرجون ألسنة ركضهم


المزيد.....




- السعودية.. جدل على فيديو مشادّة بين رجل أمن ومعتمر في الحرم ...
- لماذا تزداد الأرض ظلمة وما علاقة ذلك بالتغير المناخي؟
- ترامب يحذر من أنه قد يمانع في تمويل نيويورك إذا أصبح ممداني ...
- إيطاليا: انهيار جزئي لبرج تاريخي في روما يودي بحياة عامل روم ...
- السودان: باريس تدعو لوقف إطلاق النار وتدين انتهاكات قوات الد ...
- اقتحامات واسعة ومواجهات في عدة مناطق بالضفة
- صراعات صغيرة قد تُشعل حربا عالمية لا يتوقعها أحد
- نجاح بلا هوس.. لماذا تفشل طاحونة تطوير الذات؟
- آبل تدرس وقف خاصية الشفافية في أوروبا
- كوريا الشمالية تطلق صواريخ بالتزامن مع زيارة أميركية للحدود ...


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ميشيل الرائي - هوامش فلسفية II