محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 09:19
المحور:
قضايا ثقافية
الملخّص
تقدّم الهندسة الوراثية إمكاناتٍ طبية وزراعية واجتماعية هائلة، لكنها في الوقت نفسه أنتجت «اختراقات» تفتح أبوابًا لمخاطر جديدة — من إمكانية تركيب فيروسات مَصنَعة إلى تعديل خطوط جرثومية بشرية قَابلة للتوريث، ومن نشر أنظمة «دفع جيني» في البرية إلى توظيف الذكاء الاصطناعي لتوليد تسلسلات بيولوجية خطرة. يسلّط هذا المقال الضوء على أهمّ هذه الاختراقات، يبيّن لماذا تُعدُّ مخيفة، ويقدّم مداخل للحدّ من مخاطرها عبر سياسات وأدوات رقابية وأخلاقية.
---
1. مقدّمة: لماذا نخشى المستقبل الوراثي؟
أدت أدوات الهندسة الوراثية الحديثة — وخصوصًا منصّات تحرير الجينوم مثل CRISPR-Cas — إلى خفضٍ هائل في تكلفة ووقت تعديل الجينات، وجعلت تجارب كانت ذات يوم حكراً على مختبراتٍ متقدمة أكثر وصولًا للباحثين حول العالم. هذه الديمقراطية التقنية تحمل فوائدها، لكنها تُسهِم أيضًا في تحويل إمكانات الأسلحة البيولوجية أو الأخطاء التجريبية إلى تهديدات جيو-بيولوجية ذات نطاق واسع. لذا فإن المخاوف ليست نظرية فحسب، بل مدعومة بأحداث وتجارب سابقة وملاحظاتٍ منهجية.
---
2. اختراقات محددة ومخاطرها
2.1 تركيب وإعادة تصميم الفيروسات (De novo synthesis)
تمكّن تقنيات التخليق الجيني من بناء جينات وفيروسات كاملة من الصفر — عملية برمجية تتبعها خطوات كيميائية حيوية لإنتاج جزيئات حية. دراسات سابقة (مثل تركيب الهورسبوكس عام 2017) أظهرت أن قدرة الباحثين على تجميع جينومات فيروساتٍ قريبة من الجدري يمكن أن تُقلّص الحواجز التي كانت تحمي البشرية من إعادة ظهور أمراضٍ انقرضت أو خمدت. هذه القدرة تثير قلقًا أمنيًا لأن الأخطاء أو سوء الاستخدام قد يؤديان إلى إعادة إطلاق عوامل ممرِضة أو إلى ظهور سلالات جديدة.
2.2 قدرات «التوليد الحيوي» المدعوم بالذكاء الاصطناعي
نماذج الذكاء الاصطناعي القادرة على تصميم بروتينات أو تسلسلات جينية (أو تحسينها) هي ثورة مزدوجة الحِدة: فهي تسرّع الاكتشاف الدوائي، لكنها أيضًا تُسهّل توليد تسلسلات «غير طبيعية» قد تُحسّن قدرة ممرض أو تمنحه خصائص جديدة. الأدبيات الحديثة تحذّر من أن نماذج التوليد الحيوي قد تصبح أدوات مزدوجة-الاستخدام وتحتاج إلى تقييم مخاطر خاص.
2.3 نشر أنظمة الدفع الجيني (Gene Drives) في الطبيعة
تقنية الدفع الجيني قادرة على دفع جينات معينة للتفشي خلال تجمعات برية بسرعة تفوق التوقعات المندلية العادية؛ يُروّج لها لأهدافٍ نافعة — مثل القضاء على نواقل الملاريا — لكن تحرّرها في البيئات المفتوحة يحمل مخاطر بيئية خطيرة: تغييرٍ دائم في سلاسل الأنواع، اختلال سلاسل الغذاء، أو انتقال غير مقصود إلى أنواع قريبة. التجارب والبحوث المقترحة لمرحلة الميدان تثير جدلاً علميًا وأخلاقيًا وضرورة حوكمة صارمة.
2.4 التلاعب بالجرثومية البشرية والجرثومية الوراثية الموروثة (Germline editing)
حالة تعديل الأجنة البشرية (مثال: قضية He Jiankui 2018) أظهرت أن الإمكانات التكنولوجية قد تُستخدم لتغيير الجينوم البشري الذي ينتقل إلى الأجيال القادمة—خطوة تحمل تبعات أخلاقية واجتماعية بالغة (عدم المساواة الجينية، تغيّر الصفات البشرية، آثار غير متوقعة عبر الأجيال). الأدلة العلمية الأخيرة تُظهر أيضًا أن تحريرًا ما قد يترافق مع طفرات غير مقصودة أو تغيّرات كروموسومية.
2.5 التعديل الجيني للأعضاء الحيوانية للاستخدام البشري (Xenotransplantation)
التقدّم في تعديل حيوانات مثل الخنازير لإنتاج أعضاء بشرية-المقاييس (إزالة عوامل رفض مناعية وإدخال جينات بشرية) أدى إلى تجارب سريرية مبكرة، من قبيل زرع كلية خنزير مُعدّلة في مرضى بشريين. النجاح الطبي المبكر مثير، لكن المخاوف تتضمّن مخاطر انتقالٍ محتملًا لمسببات مرضٍ حيوانية المنشأ، قضايا أخلاقية حول تغيير الأنواع، وانعكاسات طويلة المدى على الصحة العامة.
2.6 أبحاث «زيادة القدرة» (Gain-of--function-) ونقاش الأمان
أبحاث تُرفع فيها قدرة ممرضٍ ما على الانتشار أو الفوعة لدراسة آليات المرض تثير جدلاً؛ فمثل هذه الدراسات تهدف لفهم المخاطر، لكنها تحمل خطرًا نظريًا بإحداث هروبٍ مختبري أو تسريب شديد العواقب. إثر جائحة كوفيد-19، ازداد الاهتمام التنظيمي بمراقبة هذه الأبحاث وتقييم قابليتها للخطر.
---
3. لماذا تُعدّ هذه الاختراقات «مخيفة»؟
1. انخفاض العوائق التقنية والمالية: أدوات مثل CRISPR وسهولة شراء أجزاء جينية وخدمات التخليق تسهّل الوصول إلى إمكاناتٍ كانت قبل عقود معقّدة ومحصورة.
2. القدرة على التجريب في البيئات المفتوحة: تقنيات مثل الدفع الجيني أو النشر البيولوجي تُغيّر قواعد اللعبة أمام الرقابة التقليدية.
3. التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والبيولوجيا: نماذج التوليد يمكن أن تسرّع تصميم جزيئات أو تسلسلات خطرة قبل أن تتوافر آليات تقييم فعّالة.
4. عواقب لا تُرجَع بسهولة: تأثيرات على النظم الإيكولوجية أو على خطوط وراثية بشرية قد لا يمكن التراجع عنها بسهولة أو قد تكون متعدّدة الأجيال.
---
4. الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية
الأسئلة الأخلاقية تشمل: من يملك حقّ تعديل الجينوم البشري؟ من يقرر ما يُعد «تحسينًا» وما يُعد «مرضًا»؟ كيف نوزع فوائد تكنولوجيا مكلفة بين شعوب العالم؟ وكيف نضمن عدم توظيف التعديلات الوراثية لتعميق الفوارق الاجتماعية؟ هذه الأسئلة ليست تقنية فقط؛ بل سياسية واجتماعية وتتطلب حوارًا عالميًا واسعًا.
---
5. الحوكمة والحدّ من المخاطر — توصيات عملية
(كل توصية هنا متأثّرة بتقارير وسياسات حديثة حول الأمن الحيوي والحوكمة)
1. تعزيز مراقبة التخليق الحيوي والمواد الجينية — قواعد لرقابة طلبات تركيب تسلسلات حسّاسة، تحسين فحص الطلبات في شركات تصنيع الأحماض النووية.
2. ضوابط على أبحاث «القدرة المضافة» (GOF) — أنظمة تقييم مخاطر دقيقة وشفافة، وعمليات موافقة وطنية/دولية قبل تمويل أو إجراء مثل هذه التجارب.
3. تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في التصميم البيولوجي — معايير لا تسمح بتوليد تسلسلات خطرة دون آليات مراجعة وأمان؛ وإجراءات لمنع «التجارب الافتراضية» التي قد تفضي إلى تصميم مخرجات ضارة.
4. رقابة صارمة على التجارب الميدانية (مثل gene drives) — مبدئيًا تجارب تحت شروط مغلقة، تقييمات بيئية معمّقة، مشاركة مجتمعات محلية، ومواثيق دولية قبل أي نشر على نطاق واسع.
5. تعزيز أنظمة الدفاع الصحي والجاهزية — استثمارات في بنى الصحة العامة، مختبرات الاستجابة السريعة، مخزونات طبية، ونُظم إنذار مبكّرة — توصية مُلحّة بعد تجارب جائحة وتوصيات تقارير الدفاع الحيوي.
6. حوكمة أخلاقية دولية بشأن التلاعب بالجرثومية البشرية — حظر تجارب التعديل الوراثي الوراثي (germline) إلى أن يتبلور وفاق دولي واضح، مع آليات مساءلة.
---
6. خاتمة
الهندسة الوراثية تمثّل أحد أبرز انجازات العلم المعاصر، لكنّها تأتي مع مسؤوليات استثنائية. الاختراقات التي قد تبدو «خارقة» ليست بالضرورة شريرة في ذاتها؛ الخطر يكمن في السياق—سوء الاستخدام، غياب الحوكمة، أو أخذ المخاطر قبل فهم عواقبها البيئية والبشرية. الطريق الآمن يتطلب تضافر علماء، صانعي سياسة، منظمات مدنية، ومجتمع دولي يضع حدودًا واضحة ويضمن توزيع الفوائد وتقليل المخاطر.
---
مراجع مختارة (مصادر للقراءة والاقتباس)
1. Aussel, C., et al. (2025). The hidden risks of CRISPR/Cas: structural variations and chromosomal aberrations. Nature review.
2. Koblentz, G.D. (2017). The De Novo Synthesis of Horsepox Virus — implications for biosecurity. PubMed.
3. Pannu, J., et al. (2025). Dual-use capabilities of concern of biological AI models. (PMC article on AI and biosecurity).
4. Connolly, J.B., et al. (2024). Considerations for first field trials of low-threshold gene drives. Target Malaria / policy paper.
5. CSET (Georgetown). (2023). Understanding the Global Gain-of--function- Research. (mapping GOF research and risks).
6. National Blue-print- for Biodefense. (2024). Immediate Action Needed to Defend Against Biological Threats. Bipartisan Commission on Biodefense.
7. Nature / news pieces on xenotransplantation and edited pig organs (2023–2025).
8. POST (Parliamentary Office of Science and Technology). (briefing on Human Germline Genome Editing).
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟