أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - ‏من شخصنة السلطة إلى بناء الدولة: قراءة في فكر فرانسيس فوكوياما















المزيد.....

‏من شخصنة السلطة إلى بناء الدولة: قراءة في فكر فرانسيس فوكوياما


محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)


الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 02:26
المحور: قضايا ثقافية
    




‏---

‏المقدمة

‏يشكّل مفهوم الدولة الحديثة أحد أهم محاور التفكير السياسي والاجتماعي في القرن الحادي والعشرين، وقد برز المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما كأحد أبرز من تناولوا هذه الإشكالية في سياق التطور التاريخي للسلطة ومأسستها. ففي كتبه أصول النظام السياسي (2011) والنظام السياسي والانحطاط السياسي (2014)، طرح فوكوياما رؤية تحليلية عميقة حول أسباب ضعف الدول، مؤكدًا أن بناء المؤسسات القوية هو الطريق الوحيد لتجاوز "شخصنة السلطة"، أي تحويل الحكم من علاقة ولاء شخصية إلى منظومة قانونية مؤسسية.

‏إنّ هذا التحول لا يرتبط فقط بتغيّر الهياكل السياسية، بل بمستوى النضج الاجتماعي والثقافي الذي يسمح بانتقال المجتمع من هيمنة الأفراد إلى سيادة المؤسسات. ومن هنا تتجلى أهمية دراسة هذه الرؤية بوصفها مدخلًا لفهم أزمات الحكم في الدول النامية والمجتمعات الخارجة من النزاعات.


‏---

‏أولاً: مفهوم شخصنة السلطة وأصولها التاريخية

‏يستخدم فوكوياما مصطلح Personalization of Power للإشارة إلى الأنظمة السياسية التي تتركز فيها السلطة بيد الحاكم الفرد أو الدائرة المقربة منه، بحيث تصبح الدولة امتدادًا لشخص الحاكم لا كيانًا مستقلًا عنه.
‏وتعود جذور هذه الظاهرة إلى ما قبل نشوء الدولة الحديثة، حيث كان الحكم يقوم على الولاءات القبلية والعائلية والطائفية، لا على مؤسسات محايدة. ومع غياب مؤسسات الضبط والمساءلة، تتحول السلطة إلى إرث شخصي، وتتداخل المصالح العامة والخاصة في شبكة من العلاقات الزبائنية والمحسوبية.

‏في هذا السياق، يوضح فوكوياما (2014) أن الشخصنة تُضعف البيروقراطية وتفسد العدالة، لأن الموظفين لا يخدمون الدولة بل الحاكم الذي يعيّنهم. وهكذا تُختزل الدولة في الفرد، وتفقد القدرة على الاستمرار بعد غيابه.


‏---

‏ثانياً: بناء المؤسسات كشرط لتجاوز الشخصنة

‏يرى فوكوياما أن بناء الدولة الحديثة يمرّ بثلاث ركائز:

‏1. الدولة القوية القادرة على فرض القانون.


‏2. سيادة القانون الذي يقيّد الحاكم نفسه.


‏3. المساءلة الديمقراطية التي تضمن خضوع السلطة للإرادة العامة.



‏ولا يتحقق أيّ من هذه الركائز ما لم تُبنَ مؤسسات مستقلة تعمل وفق قواعد واضحة، لا وفق أهواء الأفراد. فالدولة الحديثة، في رأيه، ليست من يملك جيشًا أو شرطة، بل من يمتلك مؤسسات تفرض القانون على الجميع دون استثناء.

‏ويضرب فوكوياما أمثلة من التاريخ الأوروبي، حيث أدّى توازن القوى بين الكنيسة والملكية إلى نشوء البيروقراطيات المهنية المستقلة، التي فصلت بين "الشخص الحاكم" و"منصب الحكم"، فتم تأسيس الدولة المأسسة بدلاً من الدولة الشخصانية.


‏---

‏ثالثاً: فشل الدول الهشة وغياب المأسسة

‏تُظهر تجارب القرن العشرين، وفق فوكوياما، أن العديد من الدول في آسيا وإفريقيا والعالم العربي فشلت في تحقيق التنمية رغم تبنّيها شعارات الدولة الحديثة. السبب في ذلك أنها احتفظت بشكل الدولة دون مضمونها، فظلت السلطة تُمارس عبر الولاءات الشخصية والعائلية، لا عبر المؤسسات.
‏في هذه الدول، تتحول البيروقراطية إلى امتداد لشبكة المحسوبية، وتُستخدم المؤسسات لخدمة بقاء النظام لا لخدمة المواطنين. وهذا ما يسميه فوكوياما “الانحطاط السياسي” (Political Decay)، أي التراجع عن المأسسة نحو الشخصنة من جديد.

‏ويؤكد أن التغيير لا يكون باستبدال الأشخاص بل بإعادة بناء المؤسسات، لأن غياب المؤسسات المستقلة يجعل أي إصلاح سياسي هشًا وعرضة للانتكاس.


‏---

‏رابعاً: من ثقافة الزعيم إلى ثقافة الدولة

‏يذهب فوكوياما إلى أن تجاوز الشخصنة ليس مسألة قانونية فقط، بل تحوّل ثقافي عميق في وعي الناس. فالثقافة السياسية في الدول الضعيفة تقوم على تمجيد “الزعيم المخلّص”، لا على احترام القانون والمؤسسات.
‏ولذلك، يرى أن الإصلاح الحقيقي يبدأ حين يتحول الولاء من الأشخاص إلى المبادئ، وحين يدرك المواطن أن قوة الدولة لا تُختزل في شخصية القائد، بل في منظومة القوانين والمؤسسات التي تحكم الجميع.

‏ويربط فوكوياما هذه الرؤية بفكرة الثقة الاجتماعية التي تحدّث عنها في كتابه Trust (1995)، حيث أكّد أن المجتمعات التي تمتلك رأس مال اجتماعي قوي تميل إلى بناء مؤسسات أكثر كفاءة واستقلالاً، بينما المجتمعات المنقسمة قبليًا أو طائفيًا تميل إلى الشخصنة والاستبداد.


‏---

‏الخاتمة

‏إنّ فكر فوكوياما يقدّم خريطة طريق واضحة لبناء الدولة الحديثة:

‏لا تنمية من دون مؤسسات قوية.

‏لا عدالة من دون قانون يسمو على الأفراد.

‏ولا ديمقراطية من دون مساءلة حقيقية.


‏إنّ تجاوز شخصنة السلطة يتطلب ثورة ثقافية وسياسية في آنٍ واحد، حيث يتحول الحاكم من "مالك للدولة" إلى "موظف عند الأمة"، وحيث تصبح المؤسسات ضمانة الاستقرار والعدالة. وبهذا المعنى، فإنّ بناء المؤسسات ليس إصلاحًا إداريًا فحسب، بل شرط وجودٍ للدولة الحديثة.


‏---

‏المراجع

‏1. Fukuyama, F. (2011). The Origins of Political Order: From Prehuman Times to the French Revolution. Profile Books.


‏2. Fukuyama, F. (2014). Political Order and Political Decay: From the Industrial Revolution to the Globalization of Democracy. Farrar, Straus and Giroux.


‏3. Fukuyama, F. (1995). Trust: The Social Virtues and the Creation of Prosperity. Free Press.


‏4. Huntington, S. P. (1968). Political Order in Changing Societies. Yale University Press.


‏5. North, D. C., Wallis, J. J., & Weingast, B. R. (2009). Violence and Social Orders: A Conceptual Framework for Interpreting Recorded Human History. Cambridge University Press.




#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ‏الاستبداد لا يقوم إلا على شعب مستعدّ له، ولا يزول إلا بشعب ...
- ‏الدمى الجنسية بين الأخلاق والضرورة
- ‏صناعة تجارة -الرقيق الأبيض-: آلياتها، دوافعها، وتداعياتها و ...
- الدنيا ملك لمن يستيقظ باكراً
- التحرش الجنسي في مرحلة الماجستير والدكتوراه
- صناعة الجوع: الجوع كنتاج للنظام لا الطبيعة
- ‏عندما تحل النوطة محل الكتاب الجامعي: انعكاسات على التعليم و ...
- ‏الوظيفة العامة بين النقد والارتباط: تحليل في أسباب التصاق ا ...
- ‏قراءة في رواية -عشيق السيدة تشاترلي- للروائي البريطاني د. ه ...
- ‏الوظيفة العامة: تنقذ من الفقر أم تقود إليه؟
- ‏قراءة في قصيدة -إذا- للشاعر روديارد كبلنغ
- ‏اللامرئي في مهنة التعليم: التعب الإدراكي لدى المدرس
- ‏استعمال -لغة الطهر- لتبرير -أفعال القهر-
- العلم لا يموت والعالم لا يُحال إلى التقاعد، والعقول العظيمة ...
- ‏مؤتمر الأقليات في الشرق الأوسط: الأهداف الاستراتيجية لإسرائ ...
- ‏مفهوم التنويم المغناطيسي واستحضار الأرواح في مسرحية الدكتور ...
- ‏عبق من ذكراه....فواز أذكي منارة علم للأجيال
- الدكتور فاوستوس وتجسيد فكره في السياسة الدولية
- قراءة نقدية شاملة لقصيدة «مايا» – نزار قباني
- نيكولو باغانيني: عازف الكمان الإيطالي الذي باع روحه للشيطان ...


المزيد.....




- قضاة محافظون بالمحكمة العليا الأمريكية -ينتقدون بشدة- رسوم ت ...
- الفلبين تعلن حالة الطوارئ بسبب الإعصار -كالمايغي-
- سقوط الفاشر وأثره على سياسة واشنطن بالسودان
- تحقيق يكشف تمويل شركة -إكسون- حملات تضليل مناخي
- غزة بعد الحرب.. تفاصيل العيش في خيم
- سوريا.. جملة -انا استخبارات ولاك- بفيديو رجل يهدد شرطي تشعل ...
- الفلبين: أكثر من 140 قتيلا عقب إعصار -كالمايغي- ورئيس البلاد ...
- السلطات الأوروبية تُفكك شبكة احتيال بالعملات المشفرة
- -هجمات الدببة- تثير ذعرا.. واليابان تنشر قوات من الجيش
- -صقور ترامب- نحو إسقاط مادورو.. وروسيا تلوّح بالصواريخ


المزيد.....

- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - ‏من شخصنة السلطة إلى بناء الدولة: قراءة في فكر فرانسيس فوكوياما