أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - نيكولو باغانيني: عازف الكمان الإيطالي الذي باع روحه للشيطان مقابل الموهبة















المزيد.....

نيكولو باغانيني: عازف الكمان الإيطالي الذي باع روحه للشيطان مقابل الموهبة


محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)


الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 10:48
المحور: قضايا ثقافية
    


‏نيكولو باغانيني: عازف الكمان الإيطالي الذي باع روحه للشيطان مقابل الموهبة


‏---

‏ملخّص

‏يُعد نيكولو باغانيني (Niccolò Paganini، 1782–1840) أحد أبرز الموسيقيين في التاريخ الغربي، إذ ارتبط اسمه بالعبقرية الخارقة في العزف على الكمان وبالأسطورة التي تقول إنه باع روحه للشيطان مقابل موهبته. يجمع هذا المقال بين التحليل الموسيقي والتاريخي والثقافي والنفسي لشخصية باغانيني، محاولًا تفسير الأسطورة ضمن سياقها الاجتماعي والديني في أوروبا القرن التاسع عشر، وإبراز العلاقة المعقدة بين العبقرية والإبداع من جهة، والغموض والجنون من جهة أخرى.


‏---

‏مقدمة

‏شهد القرن التاسع عشر الأوروبي ولادة أساطير عديدة حول الفنانين الذين تجاوزوا حدود المألوف. لم يكن باغانيني مجرد موسيقي بارع؛ بل ظاهرة ثقافية أربكت المفاهيم التقليدية حول الموهبة البشرية. إذ جعل الجمهور يشكّ في أن مثل هذه القدرة قد تكون بشرية، فنسج حوله حكايات عن تحالفه مع قوى شيطانية. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل جذور هذه الأسطورة ودلالاتها، والبحث في كيفية تحوّل الموسيقى إلى ميدان للتجربة الميتافيزيقية.


‏---

‏أولاً: السياق التاريخي والاجتماعي

‏ولد نيكولو باغانيني في جنوى بإيطاليا عام 1782، في زمنٍ كانت فيه أوروبا تعيش تحولات كبرى: الثورة الفرنسية، صعود الرومانسية، وتبدّل علاقة الفرد بالسلطة والدين والفن. في تلك البيئة، بدأ الوعي الرومانسي يقدّس "العبقري" بوصفه كائناً فوق بشري، موصولاً بالمطلق، وربما بالشيطان نفسه.
‏كانت الكنيسة في تلك الحقبة تنظر بعين الريبة إلى الموسيقيين الذين يتجاوزون حدود اللياقة أو يوظفون الموسيقى كأداة للغواية، خصوصاً عندما ترافق الأداء الموسيقي بحركات غريبة أو ملامح جسدية غير مألوفة كما في حالة باغانيني، الذي عانى من متلازمة مارفان (Marfan Syndrome) التي منحت أصابعه طولاً ومرونة استثنائيين.


‏---

‏ثانياً: التقنية الموسيقية التي صنعت الأسطورة

‏بلغ باغانيني مستوى من البراعة جعل المؤرخين يصفونه بأنه "أول عازف كمان خارق في التاريخ".
‏تميزت تقنيته بخصائص غير مسبوقة:

‏1. العزف على وتر واحد مع إنتاج نغمة كاملة متكاملة.


‏2. استخدام الأوكتافات المزدوجة والـstaccato وpizzicato بيد واحدة.


‏3. إدخال عناصر من الموسيقى الشعبية الإيطالية في قالب كلاسيكي متقن.


‏4. تأليف 24 كابريس (Caprices) التي ما تزال تمثل اختبارًا تقنيًا للفنانين حتى اليوم.



‏أمام هذه القدرات، وقف الجمهور مذهولاً، وبدأت القصص تتناقل عن "صفقة سرية" عقدها باغانيني مع الشيطان ليمنحه موهبة لا نظير لها.


‏---

‏ثالثاً: الأسطورة والخيال الجمعي

‏تعمّقت أسطورة "بيع الروح" عندما انتشرت شائعات أن باغانيني عُزف في حفلاته بطريقة تجعل الناس يشعرون بأن "روحًا أخرى تعزف من خلاله".
‏كانت ملامحه الشاحبة، وعينيه الغائرتين، وحركاته الغريبة أثناء العزف، تُغذي الخيال الشعبي.
‏بل إن بعض النقاد كتبوا في الصحف أن "الشيطان كان يقف وراءه على المسرح"، وأن "كمانه مصنوع من أمعاء ضحاياه"!
‏وحين توفي عام 1840 رفضت الكنيسة الكاثوليكية دفنه في المقبرة المسيحية لسنوات طويلة، بسبب الاشتباه في "تعامله مع قوى غير مقدسة".


‏---

‏رابعاً: التحليل النفسي لأسطورة باغانيني

‏من منظور علم النفس، يمكن تفسير هذه الأسطورة بأنها إسقاط جماعي لفكرة العبقرية المرعبة. فحين يتجاوز الفنان حدود الإدراك البشري، يجد المجتمع نفسه مضطرًا لتفسير الظاهرة بتأويل فوق طبيعي.
‏كما أن شخصية باغانيني الانطوائية وسلوكه الغريب أسهما في تعميق الصورة الغامضة عنه.
‏يرى كارل يونغ أن مثل هذه الشخصيات تمثل ما يسميه الظلّ الجمعي، أي الجانب المكبوت من الوعي الجمعي الذي يُسقط مخاوفه على الآخر المختلف أو المدهش.


‏---

‏خامساً: بين الموسيقى والميتافيزيقا

‏ارتبط فن باغانيني بجوهر الرومانسية التي رأت في الموسيقى وسيلة للوصول إلى الماوراء.
‏فهو لم يكن يعزف ليُمتع، بل ليُثير، وليفتح باباً إلى العالم الغيبي.
‏من هذا المنطلق، أصبحت موسيقاه أقرب إلى صلاة شيطانية في نظر الجمهور المحافظ، لكنها في العمق كانت تعبيراً عن الجموح الإنساني نحو المطلق.
‏هكذا تحوّل الكمان إلى أداة اتصال بين الأرض والسماء، بين الفن والجنون، بين الإنسان والإله أو الشيطان.


‏---

‏سادساً: إرث باغانيني في الذاكرة الموسيقية

‏أثر باغانيني عميق على أجيال الموسيقيين من بعده، أبرزهم:

‏فرانز ليست (Franz Liszt) الذي حاول تقليد أسلوبه على البيانو.

‏يوجين يساي (Eugène Ysaÿe) الذي استوحى من كابريساته مقطوعاته المعروفة.

‏رافيل ورحمانينوف اللذان استخدما "الموضوع الرابع والعشرين" في مؤلفات أوركسترالية خالدة.


‏وهكذا انتقلت أسطورة "الصفقة الشيطانية" إلى رموز الفن الغربي اللاحقين، وأصبحت رمزاً لـ"الثمن الذي يدفعه العبقري مقابل موهبته".


‏---

‏خاتمة

‏لا يمكن النظر إلى نيكولو باغانيني كشيطانٍ موسيقي، بل كإنسان بلغ أقصى حدود الإبداع الإنساني في عصرٍ لم يكن مهيأً لتفسير العبقرية علمياً أو نفسياً.
‏الأسطورة إذن ليست حقيقة، بل استعارة عن الخوف من التفوق البشري، وعن إدراكٍ غامضٍ أن الموهبة الخارقة تحمل في طياتها لعنة الوحدة والجنون.
‏لقد عاش باغانيني ومات بين الإعجاب والاتهام، لكن موسيقاه بقيت لتُثبت أن الروح لا تُباع، بل تُخلّد بالفن.


‏---

‏المراجع

‏1. Gozzi, Riccardo. Niccolò Paganini: His Life and Work. Cambridge University Press, 2011.


‏2. Grimshaw, Jeremy. Music and the Occult: French Musical Philosophies 1750–1950. Routledge, 2009.


‏3. Blanning, T. C. W. The Romantic Revolution: A History. Modern Library, 2010.


‏4. Jung, Carl Gustav. The Archetypes and the Collective Unconscious. Princeton University Press, 1981.


‏5. Levin, David. Paganini: The Devil’s Violinist. Oxford University Press, 1998.



#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الربيع العربي من البلطجية إلى الشبيحة إلى الدبيحة: تاريخ موج ...
- ‏حان الوقت لتوحيد شمال شرقي سوريا مع بقية سوريا
- دلالات استحضار روح هيلين طروادة في مسرحية الدكتور فاوستوس
- القداسة والهيمنة: لماذا تُستخدم القداسة كواجهة للهيمنة على ا ...
- وداعاً أسطورة علم الفيزياء الصينية: تشن نينغ يانغ
- التفشير في العلاقات الإنسانية: هل هو مقبول أم غير مقبول؟ ‏
- ‏صورة اليهودي في تاجر البندقية لشكسبير واليهودي المالطي لمار ...
- ‏فرنسا التي لا تغفر مرة ثانية
- اتصال الرابعة صباحًا
- ‏الدكتور فاوستوس لمارلو وتجسيد فكره في السياسة الدولية
- ‏هل ستقبل إسرائيل بالواقع الراهن في
- ‏التجذير السياسي في العلاقات بين الدول: مقاربة تحليلية للعوا ...
- ‏العوامل التي ستقود إلى فشل اتفاقية وقف إطلاق النار بين حماس ...
- ‏الاستنساخ إلى أين؟ الجرأة على الحدود الممنوعة
- مزامير السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
- الأسباب الخفية للحروب: من حرب أسبرطة وأثينا إلى داحس والغبرا ...
- حدود وآفاق الهندسة الجينية في عصر الانفجار المعرفي
- ‏المقاومة بالموسيقا: دروس من التاريخ – من الصرخة إلى اللحن، ...
- ‏فاوست في السياسة الدولية الحديثة: مفاهيم الصراع، القوة، وال ...
- ‏الفزعة عند العرب: دراسة تحليلية تاريخية-اجتماعية-سياسية


المزيد.....




- هذا ما تضمنه دليل -لونلي بلانيت- لأفضل وجهات السفر لعام 2026 ...
- لمسة من المخمل والبريق..هكذا أطلّت إيفا لونغوريا في لوس أنجل ...
- تحطم مروحية ومقاتلة أمريكية في بحر الصين الجنوبي.. وترامب يع ...
- كيتي سبنسر بفستان ذهبي وقلادة ضخمة في موناكو
- -شاهدت هاتفي المسروق يتجه إلى لندن ودبي والصين-
- مناورات أم تمهيد للحرب؟ فنزويلا تضبط -مرتزقة- وتصف تحرّكات ا ...
- بعد قمة آسيان... ترامب يصل إلى طوكيو لإجراء محادثات تجارية و ...
- أوزمبيك يساعد القلب بغض النظر عن مقدار الوزن المفقود
- اتهامات للدعم السريع بارتكاب -مجزرة مروعة- في كردفان
- هل تندلع حرب بين أوروبا وروسيا خلال ألف يوم؟


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - نيكولو باغانيني: عازف الكمان الإيطالي الذي باع روحه للشيطان مقابل الموهبة