أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - ‏فرنسا التي لا تغفر مرة ثانية















المزيد.....

‏فرنسا التي لا تغفر مرة ثانية


محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)


الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 18:18
المحور: قضايا ثقافية
    



‏من محاكمة الجنرال بيتان إلى محاكمة الرئيس ساركوزي: السياسة الفرنسية بين الذاكرة والانتقام والمصالح الإفريقية


‏---

‏مقدمة

‏منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدت فرنسا كدولة لا تميل إلى النسيان ولا إلى الغفران السياسي. فمنذ أن حكمت بالإعدام (ثم بالسجن المؤبد) على الجنرال فيليب بيتان، بطل الحرب العالمية الأولى، بتهمة الخيانة العظمى عام 1945، كرّست الجمهورية الفرنسية مبدأً غير معلن: "العدالة فوق المجد، والفضيحة لا تسقط بالتقادم."
‏هذا المبدأ بدا جليّاً بعد عقود، حين وُجِّهت تهم خطيرة إلى أحد رموز الجمهورية الخامسة، الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، بتلقي تمويل غير مشروع لحملاته الانتخابية من الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي. وبين القضيتين، تمتد خيوط متشابكة تربط العدالة الفرنسية الصارمة بالسياسة الإفريقية المتقلبة، وبعلاقات نفوذ ظلّت باريس تمارسها في القارة السمراء منذ عهد الاستعمار وحتى ما بعد “الربيع العربي”.


‏---

‏أولاً: فرنسا التي حاكمت بطلها

‏الجنرال فيليب بيتان، الذي أنقذ فرنسا في معركة فردان (1916)، تحوّل في نظرها إلى خائن حين رأس حكومة فيشي المتعاونة مع الاحتلال النازي.
‏عام 1945، أصدرت المحكمة العليا الفرنسية حكماً بالإعدام عليه، خُفّف لاحقاً إلى السجن المؤبد نظراً لتقدمه في السن. ومات بيتان عام 1951 في جزيرة "إيو" وحيداً، بلا جنازة وطنية ولا شرف عسكري.
‏لم يكن قرار محاكمته مجرّد عدالة عسكرية، بل كان إعلاناً أخلاقياً بأن فرنسا لا تغفر مرتين: لا للبطل الذي خان، ولا للسياسي الذي يتلاعب بتاريخها.
‏(انظر: Philippe Pétain – Encyclopaedia Britannica, 2024 France24 Archive, 2020).


‏---

‏ثانياً: من بيتان إلى ساركوزي... الخيط الأخلاقي ذاته

‏بعد نحو سبعين عاماً، وُضِع رئيس جمهورية فرنسي سابق أمام القضاء بتهم لا تقلّ رمزية.
‏في عام 2011، وبعد سقوط نظام القذافي، ظهرت وثائق وشهادات تشير إلى أن الزعيم الليبي قد موّل حملة نيكولا ساركوزي الرئاسية عام 2007 بمبالغ وصلت إلى عشرات ملايين اليوروهات.
‏التحقيقات التي امتدت لأعوام، أدت إلى محاكمة الرئيس الفرنسي الأسبق عام 2021 بتهم الفساد والتمويل غير المشروع واستغلال النفوذ، وهي سابقة في تاريخ الجمهورية الخامسة.
‏وفي عام 2025، أكدت محكمة باريس أحكاماً بالسجن على ساركوزي في بعض القضايا المرتبطة بالتمويل، منها “قضية التنصّت” وقضية التمويل الليبي التي ما زالت متفرّعة ومفتوحة.
‏(انظر: Le Monde, March 2024 BBC News, March 1, 2025 Al Jazeera, Feb 2024).


‏---

‏ثالثاً: المال الليبي... البوابة إلى السياسة الإفريقية

‏العلاقة بين فرنسا وليبيا لم تكن يوماً علاقة متكافئة، بل كانت شبكة مصالح معقّدة. فليبيا الغنية بالنفط شكّلت لفرنسا منذ عهد ديغول نقطة نفوذ في مواجهة إيطاليا وبريطانيا، ومصدراً لتمويل بعض سياساتها الإفريقية غير المعلنة.
‏ومع مجيء معمر القذافي، تحوّلت العلاقة إلى لعبة مصالح ومقايضات:

‏دعم فرنسي غير مباشر لبعض المشاريع الليبية في الساحل الإفريقي، مقابل تعاون أمني واقتصادي.

‏تدخل فرنسي سياسي وإنساني في قضية الممرضات البلغاريات عام 2007، التي اتُهمن بحقن أطفال ليبيين بفيروس الإيدز. لعبت حينها زوجة ساركوزي، سيسيليا ساركوزي، دور الوسيط، مما أثار جدلاً واسعاً حول استغلال السياسة للمآسي الإنسانية.
‏(انظر: Reuters Archive, 2007 The Guardian, July 2007).


‏لكن مع مرور الوقت، تحوّلت العلاقة إلى خصومة دامية حين دعمت فرنسا، بقيادة ساركوزي نفسه، تدخل حلف الناتو في ليبيا عام 2011، ما أدى إلى سقوط نظام القذافي ومقتله.
‏تساءل كثير من المحللين حينها: هل كانت الحرب انتقاماً سياسياً أم تصفية حسابات مالية؟
‏(راجع: The Independent, Oct 2023 Le Figaro Diplomatie, 2022).


‏---

‏رابعاً: فرنسا في إفريقيا... من "فرانس أفريك" إلى الفوضى الحديثة

‏منذ الستينيات، ظلت فرنسا تُمسك بخيوط النفوذ في إفريقيا عبر ما يسمى بـ"فرانس أفريك" (Françafrique)، وهي شبكة مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية تمتد من تشاد إلى مالي وساحل العاج.
‏لكن خلال العقدين الأخيرين، واجهت باريس تمرداً صامتاً من مستعمراتها السابقة، التي بدأت تميل إلى الصين وروسيا وتركيا، مطالبةً بالسيادة الكاملة على مواردها.
‏التدخل الفرنسي في ليبيا عام 2011 فاقم هذا التراجع، إذ اعتُبر خطأً استراتيجياً أدى إلى زعزعة الاستقرار في الساحل الإفريقي وولادة حركات متطرفة تمددت نحو مالي والنيجر.
‏(انظر: Le Monde Afrique, Dec 2024 Brookings Institution Report, 2023).

‏بهذا المعنى، فإن فرنسا التي "لا تغفر مرتين" وجّهت نيران عدالتها نحو الداخل (محاكمة بيتان وساركوزي)، لكنها فشلت في محاكمة ذاتها خارج حدودها، حين كانت سياساتها الإفريقية سبباً في فوضى إقليمية مستمرة.


‏---

‏خامساً: السياسة الليبية بين باريس وروما

‏في المقابل، حاولت ليبيا في عهد القذافي لعب دور الموازن بين النفوذ الفرنسي والإيطالي في البحر المتوسط.
‏إيطاليا كانت ترى ليبيا "حديقتها الخلفية"، بينما كانت فرنسا تنظر إليها كبوابة إلى إفريقيا الوسطى والساحل.
‏عندما قرّر القذافي تعزيز علاقاته مع باريس عبر اتفاقات اقتصادية (2007) وصفقات سلاح، بدا أنه يشتري الحماية السياسية من ساركوزي، لكنها تحوّلت سريعاً إلى صراع دموي بعد أربع سنوات فقط.
‏(انظر: BBC Arabic, March 2011 DW, Feb 2012).
‏سقوط القذافي غيّر موازين القوى في المتوسط، وجعل إيطاليا وفرنسا تتنافسان على إعادة الإعمار والنفط الليبي، بينما غرقت ليبيا في صراع داخلي طويل.


‏---

‏خاتمة

‏فرنسا التي سجنت بطلها الوطني لأنه خان، وحاكمت رئيسها لأنه تلقى المال من الخارج، تبدو اليوم واقفة على مفترق أخلاقي:
‏هل ما زالت "لا تغفر مرتين" فعلاً، أم أنها تغفر لنفسها حين يتعلّق الأمر بمصالحها في إفريقيا وليبيا؟
‏العدالة الفرنسية أظهرت صرامة داخلية، لكن سياساتها الخارجية كشفت ازدواجية بين المبادئ والمصالح.
‏القصة لم تنتهِ بعد — كما قال بعض المراقبين:
‏"القضية لم تُغلق، بل تتوالد… والبقية تأتي."


‏---

‏المراجع

‏1. Philippe Pétain – Encyclopaedia Britannica, 2024.


‏2. France24 Archives – “The Trial of Philippe Pétain,” 2020.


‏3. Le Monde – “Sarkozy’s Libyan Funding Case,” March 2024.


‏4. BBC News – “Nicolas Sarkozy Found Guilty of Corruption,” March 1, 2025.


‏5. The Guardian – “Bulgaria’s Nurses Released After French Mediation,” July 2007.


‏6. The Independent – “France’s Intervention in Libya: A Fatal Miscalculation,” Oct 2023.


‏7. Le Figaro Diplomatie – “From Sarkozy to Macron: Libya and France’s Shadow Strategy,” 2022.


‏8. Le Monde Afrique – “France and Africa’s Sovereignty Push,” Dec 2024.


‏9. Brookings Institution Report – “Post-Libya Instability in the Sahel,” 2023.


‏10. DW Arabic – “Italy, France, and the Battle over Libya’s Future,” 2012.



#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اتصال الرابعة صباحًا
- ‏الدكتور فاوستوس لمارلو وتجسيد فكره في السياسة الدولية
- ‏هل ستقبل إسرائيل بالواقع الراهن في
- ‏التجذير السياسي في العلاقات بين الدول: مقاربة تحليلية للعوا ...
- ‏العوامل التي ستقود إلى فشل اتفاقية وقف إطلاق النار بين حماس ...
- ‏الاستنساخ إلى أين؟ الجرأة على الحدود الممنوعة
- مزامير السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
- الأسباب الخفية للحروب: من حرب أسبرطة وأثينا إلى داحس والغبرا ...
- حدود وآفاق الهندسة الجينية في عصر الانفجار المعرفي
- ‏المقاومة بالموسيقا: دروس من التاريخ – من الصرخة إلى اللحن، ...
- ‏فاوست في السياسة الدولية الحديثة: مفاهيم الصراع، القوة، وال ...
- ‏الفزعة عند العرب: دراسة تحليلية تاريخية-اجتماعية-سياسية
- ‏الفيزياء الكمية في السياسة الدولية: تأثير العلوم الحديثة عل ...
- تأثير فورر (Barnum / Forer Effect) ودوره في الحرب النفسية ال ...
- ‏المقاومة بالموسيقا: دروس من التاريخ
- ‏الناس الجوف: قراءة نقدية موثقة في الفراغ الوجودي من ت. س. إ ...
- ‏هل ستحل الدولة الدينية محل الدولة القومية في القرن الحادي و ...
- ‏مستقبل البشرية في عصر أنسنة الآلات
- ‏الدولة الدينية والدولة القومية
- الفكر الجهادي: فكر توسّعي عابر للحدود المكانية والزمانية


المزيد.....




- الداخلية السورية: القبض على -خلية إرهابية- في اللاذقية يدعمه ...
- الإمارات تُدين تصويت الكنيست التمهيدي بشأن ضم الضفة الغربية ...
- بحضور الرئيس هرتسوغ.. إسرائيل تقيم جنازة لرهينة عادت جثته من ...
- تحركات إسرائيلية جديدة في ريف القنيطرة.. انتشار عسكري داخل ا ...
- فانس يصف خطط ضمّ الضفة الغربية بأنها -إهانة شخصية- و-غباء سي ...
- الأكراد .. حجر عثرة أمام طموح تركيا في بسط نفوذها في السوق ا ...
- عمر خيرت وكارول سماحة .. -غرامي هاوس- تتوسع عالميًا إلى أهرا ...
- بعد أيام من سرقة متحف اللوفر.. فيديو يُظهر لصوصا أثناء محاول ...
- تصويت الكنيست.. نتنياهو يُحمّل المعارضة المسؤولية وبيان -عرب ...
- من هو مفتي السعودية الجديد وما أكثر فتاويه إثارة للجدل؟


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - محمد عبد الكريم يوسف - ‏فرنسا التي لا تغفر مرة ثانية