أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أيمن زهري - المصريون القدماء: روحانية أسيء فهمها














المزيد.....

المصريون القدماء: روحانية أسيء فهمها


أيمن زهري
كاتب وأكاديمي مصري، خبير السكان ودراسات الهجرة


الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 17:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لم تُظلَم حضارة كما ظُلمت الحضارة المصرية القديمة؛ حُكم عليها بمفاهيم ليست من زمنها، وصُوِّرت باعتبارها وثنية سطحية بينما كانت في حقيقتها منظومة روحية عميقة تبحث عن المعنى قبل ظهور الأديان الكبرى بآلاف السنين.

لم تتعرض الحضارة المصرية القديمة لتشويه مثل ذلك الذي لحق بها في المخيال العام، حيث ترسّخت صورة نمطية تختزلها في التماثيل والطقوس والأشكال، وتعتبر أهلها مجرد “عابدي أصنام” أو “وثنيين” بالمعنى المتداول في عصرنا. هذا الحكم الجاهز لا يعكس حقيقة هذه الحضارة، ولا ينسجم مع ما كشفته النصوص والنقوش الباقية، ولا مع قدرة الإنسان المصري القديم على التأمل العميق في الوجود ودلالاته. المشكلة ليست في اختلاف المعتقدات بين الأزمنة، فلكل عصر لغته الروحية، بل في إسقاطنا لمفردات حديثة على عالمٍ لم يعرفها؛ إذ لا يمكن محاكمة شعبٍ عاش قبل الأديان الإبراهيمية بآلاف السنين بمصطلحات وُلدت بعدها بقرون طويلة.

عندما نقرأ نصوص المصريين القدماء كما هي، بعيدًا عن الضوضاء التي راكمتها الكتب المدرسية والخرافات الشعبية، يتكشف أمامنا عالم روحي متماسك، لا علاقة له بالوثنية الساذجة التي تُنسب إليهم. كان المصري القديم يرى الكون وحدةً واحدة ذات مصدر واحد، وأن ما يبدو من تعدد في الصور ليس إلا وجوهًا مختلفة لقوة كونية تنظم الوجود. الأسماء التي نطلق عليها اليوم “آلهة” لم تكن، في وعيهم، كيانات مستقلة تتصارع أو تتنافس، بل كانت تعبيرات رمزية عن فعل إلهي واحد. هذه الفكرة، التي قد تبدو غريبة على بعض القرّاء، نجدها واضحة في نصوص معابد طيبة والكرنك وفي برديات الدولة الحديثة؛ حيث يَرِد وصف الإله بأنه “الواحد الذي لا شريك له”، وأنه “خالق السماء والأرض”، وأنه “الأزلي الذي أوجد نفسه بنفسه”. هذه لغة لا يمكن وصفها بالوثنية، بل هي أقرب إلى التوحيد الفلسفي الذي يتجلى قبل أن تتبلور فكرة التوحيد الديني بشكله اللاحق.

أما التماثيل، التي جعلها البعض حجة لإدانة المصريين القدماء، فلم تكن في نظرهم سوى رموز بصرية تُجسّد معنى روحيًّا. كان الشكل—بكل تفاصيله الدقيقة—أداة لنقل الفكرة، لا غاية في ذاته، تمامًا كما نستخدم المجاز والشعر والصورة الذهنية للتعبير عن ما لا يُقال مباشرة. لم يكن التمثال “إلهًا”، بل كان جزءًا من النظام الرمزي الذي اعتمد عليه المصريون لتجسيد ما هو غير ملموس، أي محاولة لصياغة المعنى بلغة العصر. وما يبدو لنا اليوم مجسدًا ماديًا كان بالنسبة لهم لغة رمزية لفهم القوة الخفية التي تحرك الكون.

تزداد دهشتنا عندما نكتشف أن جوهر الدين المصري لم يكن عقائديًا بقدر ما كان أخلاقيًا، فالركيزة الأساسية للحياة الروحية عند المصريين القدماء كانت “ماعت” — الحق والعدل والنظام الكوني. هذه ليست فكرة عابرة، بل منظومة أخلاقية متكاملة تستند إلى الإيمان بأن الإنسان مسؤول عن أفعاله، وأن القلب يُوزن بعد الموت، وأن الظلم يهدم توازن الكون، وأن الصدق قيمة كونية لا اجتماعية فحسب. هذه الرؤية الأخلاقية، التي تتجلى في بردية “الحكيم آني” وفي “تعاليم بتاح حتب”، تقدم تصورًا بالغ الرقي لفكرة الحساب والمسؤولية والجزاء، ومَن يتأمل هذه النصوص يدرك أن المصري القديم لم يكن يسعى إلى إرضاء تماثيل، بل كان معنيًا ببناء حياة قائمة على الصدق والعدل، وأن العلاقة بين الإنسان والوجود كانت علاقة أخلاقية قبل أن تكون طقسية.

لذلك، فإن وصف المصريين القدماء بالكفر أو الوثنية - بالمعنى الشائع - هو ظلم تاريخي وإسقاط معرفي. إن مصطلح “الكفر” ذاته لا يمكن تطبيقه على حضارة سبقت ظهوره، وربما لم تُخاطب بالرسالات السماوية، والقول بأنهم “وثنيون” يختزل عالمًا روحيًا معقدًا في كلمة واحدة تتجاهل أبعاده الفلسفية والرمزية، ولولا أن النصوص والآثار ناطقة بطبيعة هذا الإيمان، لربما كان ادعاء البعض مقبولًا، لكن الحقيقة واضحة أمامنا: المصري القديم كان يبحث عن الله بطريقته، ويفسّر الوجود عبر رموزه، ويؤمن بقوة عليا عاقلة تنظم العالم وتعرف الضمير والسريرة.

إن الدفاع عن الحضارة المصرية القديمة ليس دعوة لتمجيد الماضي أو لإعادة إحياء معتقداته، بل هو دفاع عن قدرتنا على قراءة التاريخ بوعي. لسنا هنا لنضع المصري القديم في مصاف الديانات الكبرى، ولكن لنفهمه كما فهم نفسه، لا كما صُوّر لنا. فهذه الحضارة لم تكن أسطورة عابرة، ولا تراكمًا من الحكايات، بل كانت تجربة إنسانية عميقة لفهم الحياة والموت والعدل والكون، ومن الظلم اختزال هذا الإرث العظيم في تهمة جاهزة بسبب سوء قراءة أو تجاهل للسياق الزمني والمعرفي.

إن روحانية المصريين القدماء لم تكن بديلًا عن أي إيمان لاحق، بل كانت إحدى الطرق الأولى التي عبّر بها الإنسان عن قلقه الوجودي ورغبته في الفهم، وهذه الروحانية تستحق أن تُقرأ كما هي: بحث عن المعنى، احترام للنظام الكوني، وإيمان بأن الحقيقة أكبر من القدرة على رؤيتها.، وإذا كان الإنصاف قيمة من قيم ماعت نفسها، فإن أقل ما يمكن أن نقدمه لأجدادنا هو أن نقرأ تاريخهم بإنصاف، لا بحكم جاهز ولا برؤية مبتسرة.

هذه هي الحقيقة كما يجب أن تُقال… حضارة تبحث عن الله بلغتها، وتتأمل العالم بفلسفتها، وتقدّم للإنسانية إرثًا روحيًا لا ينبغي أن يُختزل في كلمة “وثنية”، ولا أن يُدان بمفاهيم وُلدت بعد آلاف السنين من نشأتها.



#أيمن_زهري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا يكره المصريون الجولاني
- اللاجئون في العالم: بوادر تراجع بعد عقد من الارتفاع المستمر
- البناء على زخم افتتاح المتحف المصري الكبير: إعادة بعث الهوية ...
- افتتاح المتحف المصري الكبير: لحظة فرح وطنية في زمن الأزمات
- العالم العصري والنزعة الفردانية
- بين النبوءة والواقع: قراءة نقدية لأحداث نهاية الزمان
- متى ينقرض البشر؟
- الهجرة النظامية: هل توقف الهجرة غير النظامية؟
- جيل ألفا: جيل المستقبل الذي سيحمل عبء شيخوخة العالم
- بين الماضي والحاضر: هل يصلح حاضر المجتمعات بما صلح به ماضيها ...
- الذكاء الاصطناعي: أداة قديمة في ثوب جديد
- فقه الفضاء وفقه الفقراء: صراع الأولويات في الفكر الإسلامي ال ...
- التجليات الإجرائية للنص القرآني في المجال العام المصري
- التجليات الإجرائية للنص القرآني في المجال العام المصري
- نهاية النمو؟ ملامح التحول السكاني في القرن الحادي والعشرين
- بمناسبة اليوم العالمي للاجئين: قراءة في تقرير الاتجاهات العا ...
- هل ينجح ترامب في طرد المهاجرين؟
- موسم الرَّد إلى الجنوب
- حكم تارك الصلاة وتطور الحياة بين الثوابت والمتغيرات
- To Migrate´-or-not to Migrate: هل هذا هو السؤال؟


المزيد.....




- الخليل.. إسرائيل تغلق المسجد الإبراهيمي للاحتفال بعيد سارة ا ...
- الخليل.. إسرائيل تغلق المسجد الإبراهيمي للاحتفال بعيد -سارة- ...
- حكومة دقلو تدحض -أكاذيب الفاشر-.. وتتهم الإخوان بالتضليل
- مقترح صهيوني لإنشاء إدارة خاصة تتولى شؤون المسجد الإبراهيمي ...
- الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل
- جماهير غفيرة تشيع جثمان الشيخ عبد العظيم سلهب من المسجد الاق ...
- خطيب المسجد الأقصى لـ الشروق: اعتداءات المتطرفين على مقبرة ب ...
- المدرسة الفارسية.. صرح مملوكي في المسجد الأقصى
- المستوطنون يعيثون فسادا في الضفة.. وإدانات لعملية إحراق المس ...
- غوتيريش يدين هجوم المستعمرين على مسجد الحاجة حميدة بمحافظة س ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أيمن زهري - المصريون القدماء: روحانية أسيء فهمها