أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أيمن زهري - بين الماضي والحاضر: هل يصلح حاضر المجتمعات بما صلح به ماضيها؟














المزيد.....

بين الماضي والحاضر: هل يصلح حاضر المجتمعات بما صلح به ماضيها؟


أيمن زهري
كاتب وأكاديمي مصري، خبير السكان ودراسات الهجرة


الحوار المتمدن-العدد: 8443 - 2025 / 8 / 23 - 18:31
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


تتردّد في الكتابات التراثية عبارة مشهورة منسوبة للإمام مالك بن أنس: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.” تحولت هذه العبارة مع مرور الزمن إلى شعار يتخذه بعض التيارات الراديكالية لتأكيد أن الإصلاح يكمن في استعادة الماضي كما هو، وأن التغيير أو التجديد قد يقود إلى الانحراف. غير أن هذه المقولة ـ إذا جرى تعميمها على كل الأزمنة ـ تطرح إشكالات عميقة: فهل يمكن أن تصلح أحوال الدول والمجتمعات المعاصرة بما صلح به حالها في القرون الغابرة؟ أم أن الزمن يفرض بالضرورة أدوات جديدة للحكم والإدارة والتنظيم؟

هذه المقالة تحاول تفكيك المقولة في ضوء ثلاثة مستويات: سياقها التاريخي، مشكلات إسقاطها على الحاضر، ثم رؤية بديلة تمزج بين الهوية الوطنية ومتطلبات العصر.

أولًا: سياق ظهور المقولة
قال الإمام مالك عبارته هذه في القرن الثاني الهجري، وهو زمن شهد بدايات الفجوة بين البساطة الأولى للمجتمع المدني في صدر الإسلام وتعقّد مؤسسات الدولة واتساعها. جاءت كلماته دعوة للتمسك بالقيم المؤسسة في مواجهة الاضطراب الفكري والسياسي الذي عاصره. لكن تلك الدعوة، في سياقها، لم تكن رفضًا مطلقًا للاجتهاد أو لتغير الأحوال، بل كانت تحذيرًا من الانفلات الكامل عن المرجعية الأخلاقية.

إن نقل العبارة بحرفيتها إلى عالم اليوم قد يغفل حقيقة أن الدولة القومية الحديثة، ذات السيادة الوطنية والأنظمة المؤسسية، تختلف جذريًا عن الكيانات السياسية التي كانت قائمة في القرون الأولى.

ثانيًا: إشكالية استدعاء الماضي
عندما تتحول المقولة إلى قاعدة عامة لإدارة الدول والمجتمعات الحديثة، تظهر عدة مشكلات:
1. اختلاف السياق التاريخي والسياسي
إذ أن ما كان صالحًا لمجتمع صغير متجانس في القرن السابع لا يمكن أن يُستنسخ في دولة حديثة يعيش فيها عشرات الملايين، وتدار باقتصاد معقد، وتتعامل مع نظام دولي يقوم على المعاهدات والقوانين الدولية.
2. التغير الاجتماعي والمعرفي
المجتمعات البشرية لا تقف عند حدود زمنية معينة. أنماط السلطة والإنتاج والمعرفة تتبدل باستمرار. لذلك فإن الإصلاح لا يتحقق بالعودة إلى الوراء، بل بالتطلع للمستقبل والتكيف مع التغيرات واستيعابها ضمن هوية وطنية راسخة.
3. الخلط بين القيم والآليات
من المهم التمييز بين القيم الكبرى التي قد تبقى صالحة لكل عصر ولكل مصر (كالعدالة، المشاركة، احترام الكرامة الإنسانية) وبين آليات تطبيقها التي تختلف من عصر إلى آخر. فالمشاركة السياسية في الماضي قد تجلت في مجالس محدودة، أما اليوم فتتحقق عبر انتخابات وأحزاب ودساتير حديثة.

ثالثًا: الدولة الحديثة والهوية الوطنية
إن التمسك بالهوية الوطنية لا يتناقض مع استلهام القيم الأخلاقية العامة، لكنه يختلف جذريًا عن فكرة استنساخ الماضي. الدولة الوطنية الحديثة تستمد شرعيتها من:
• الدستور والقانون، لا من أعراف القرن السابع.
• المواطنة المتساوية، لا من التمييز على أسس دينية أو قبلية.
• المؤسسات الحديثة كالبرلمان والقضاء المستقل والإدارة البيروقراطية، لا من الهياكل التقليدية وحدها.

وهنا تصبح المقولة التاريخية، إذا أخذت بحرفيتها، قيدًا على التطور، لأنها تُحيل الحاضر إلى الماضي بدلاً من أن تدفعه نحو المستقبل.

رابعًا: خطورة استدعاء الماضي حرفيًا
لا شك أن استدعاء الماضي حرفياً قد ينتهي بنا إلي العديد من الظواهر السلبية التي ربما تقوّض بناء الدولة الحديثة بالكامل. لعل من أهم تداعيات الاستدعاء الحرفي للماضي العوامل التالية:
• الجمود السياسي: إذ يبرر التمسك الحرفي بالماضي رفض الإصلاحات الدستورية أو المؤسسية.
• انفصام الهوية الوطنية: حيث يُطلب من الدولة أن تعيش بعقلية الخلافة القديمة، بينما مواطنوها يتطلعون إلى دولة حديثة تخدم مصالحهم اليومية.
• إنتاج التطرف: فالجماعات الأيديولوجية غالبًا ما تتبنى فكرة “إحياء الماضي” كبديل عن التفكير الواقعي في تحديات الدولة الوطنية.

خامسًا: نحو مقولة بديلة
بدلًا من القول: “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”، يمكن إعادة صياغتها لتصبح أكثر ملاءمة لعصر الدولة الوطنية:

“لن ينهض حاضر المجتمعات البشرية إلا إذا استلهم قيمها المؤسسة، وأعادت تأويلها بما يناسب حاجات زمانها ومكانها.”

بهذا الفهم، يمكننا الحفاظ على القيم الكبرى كالعدل والمساواة والرحمة، لكن تُطبَّق عبر مؤسسات وآليات معاصرة كالديمقراطية وحقوق الإنسان والدساتير الحديثة.

ختاماً يمكنني القول أن الماضي ليس عبئًا يجب التخلص منه، ولا نموذجًا يجب استنساخه بحرفيته، إنه مرجع ثقافي وأخلاقي يمكن أن يُلهم الحاضر، لكن صلاح الدول والمجتمعات مرهون بقدرتها على التجديد والتكيّف مع معطيات عصرها.

إن الدول لا تُبنى باستدعاء صيغ قديمة للحكم، بل بترسيخ الهوية الوطنية وتطوير المؤسسات وإطلاق طاقات البشر للإبداع والابتكار. هكذا فقط يمكن أن ينهض الحاضر، لا بتكرار الماضي، بل بإعادة صياغة القيم المؤسسة في ضوء التحديات الراهنة والآمال المستقبلية.



#أيمن_زهري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذكاء الاصطناعي: أداة قديمة في ثوب جديد
- فقه الفضاء وفقه الفقراء: صراع الأولويات في الفكر الإسلامي ال ...
- التجليات الإجرائية للنص القرآني في المجال العام المصري
- التجليات الإجرائية للنص القرآني في المجال العام المصري
- نهاية النمو؟ ملامح التحول السكاني في القرن الحادي والعشرين
- بمناسبة اليوم العالمي للاجئين: قراءة في تقرير الاتجاهات العا ...
- هل ينجح ترامب في طرد المهاجرين؟
- موسم الرَّد إلى الجنوب
- حكم تارك الصلاة وتطور الحياة بين الثوابت والمتغيرات
- To Migrate´-or-not to Migrate: هل هذا هو السؤال؟
- اللاإنجابية في مصر: قرار فردي أم ظاهرة اجتماعية؟
- الهجرة والتعاون الأوروبي-الأفريقي: بين عملية الخرطوم وعملية ...
- أزمنة التشظّي
- اليوم الدولي للمهاجرين 2024: هل من جديد؟
- مؤتمر القاهرة الدولي للسكان والتنمية 1994 في ذكراه الثلاثين
- عصر الإتاحةِ المدمّرة
- سياحة التقاعد في مصر
- لا تجلدوا محمد حسين يعقوب
- هل زادت الرغبة في الهجرة؟
- سكان مصر في العشرية الأخيرة 2011-2021


المزيد.....




- -أصبح مشلولا-.. الجيش العراقي يرد على تحذيرات أمريكية من توس ...
- في -اليوم المفتوح-.. مقرات الحكومة الألمانية في برلين تستقبل ...
- الهند تعلّق إرسال الطرود إلى الولايات المتحدة بسبب رسوم جمرك ...
- وزارة الداخلية تطلق ورش إعداد «جيل جديد» من برامج التنمية ال ...
- من مطاردة الكلاب له إلى -مجند- في مركز شرطة.. إليكم قصة هذا ...
- شريكة إبستين السابقة تدافع عن ترامب: -لم أره قط في وضع غير ل ...
- بينهم نساء وأطفال.. مقتل 25 فلسطينياً في غزة بهجمات إسرائيلي ...
- وسائل إعلام إسرائيلية: نتانياهو يدفع لتسريع عملية السيطرة عل ...
- الغيطة الجبلية.. نبض الاحتفالات في قبائل جبالة بالمغرب
- صحيفة روسية: ترامب ارتكب خطأ جيوسياسيا بشأن الهند


المزيد.....

- نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي ... / زهير الخويلدي
- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - أيمن زهري - بين الماضي والحاضر: هل يصلح حاضر المجتمعات بما صلح به ماضيها؟