أيمن هري
الحوار المتمدن-العدد: 8408 - 2025 / 7 / 19 - 03:14
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في الفضاء العام المصري، يبدو حضور النصوص الدينية، وعلى رأسها آيات الذكر الحكيم، جزءً عضويًا من النسيج الرمزي والاجتماعي. لا يُقرأ القرآن في مصر فقط من المصاحف أو على المنابر، بل يُرى ويُسمع في الشارع وعلى واجهات المحلات وعلى زجاج السيارات، وحتى في عيادات الأطباء ومحلات عسل النحل ومستحضرات التجميل. هذا الحضور الكثيف للنص القرآني لا يأتي بوصفه ظاهرة وعظية أو دَعَوية صِرفة، بل يُمارَس في كثير من الأحيان كأداة وظيفية ـ إجرائية ـ تَمنح الأنشطة الحياتية اليومية قدرًا من المعنى والتبرير والشرعية.
في هذا السياق، لا يُنظر إلى الآية القرآنية كمجرد نص ديني يُستحضر في العبادات أو التأملات، بل باعتبارها مادة لغوية ورمزية قابلة للتداول والاستخدام في الحياة اليومية. هذا التوظيف يتجاوز الأطر الفقهية والتفسيرية، ويتجلى كممارسة اجتماعية لها منطقها الخاص، يستند إلى الثقافة الشعبية وامتد جذوره لتلامس التديّن الفطريّ الذي مازال يميّز شرائحاً واسعة من المجتمع المصري. إنه نوع من الترجمة اليومية للنصوص المقدسة، يتم من خلاله إدخال الآيات في أنساق جديدة تُخضعها أحيانًا لإعادة تأويل، أو تُفرغها من سياقاتها الأصلية لتلائم أغراضًا تجارية أو اجتماعية.
في أحد محلات العصير مثلًا، نجد لافتة مكتوبًا عليها: “وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا”، وهي آية من سورة الإنسان تصف نعيم الجنة، لكنها تُستَخدم هنا لتضفي قدسية على كوب العصير الذي يُقدَّم للزبون، وكأن هذا الشراب الدنيوي يمكن أن يكون تجلّيًا من تجليات الطهور الأخروي. لا يُقصَد بهذا الاستخدام محاكاة الجنّة، بل توظيف القوة الرمزية للآية في خدمة منتجٍ دنيوي، هي ممارسة شائعة لا تُعدّ خروجًا على المعنى بقدر ما تُعدّ استحضارًا انتقائيًا له، بما يخدم الغرض الإجرائي للمحل.
في محل آخر للحلاقة، نقرأ: “وجوه يومئذ ناعمة”، في ربط مباشر بين فعل التجميل وبين الأثر المنشود للزبون، والذي يُستدعى له وعدُ الآخرة في تلطيف ملامحه. أما على زجاج ميكروباص ينادي الزبائن، فقد نجد مكتوبًا بخط اليد: “يا بني اركب معنا ولا تكن مع القوم الكافرين”. لا تخرج الآية هنا عن سياقها في قصة نوح إلا بقدر ما تُستخدم كأداة دعائية لحثّ المارّة على الركوب، مُضفيةً على الفعل العادي (ركوب الميكروباص) طابعًا خاصّا. حتى وإن بدا الأمر ساخرًا أو غريبًا من منظور لغوي أو ديني، إلا أنه يتجلّى اجتماعيًا باعتباره وسيلة تواصل فعّالة ذات تأثير وجداني.
يمتد هذا التوظيف أيضًا إلى محلات التصوير، حيث نجد عبارة “فصوّركم فأحسن صوركم”، وهي آية قرآنية تتحدث عن فعل الخلق الإلهي. تتحول هنا إلى نوع من التسويق الرمزي الذي يَعِد الزبون بصورة “حسنة” مستندة إلى مرجعية قرآنية، حتى وإن كان السياق المقصود في الأصل مختلفًا تمامًا عن التصوير الفوتوغرافي الذي كان السلفيّون يحرّمونه حتى وقت قريب. في العيادات الطبية، كثيرًا ما تُرفع آية “وإذا مرضتُ فهو يشفين” باعتبارها تعبيرًا عن التوكل، وإعادة ضبط للعلاقة بين المريض والطبيب، حيث تُنسب القدرة على الشفاء إلى الله وحده، بينما يُترك للطبيب دور الأداة والوسيط.
أما في محلات بيع العسل، فتُستخدم آية “فيه شفاءٌ للناس” على نحو مباشر وغير قابل للتأويل، إذ أن النص ذاته يربط بين العسل والشفاء، وهو ما يجعل هذا التوظيف الأكثر منطقية عن غيره.
في الفضاء الوطني، وخاصة في الأماكن ذات الطابع الرسمي أو السيادي، نجد استحضارًا لآيات تحمل طابعًا جامعًا أو ترحيبيًا. في مطار القاهرة الدولي، تُرفَع في بعض المناسبات لافتة مكتوبٌ عليها: “ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين”، وهي آية من سورة يوسف، تُوظّف هنا لتأكيد الطابع الآمن للبلاد، وتُستثمر سياسيًا وسياحيًا في آنٍ واحد. ويكتسب هذا الاستخدام معنى دلاليًا مركبًا، إذ يُقدَّم كمؤشر على عمق التاريخ ومرجعية الاستقرار.
في القوارب الصغيرة والمراكب التقليدية، سواء في النيل أو البحيرات أو البحر، كثيرًا ما نجد عبارة: “بسم الله مجراها ومرساها”، وهي آية قرآنية وردت في سياق قصة نوح، يُنظر إليها هنا كتعبير عن الاتكال على الله، والتماس الحماية من الأخطار.
إن ما يميّز هذه الظاهرة هو أنّ التوظيف القرآني لا يتم وفق استراتيجية واحدة، بل يخضع لمجموعة من الحوافز المتداخلة: التبرك، والإقناع، والزينة، والتسويق، والانتماء، والتطمين، وهي ممارسات تتجلّى في أغلبها ضمن إطار شعبي غير مؤسسي، لكنها تسهم بشكل فعال في إنتاج خطاب ديني يومي، غير رسمي، يتداخل مع الواقع اليومي، ويُعيد تشكيل العلاقة بين المقدس والعادي، بين النص القرآني وحاجات الإنسان في واقع ضاغط ومتشابك.
لذلك فإن الحديث عن هذا النمط من التوظيف لا ينبغي أن ينحصر في بُعده التعبدي أو اللغوي، بل يجب أن يُقرأ ضمن منظور اجتماعي يرى في هذه الظاهرة تجليًا للكيفية التي يتم بها استدعاء المقدس في فضاء اجتماعي مزدحم بالرموز والدلالات، يُوظّف فيها النص كوسيلة إنتاج للمعنى، وكجسر بين الثابت الديني والمتحوّل المجتمعي.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟