أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أيمن زهري - متى ينقرض البشر؟















المزيد.....

متى ينقرض البشر؟


أيمن زهري
كاتب وأكاديمي مصري، خبير السكان ودراسات الهجرة


الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 20:11
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منذ أن وُجد الإنسان على سطح الأرض، ارتبط مصيره بسلسلة طويلة من التحولات الطبيعية والبيئية والاجتماعية، وقد اعتاد الباحثون في قضايا المستقبل أن يناقشوا مسألة نهاية البشر من زوايا متعددة، مثل الحروب النووية أو الكوارث المناخية أو الأوبئة المدمرة، غير أنّ النظر إلى هذه المسألة من زاوية ديموغرافية بحتة يفتح لنا أفقًا مختلفًة، فالانقراض هنا لا يُفهم كنتيجة لكارثة فجائية، بل كنتيجة لمسار سكاني طويل الأمد يمر بمراحل النمو والذروة ثم الانكماش والاندثار التدريجي. هذا التصور يجعلنا نرى الإنسان ككائن محكوم بقوانين الخصوبة والوفيات مثل بقية الكائنات الحية، وأن مصيره في النهاية قد لا يختلف كثيرًا عن مصير الأنواع التي ظهرت ثم اختفت عبر تاريخ الأرض.

لقد احتاجت البشرية إلى عشرات آلاف السنين لكي تصل إلى المليار الأول من البشر (السكان) عام 1804، لأن النمو السكاني كان بطيئًا للغاية في عصور ما قبل الصناعة، حيث توازن عدد المواليد المرتفع مع عدد الوفيات المرتفع أيضًا، وبقيت أعداد البشر محدودة نسبيًا، لكن مع الثورة الصناعية وتطور الطب وتحسن أنماط المعيشة والغذاء، انخفضت الوفيات بشكل ملحوظ بينما استمرت الخصوبة مرتفعة، فدخل العالم مرحلة الانفجار السكاني. في غضون قرنين فقط ارتفع عدد البشر من مليار واحد إلى أكثر من ثمانية مليارات نسمة. ففي عام 1927 وصل عدد سكان العالم إلى مليارين، ثم إلى ثلاثة مليارات عام 1960، وأربعة مليارات عام 1974، وخمسة مليارات عام 1987، وستة مليارات عام 1999، وسبعة مليارات عام 2011، وثمانية مليارات عام 2022. هذه القفزة السريعة لم يعرفها التاريخ البشري من قبل، إذ تضاعف عدد السكان مرات عديدة في فترة وجيزة مقارنة بملايين السنين السابقة.

هذا النمو المذهل لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، فالتقديرات السكانية للأمم المتحدة تشير إلى أن عدد سكان العالم سيبلغ ذروته في حدود عشرة مليارات وأربعمائة مليون نسمة بحلول عام 2084 تقريبًا، ثم يبدأ الاستقرار وربما التراجع البطيء. السبب الرئيسي لذلك هو الانخفاض المستمر في معدلات الخصوبة في معظم دول العالم، بما في ذلك الدول التي كانت تُعرف تقليديًا بارتفاع معدلات المواليد فيها. مع تراجع الخصوبة تحت مستوى الإحلال البالغ نحو 2.1 مولود حي لكل امرأة في سن الحمل (15-49 عاماً)، يدخل العالم مرحلة جديدة تُعرف بمرحلة الانكماش السكاني، حيث لا يكفي عدد المواليد لتعويض عدد الوفيات، ومع مرور الوقت يتناقص إجمالي عدد السكان تدريجيًا.

الانكماش السكاني ليس سيناريوً افتراضيًا بعيدًا، بل بدأ بالفعل في بعض الدول، اليابان مثلًا تسجل منذ سنوات انخفاضًا في عدد السكان، وكذلك بعض دول أوروبا الشرقية وكوريا الجنوبية. هذه التجارب تشكل نوافذ مبكرة على ما قد يواجهه العالم بأسره في القرون المقبلة. مع استمرار التغيرات الاجتماعية التي تحدّ من الرغبة في الإنجاب، مثل ارتفاع تكاليف المعيشة، وتغير مكانة المرأة في سوق العمل، والتحولات الثقافية التي تعلي من شأن الفردية على حساب الأسرة ، والتوجهات اللاإنجابية لجيل الشباب، يصبح من المرجح أن تدخل مزيد من المجتمعات في مرحلة النمو السلبي.

إذا امتد هذا الاتجاه لقرون مقبلة، فإن عدد سكان العالم قد يعود إلى حدود مليار نسمة فقط في الفترة ما بين 2500 و3000 ميلادية. هذا الانخفاض لن يكون فجائيًا أو كارثيًا، بل نتيجة تراكمية لمسار طويل الأمد يتسم بانخفاض الخصوبة وارتفاع الشيخوخة، فالمجتمعات التي يشيخ سكانها وتعجز عن تعويض نفسها بالمواليد الجدد ستجد نفسها أمام تقلص مستمر في الأجيال المتعاقبة، ومع مرور القرون، قد يصبح الإنسان أقلية صغيرة للغاية مقارنة بما كان عليه في ذروة القرن الحادي والعشرين.

من منظور ديموغرافي بحت، يمكن النظر إلى الانقراض كاحتمال حتمي التحقق. فإذا استمرت الخصوبة العالمية في التراجع إلى مستويات متدنية، وإذا عجزت السياسات العامة عن قلب هذا المسار، فإن مصير البشر سيكون الانكماش المستمر حتى الزوال. لن يحدث هذا في غضون عقود أو حتى قرون قليلة، بل ربما يحتاج إلى ما يقرب من ألف سنة أو أكثر، لكن النتيجة في النهاية تظل قائمة: عودة العدد إلى مليار واحد ثم انحدار تدريجي نحو الصفر. بهذا المعنى، يمكن أن نصف مستقبل البشرية بأنه مسار يتسم بالقفزة السريعة والانحدار الطويل: قفزة من مليار إلى عشرة مليارات في حوالي مئتي سنة، يقابلها انحدار بطيء قد يستغرق مئات السنين حتى ينتهي بالانقراض.

هذا السيناريو الديموغرافي للانقراض يتسم بالهدوء النسبي مقارنة بسيناريوهات الكوارث، لكنه في الوقت نفسه أكثر حتمية من زاوية المنطق الإحصائي، فإذا لم تحدث تدخلات كبرى، مثل الانتقال إلى كواكب أخرى أو تطوير تكنولوجيا تغير طبيعة الخصوبة البشرية جذريًا، فإن المسار الطبيعي يشير إلى تقلص تدريجي لا مفر منه، ذلك أن كل المؤشرات الراهنة تدل على أن الخصوبة تميل للانخفاض مع التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وأنه لا توجد مجتمعات كبرى استطاعت أن تعود بمعدلات المواليد المرتفعة بعد أن انخفضت، ومن ثم فإن العالم قد يدخل في حلقة يصعب كسرها، تبدأ بانخفاض الخصوبة وتتعمق بالشيخوخة وتنتهي بالانقراض.

إذا كان الماضي قد احتاج إلى آلاف السنين للوصول إلى المليار الأول، فإن المستقبل قد لا يحتاج إلا إلى بضع مئات من السنين للعودة إلى هذا المستوى ثم تجاوزه نزولًا نحو الصفر. هنا تكمن المفارقة الكبرى: الإنسان الذي عاش معظم تاريخه في ظل أعداد محدودة، ثم عرف انفجارًا سكانيًا غير مسبوق، سيجد نفسه في النهاية يعود إلى القلة والانكماش. هذا يعيدنا إلى حقيقة أن الوجود البشري، مهما بدا ضخمًا ومستقرًا اليوم، ليس إلا حلقة عابرة في سلسلة الحياة على الأرض.

إن النظر إلى مصير البشر من زاوية ديموغرافية يضعنا أمام صورة أكثر هدوءً لكنها أكثر عمقًا، فبينما تجعلنا الكوارث المفاجئة نفكر في نهايات تخيّلية، يكشف لنا المنطق السكاني أن الانقراض قد يكون مسارًا بطيئًا وطويلًا، لكنه أكيد في نهايته. فكما ظهرت ملايين الأنواع وانقرضت، قد يلقى الإنسان المصير ذاته، وبين القفزة والانحدار، يعيش البشر لحظتهم التاريخية القصيرة على هذا الكوكب، حتى تنطوي صفحتهم مثلما انطوت صفحات لا تُحصى قبلهم.



#أيمن_زهري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهجرة النظامية: هل توقف الهجرة غير النظامية؟
- جيل ألفا: جيل المستقبل الذي سيحمل عبء شيخوخة العالم
- بين الماضي والحاضر: هل يصلح حاضر المجتمعات بما صلح به ماضيها ...
- الذكاء الاصطناعي: أداة قديمة في ثوب جديد
- فقه الفضاء وفقه الفقراء: صراع الأولويات في الفكر الإسلامي ال ...
- التجليات الإجرائية للنص القرآني في المجال العام المصري
- التجليات الإجرائية للنص القرآني في المجال العام المصري
- نهاية النمو؟ ملامح التحول السكاني في القرن الحادي والعشرين
- بمناسبة اليوم العالمي للاجئين: قراءة في تقرير الاتجاهات العا ...
- هل ينجح ترامب في طرد المهاجرين؟
- موسم الرَّد إلى الجنوب
- حكم تارك الصلاة وتطور الحياة بين الثوابت والمتغيرات
- To Migrate´-or-not to Migrate: هل هذا هو السؤال؟
- اللاإنجابية في مصر: قرار فردي أم ظاهرة اجتماعية؟
- الهجرة والتعاون الأوروبي-الأفريقي: بين عملية الخرطوم وعملية ...
- أزمنة التشظّي
- اليوم الدولي للمهاجرين 2024: هل من جديد؟
- مؤتمر القاهرة الدولي للسكان والتنمية 1994 في ذكراه الثلاثين
- عصر الإتاحةِ المدمّرة
- سياحة التقاعد في مصر


المزيد.....




- في لمح البصر.. شاهد شاحنة صهريج وقود تصطدم بسيارة إسعاف بحاد ...
- محادثات نووية في مصر بين وزير خارجية إيران ومدير وكالة الطاق ...
- خطة ديرمر: هل تُجبر حماس على الرضوخ وتمنح إسرائيل مكاسب سياس ...
- مقتل 4 جنود إسرائيليين في غزة.. ونتنياهو يُحذر السكان: غادرو ...
- 12 وفاة و30 حالة مشتبه بها.. محاكمة طبيب فرنسي بتهمة تسميم م ...
- فرنسا: الجمعية الوطنية تطيح بفرانسوا بايرو وأزمة سياسية جديد ...
- الرئيس البرازيلي يندد بالانتشار العسكري الأميركي بالبحر الكا ...
- صحفية أميركية تكسب قضية تشهير ضد ترامب وتحصل على 83.3 مليون ...
- أعادت الأمل للطلبة.. مساحات تعليمية في غزة رغم الحرب
- مع العودة للمدارس.. كيف نتجنب أخطاء المذاكرة ونضمن التفوق ال ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أيمن زهري - متى ينقرض البشر؟