مروان صباح
الحوار المتمدن-العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 20:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
/ في الوقت الذي يواصل فيه العالم ادعاء التقدم الأخلاقي والإنساني ، تنفجر من حين لآخر حقائق صادمة تعيد ترتيب الأسئلة الأساسية حول طبيعة الإنسان وحدود انحداره ، إحدى هذه الحقائق برزت بقوة في إيطاليا 🇮🇹 ، حين كُشف النقاب عن ما يُعرف بـ«سياحة القنص»؛ وهي ممارسة ارتبطت بأثرياء دفعوا مبالغ مالية لارتكاب فعل لا إنساني خلال حرب البوسنة ، لم يعد الأمر مجرد تحقيق جنائي ، بل تحوّل إلى جدل أخلاقي وسياسي عميق يطال الهوية الأوروبية نفسها ، ويعيد فتح ملفات الذاكرة الدامية التىّ ظنّت الشعوب أنها طُويت إلى الأبد ، ولا يحتاج الإنسان في حالته الطبيعية إلى تحليلٍ مطوّل كي يدرك حدود الخير والشر؛ إذ تقوم الأخلاق الإنسانية على منظومة فطرية تعزّز الشعور بالمسؤولية والعدالة ، لكن هذا الإدراك الأخلاقي يصطدم اليوم بواقع اقتصادي–سياسي معقّد ، تتحوّل فيه صناعة السلاح إلى نشاط تجاري ضخم تتحكم به مجموعات محدودة من أصحاب الثروة والنفوذ، وبذلك يصبح استمرار الصراعات شرطاً لدوام الأرباح ، فيتحوّل الإنسان البريء إلى وقود لدورة إنتاجية لا تعبأ إلا بالمكاسب ، " معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، تقرير صناعة الأسلحة العالمية لعام 2024 " ، 👈، وفي تطور صادم للرأي العام الأوروبي ، كشفت النيابة العامة في مدينة ميلانو عن فتح تحقيقات واسعة حول ما بات يُعرف إعلامياً بـ«سياحة القنص»، وهي ظاهرة تُشير إلى قيام أثرياء بدفع مبالغ مالية لجنود سابقين خلال حرب البوسنة مقابل السماح لهم بقنص المدنيين من مسافات بعيدة ، هزّ هذا الكشف صورة إيطاليا كدولة تتفاخر بإرثها العمالي واليساري، وطرح أسئلة حول عمق التحولات الأخلاقية في المجتمعات التىّ لطالما اعتُبرت نموذجاً للمدنية والإنسانية ، "دويتشه فيله (DW)، النيابة الإيطالية تحقق في مزاعم “سياحة القنص”، 2025"، 👈 وقد جاء فتح الملف إثر بلاغ رسمي تقدم به الكاتب الإيطالي إيتسيو غافازيني ، مدعماً بشهادات ووثائق وصور تشير إلى تورط ما يزيد على 400 شخص ، معظمهم من إيطاليا ودول غربية أخرى ، في رحلات قنص استهدفت المدنيين خلال حصار سراييفو ، كما دعمت رئيسة بلدية سراييفو السابقة ، بنيامينا كاريتش، بعض هذه الادعاءات من خلال شهادات ومواد أرشيفية ، وتشير التحقيقات إلى أن غالبية المشاركين لم يغذّهم دافع سياسي أو عسكري ، بل رغبة في «التجربة» و«الإثارة»، في سلوك يُعدّ من أشد أشكال الانحطاط الأخلاقي ،" إندبندنت عربية، تحقيقات في إيطاليا حول “سياحة القنص” في سراييفو، 2025 " .
تفتح هذه القضية باباً واسعاً للتساؤل حول آليات المحاسبة في الجرائم العابرة للحدود ، حيث تتداخل المسؤولية الفردية مع السياق الدولي للحرب ، وتواجه الجهات القضائية تحدياً في تكييف الجريمة قانونياً: هل تُعد «سياحة القنص» جريمة حرب؟ أم قتلاً عمدًا بدوافع حقيرة؟ وقد أشارت نيابة ميلانو إلى احتمال توجيه تهمة «القتل العمد مع ظروف مشددة»، نظراً لكون الضحايا مدنيين عزلاً ، ما يعيد إلى الواجهة ضرورة تطوير القوانين الأوروبية والدولية للتعامل مع هذه الممارسات غير المسبوقة ، "صحيفة كوهـــا (KOHA)، الادعاء الإيطالي يباشر التحقيق في “السياحة القتالية” خلال حرب البوسنة، 2025 …
لم يكن من المستغرب أن يتساءل الباحثون والمراقبون في العقود الماضية عن الدوافع التىّ جعلت سكان سراييفو في البوسنة يلجأون باستمرار إلى الانحناء أثناء تنقّلهم في الشوارع ، ومع تطوّر المعرفة حول أحداث الحرب البوسنية ، تبيّن أن هذا السلوك لم يكن سوى ممارسة يومية اضطرارية تهدف إلى تفادي رصاص القنّاصة الذين حوّلوا المجال الحضري للمدينة إلى مساحة مفتوحة للموت ، لقد تحوّلت الحركة في الشوارع إبان الحصار إلى ما يشبه «الروليت الروسية»، حيث بات اجتياز شارع واحد مغامرة تتأرجح بين الحياة والموت ، في ظل قصف عشوائي وقنص منظّم استهدف المدنيين من مختلف الفئات العمرية ،" محمد السعيد عبد المؤمن، يوغسلافيا من التفكك إلى الحروب الأهلية ، دار الفكر العربي، 1997"، - برنارد هنري ليفي، قصة سراييفو، ترجمة محمد السعيد إدريس، مركز الدراسات السياسية، 1994"، 👈 وتُظهر التحليلات التاريخية أن التهديد لم يكن نابعًا من العمليات العسكرية التقليدية فحسب ، بل اتخذ أشكالًا أكثر وحشية ، تمثّلت في تحويل القنص إلى نشاط أشبه بـ«السياحة الحربية». فقد أشارت شهادات وتحقيقات لاحقة إلى أن بعض الأفراد من دول أوروبية ، ومن بينهم إيطاليون ، كانوا يسافرون إلى مناطق النزاع لممارسة القنص ضد المدنيين باعتباره نوعًا من “التجربة المثيرة” ومن خلال التعاون مع مجموعات صربية مسلّحة خلال فترات اشتداد الحصار—والذي يُعد الأطول في تاريخ الحروب الحديثة—أُتيح لهؤلاء الغرباء استغلال الوضع المأساوي كوسيلة للترفيه الدموي ، تماماً كما حصل ويحصل في قطاع غزة وفلسطين 🇵🇸 عموماً -، "عز الدين المناصرة ، المذابح في البوسنة والهرسك، المؤسسة العربية للدراسات، 1996 - سمير عبد الهادي ، جرائم الصرب في البوسنة والهرسك، دار السلام، 1998 " ، ✍ وقد ترتّب على هذا الواقع سقوط ما يقارب 10 آلاف مدني من النساء والأطفال وكبار السن ضحايا لعمليات القنص الجماعي، التىّ اتخذت شكل «الصيد البشري» المنظم ، ولقد أضحى الفضاء المدني البوسني في تلك المرحلة مشهدًا مرعبًا يكشف عن مستوى غير مسبوق من العنف المُمنهج ، وعن استخدام المدنيين كأهداف في لعبة يحرّكها الاستعلاء القومي والرغبة في ممارسة العنف لذاته ، إن هذه الوقائع الموثّقة تبرز حجم المعاناة التىّ اختبرها المجتمع البوسني خلال الحصار ، وتكشف أن المدينة لم تكن ساحة حرب تقليدية بقدر ما كانت مسرحًا لجرائم ضد الإنسانية نفّذها مرتزقة وزوار جاءوا من خارج البلاد ،" محسن محمد، البوسنة والهرسك: الجرح المفتوح، دار الشروق، 1995 - تقارير منظمة العفو الدولية حول البوسنة (النُسخ العربية، 1993–1995) "…
ما يلفت الانتباه هو حجم وعمق المشكلة المرضية لدى هؤلاء القنّاصة؛ إذ تشير مصادر التحقيقات إلى المبالغ التىّ دُفعت للجنود من أجل تأمينهم ومنحهم مواقع مطلّة ، كتلال عالية أو أماكن قريبة من شوارع المدينة ، لتسهيل عملية صيد الناس (Košuta, 2023 ResearchGate, 2023) ، ✍ تماماً كما يحدث عندما يعود هؤلاء إلى بلدانهم في أوروبا ، ويلتحقون بمجالسهم الخاصة ، فتبدأ المقارنات والمنافسات بينهم وبين العائدين من أفريقيا حول من كانت رحلته أكثر “استمتاعاً” (ICTJ, 2023) ، 👈 وبطبيعة الحال ، تبقى المفاجأة أنّ جميع من شارك في هذه “اللعبة” ينتمون إلى طبقة الأثرياء في أوروبا ، المولعين بالصيد البري والبحري ، واليوم بالصيد “الشارعي”. فكما يستمتعون بصيد الأسماك والطيور والحيوانات المفترسة وغيرها ، فإن استمتاعهم بمشاهدة دماء الأبرياء من البشر يبدو أكبر ، إذ إن المبالغ الكبيرة التىّ دُفعت في سراييفو تُعَدّ دلالة واضحة على أنّ الدم البشري ، في نظرهم ، يفوق قيمة أي دم آخر (ICTJ, 2023 Law & Society Review, 2022).
في المقابل ، لم يدرك هؤلاء أنّ في إيطاليا أيضاً صيّادين من نوع آخر ؛ إذ إن القانونيين هناك تعقّبوا ، على مدار السنوات الماضية ، كل من ذهب لصيد الناس ، وقرروا إحالتهم إلى القضاء وفضحهم في الصحافة المحلية والدولية " ICTY, 2003 P-CRC, 2025 "، 👈 وببساطة ، إذا كان هؤلاء الأثرياء المجرمون يظنون –خطأً– أن دماء 🩸 الأبرياء من البشر تسقط بالتقادم كما تسقط دماء الحيوانات في الغابات ، فهم واهمون تماماً (Institute for Genocide, 2012 University of Victoria, 2023) …
يستعرض هذا المقال مسألة سياحة صيد البشر من منظور نفسي وقانوني واجتماعي ، ويبحث في العوامل التكوينية التىّ تدفع بعض الأفراد إلى تبني سلوكيات متطرفة ومجرمة التى دعمت المجرمين من الصربيين واليوم شركائهم في إسرائيل ، كما يناقش الفجوة بين القيم المعلنة للغرب والممارسات الواقعية ، وتطرح توصيات لتعزيز التربية الأخلاقية والقوانين الدولية لمنع هذه الجرائم ، وتُعتبر ظاهرة سياحة صيد البشر إحدى أكثر الانحرافات الأخلاقية المثيرة للجدل في العصر الحديث ، فهي ليست مجرد جريمة فردية ، بل تعكس خللاً أخلاقيًا واجتماعيًا واسع النطاق يمكن أن يكون له تأثير نفسي واجتماعي مدمر على الضحايا والمجتمع على حد سواء ، " Ahmed، 2020 "، ✍ وتظهر الحاجة الملحة لإعادة دراسة هذه القضية من منظور قانوني ونفسي ، مع النظر في دور التربية والمنهج الدراسي في تشكيل القيم الأخلاقية للفرد "European Commission، 2021 " ، 👈 تشير الدراسات النفسية إلى أن الأفراد الذين يمارسون أو يروّجون لسياحة صيد البشر غالبًا ما يعانون من خلل في إدراك القيم الإنسانية ، نتيجة تأثير بيئة اجتماعية أو ثقافية تبرر العنف أو تقلل من قيمة حياة الآخرين ، "Ahmad 2020 " ، ✍ كما أن التعرض المستمر لأحداث عنف جماعي أو مشاهدة مشاهد مأساوية دون وسائل للتفريغ النفسي قد يؤدي إلى تبلد المشاعر وفقدان التعاطف ، ما يسهل تبني سلوكيات متطرفة ، لكن ايضاً خلال الإبادة الجماعية في البوسنة ، أظهرت المجتمعات المحلية ، مثل مسلمون هناك ، مستوى عالٍ من التضامن الإنساني ، حيث كانوا يتقاسمون قلة قليلة من الخبز في أصعب الظروف ، في المقابل ، كان بعض أثرياء أوروبا ينفقون أموالًا طائلة للمشاركة في دماء الأبرياء عبر ألعاب صيد البشر ، مما يعكس فجوة أخلاقية واضحة بين ما يُعلن عنه من قيم وما يُمارس عمليًا " UNODC، 2019 "، 👈 فسياحة صيد البشر تُصنف ضمن الجرائم ضد الإنسانية وفقًا للمعايير الدولية ، إذ تنتهك حق الحياة وكرامة الإنسان بشكل صارخ (عفيفي، 2018) ، ✍ وتشمل مسؤولية الأفراد والجماعات ، وقد تمتد لتشمل المسؤولية المجتمعية والسياسية إذا توافر صمت أو دعم ضمني من الحكومات أو المؤسسات ، فإشكالية القانون تكمن في كيفية تنفيذ العقوبات الدولية بشكل فعال وضمان منع تكرار هذه الجرائم ، خصوصًا في الدول التىّ تدعي تبني قيم حضارية وأخلاقية دون توفير آليات رقابية حقيقية ، وتؤكد الدراسات الحديثة أن مراجعة المناهج الدراسية وأساليب التربية المنزلية أمر حاسم في معالجة جذور هذه الظاهرة ، كما إن تعزيز القيم الإنسانية ، مثل التضامن ، التعاطف ، واحترام حياة الآخرين ، يمكن أن يقلل من احتمالية تبني الأفراد سلوكيات عنف متطرف (European Commission، 2021 " ، من خلال تعزيز المناهج التعليمية لتشمل قيم العدالة الإنسانية وحقوق الإنسان - وتفعيل برامج توعية اجتماعية حول مخاطر التطرف العنيف - وتطبيق رقابة قانونية دولية صارمة على الأنشطة السياحية التىّ تنطوي على مخاطر انتهاك حقوق الإنسان .
ختاماً ، تُظهر التحقيقات بأن سياحة صيد البشر ليست مجرد قضية قانونية ، بل مشكلة أخلاقية ونفسية واجتماعية متشابكة تتفوق عملياً على سياحة الدعارة ، ومن هنا 👈 ، فإن التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب نهجًا متعدد الأبعاد يجمع بين القانون ، التربية ، والإصلاح النفسي والاجتماعي ، لضمان حماية الأفراد والمجتمعات من الانحرافات الأخلاقية وتعزيز قيم الإنسانية والتضامن … والسلام 🙋♂ ✍
#مروان_صباح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟