مروان صباح
الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 23:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
/ تجربة إجتماعية غريبة هزّت شوارع ألمانيا 🇩🇪 مؤخراً : رجل يتقمّص شخصية أدولف هتلر في مظهره ولباسه وحتى في سيارته المكشوفة القديمة ، ليصدم المارّة الذين تفاعلوا معه بإلقاء التحية النازية الشهيرة والتقاط الصور التذكارية ، ما بدا في ظاهره تجربة طريفة يكشف في عمقه عن أزمة هوية ألمانية لم تُحلّ منذ الحرب العالمية الثانية ، فذلك التفاعل الشعبي لم يكن محض فضولٍ أو رغبة في السخرية ، بل تعبير ضمني عن فراغٍ رمزيٍّ تركه غياب شخصية قيادية كاريزمية تجمع حولها الأمة الألمانية ، بعد أن جرى شيطنة كل ما يمت بصلةٍ إلى النزعة القومية ، " Kershaw, 2008 Fest, 1974"، فمنذ عام 1945، لم يُتح للألمان أن يراجعوا تجربتهم التاريخية بموضوعية علمية ، بعيداً عن وصاية المنتصرين وسردياتهم ، فقد فُرضت على ألمانيا حالة من الرقابة الفكرية والسياسية المستمرة ، بحيث صار مجرد البحث في الجوانب التنظيمية أو الاجتماعية في عهد هتلر تهمة جاهزة بالنازية أو إنكار الهولوكوست ، وهكذا ، لم يعد التاريخ مجالاً للفهم والتحليل ، بل أداة للعقاب المعنوي والسياسي ، تُستخدم لإبقاء الأمة الألمانية في موقع “الآثم الأبدي”، Arendt, 1973 Finkelstein, 2000 "، هذا الوضع لم يقتصر على الذاكرة ، بل امتدّ إلى السياسة الخارجية والثقافة العامة ، فكل ما يتعلق بالعلاقات الألمانية – الإسرائيلية محكوم بمنطق التكفير الدائم ، حتى بعد مرور 8 عقود على الحرب ، وما زالت برلين تتصرّف وكأنها بحاجة إلى شهادة غفران من تل أبيب في كل موقفٍ دولي ، في المقابل ، تمارس إسرائيل سياسة عدوانية ضد الفلسطينيين في غزة 🇵🇸 ، وصفت أممياً بالإبادة ، بينما تصمت ألمانيا الرسمية باسم “واجب الندم” ، مشهدٌ صارخٌ في التناقض : ضحايا الأمس يبررون جرائم اليوم ، والمذنب المفترض يدفع ثمناً لا ينتهي في معادلة فقدت كل معنى أخلاقي " Finkelstein, 2000 " .
إن إخفاق المجتمع الألماني في تجاوز الهزيمة المعنوية لا يعود إلى الخوف من الماضي فحسب ، بل إلى خضوعه المستمر للهيمنة الصهيونية على مؤسساته الفكرية والإعلامية ، لقد تحوّل النقد الذاتي المشروع إلى جلدٍ دائمٍ للذات ، بينما جرى تحييد أي تفكيرٍ وطني أو قومي بحجة خطر النازية الجديدة ، وهكذا ، استُبدلت الديكتاتورية القديمة بنسخة أكثر نعومة ، لكنها أكثر عمقاً في السيطرة : ديكتاتورية الندم ، التىّ تُنتج مواطناً خاضعاً ثقافياً وسياسياً واقتصادياً ،" Arendt, 1973 " ، أي مذنباً قبل الولادة ، في عمق المشهد ، يبرز سؤالٌ فلسفيٌّ لا مفرّ منه : كيف لأمةٍ أن تنهض إذا مُنعت من فهم نفسها؟ ، إن ألمانيا الحديثة تعيش في انفصامٍ بين تفوقها الصناعي والتقني من جهة ، وشللها المعنوي والسياسي من جهة أخرى ، وبينما تصدّر للعالم سياسات أخلاقية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ، تمارس نوعاً من العبودية التاريخية لإسرائيل وللمنظومة الغربية التىّ تراقب كل حركةٍ ألمانية خشية أي ميلٍ نحو الاستقلالية السياسية ، هذه الحالة ليست سوى امتدادٍ لعقدة الذنب ، التىّ تحولت من حالة وجدانية إلى منظومة حكم كاملة ، "Finkelstein, 2000 Arendt, 1973" ، ولعلّ من المفارقات أن الفلسفة التىّ ألهمت هتلر — فلسفة نيتشه وشوبنهاور وفاغنر — كانت في جوهرها تمرّداً على العبودية الروحية ، ودعوةً إلى إرادة القوة والتحرر من القيود الأخلاقية الزائفة ، غير أن هذا الإرث الفلسفي أُعيد تفسيره بطريقة سطحية جعلته مرادفاً للفاشية والعنف ، بينما في عمقه كان تمرّداً على “القطيع الأخلاقي” الذي يفرضه المجتمع الحديث ، ومن المفارقة أن ألمانيا التىّ أنجبت هؤلاء الفلاسفة أصبحت اليوم من أكثر الأمم خضوعاً للرقابة الأخلاقية والسياسية المفروضة من الخارج ، "Nietzsche, 1885 Schopenhauer, 1818 Wagner, 1849".
قد لا يكون الحل في تمجيد الماضي ولا في محوه ، بل في التعامل معه بصفته تجربة بشرية معقّدة ، لا تختزلها الأحكام الأخلاقية المطلقة ، إن تحرّر ألمانيا من وصاية التاريخ لن يتحقق بالإنكار أو الخضوع ، بل بإعادة امتلاك الوعي النقدي الحر الذي سمح لها يوماً بأن تكون رائدة في الفكر والعلم والفلسفة ، فالتاريخ ليس لعنة ، إلا حين يُسلَّم مفاتيحه للآخرين ، "Kershaw, 2008 Arendt, 1973 "…
لقد رفض نيتشه الأنظمة السياسية الحديثة التىّ رآها امتداداً لروح الضعف الجماعي ، مثل الرأسمالية الليبرالية والاشتراكية والديمقراطية، فقد اعتبرها تجليات لمبدأ المساواة الذي يعارض – في نظره – التدرج الطبيعي في القوة والإرادة ، ووفقاً لرؤيته ، أنتجت هذه الأنظمة مجتمعات يسودها الفوضويون والفاشيون والفرويديون والوجوديون ، أي من يرفضون الثبات القيمي والسلطة الأخلاقية ، كما ربط نيتشه هذه الظواهر بما بعد الحداثة ، بوصفها مرحلة انحلال القيم الكبرى وانتصار الفردية المفرطة " : نيتشه، ف 2015 ، أصل الأخلاق وفصلها - ترجمة علي مصباح - دار التنوير "، طرح نيتشه مفهوم الإنسان الأعلى (Übermensch) ، باعتباره النموذج المثالي الذي يتجاوز القيم التقليدية ويخلق قيماً جديدة قائمة على القوة والإرادة ، وقد أساءت الأيديولوجيات الشمولية ، خصوصاً النازية ، تفسير هذا المفهوم واستخدامه لتبرير السياسات العنصرية والتوسعية في عهد هتلر ، ومن ناحية أخرى ، يمكن النظر إلى فكرة نيتشه حول القوة والمفاجأة بوصفها آلية لتحقيق التوازن في مواجهة قوى أكبر ، كما هو الحال في فكر المقاومة الفلسطينية الذي يوظّف عنصر المفاجأة والحيلة في مواجهة التفوق العسكري ، " نيتشه، ف " 2015) "-أصل الأخلاق وفصلها - ترجمة علي مصباح - دار التنوير - أرندت، هـ. (2012)-أصول التوتاليتارية- ترجمة عبد الرحمن بشناق - المنظمة العربية للترجمة" .
تكشف قراءة فكر نيتشه عن تناقض جوهري بين دعوته إلى تحطيم الأصنام الفكرية وبين الاستخدام السياسي المتطرف لأفكاره لاحقاً ، ومع أن بعض القراءات ترى في نقده للصهيونية والرأسمالية والاشتراكية مواقف فلسفية متجردة ، فإن إسقاطها على الواقع السياسي يحتاج إلى حذر ، نظراً لكون نيتشه لم يقدّم مشروعاً سياسياً بقدر ما سعى إلى تحليلٍ نقدي للأخلاق والقيم …
يُلاحظ أن النظام الإسرائيلي يُظهر تشابهاً ملحوظاً مع النظام النازي ، خاصة في ما يتعلق باستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين ، هذا التشابه لا يُعزى فقط إلى الأساليب العسكرية ، بل يمتد إلى البنية الفكرية والسياسية التىّ تبرر هذه الممارسات ، فقد أظهرت تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية أن السلطات الإسرائيلية تمارس التعذيب الممنهج ضد المعتقلين الفلسطينيين ، مما يُعد انتهاكًاً صارخاً لحقوق الإنسان والقانون الدولي ، على سبيل المثال ، وثق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة في سبتمبر 2025 ممارسات التعذيب والإساءة بحق المعتقلين الفلسطينيين ، مما يُعد جريمة ضد الإنسانية ، علاوة على ذلك ، يُظهر إصرار بعض المسؤولين الإسرائيليين على تنفيذ سياسات قمعية تجاه الفلسطينيين ، بما في ذلك التهديد بالإعدام والتعذيب ، ترسخاً لثقافة العنف الممنهج داخل المؤسسات الأمنية والسياسية، هذا السلوك يُظهر تجاهلًا تاماً للمعايير الأخلاقية والإنسانية، ويُعد امتدادًا لسياسات سابقة مشابهة لتلك التىّ أتبعها النظام النازي ، تُشير تقارير حقوقية إلى أن التعذيب في المعتقلات الإسرائيلية ليس مجرد حادثات فردية ، بل هو سياسة ممنهجة تهدف إلى تدمير الإرادة الإنسانية للمعتقلين الفلسطينيين ، ومن الجدير بالذكر أن المقارنات بين إسرائيل والنظام النازي ليست جديدة ، فقد أُجريت منذ ال40 من القرن الـ20 في سياق تداعيات ما بعد الحرب العالمية الثانية ، هذه المقارنات تركز على أوجه التشابه في السياسات والممارسات ، مثل استخدام القوة المفرطة والتمييز العنصري ، ومع ذلك ، يُلاحظ أن البلاغيات الصهيونية تتسم بالتمويه ، على عكس البلاغيات النازية الصريحة ، مما يجعل المقارنة أكثر تعقيداً .
في النهاية ، يُظهر التحليل النقدي أن النظام الإسرائيلي يتبع سياسات وممارسات تُشبه إلى حد بعيد تلك التىّ أتبعها النظام النازي ، خاصة في ما يتعلق باستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين والتعذيب الممنهج ، هذه السياسات تُعد انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان ، ويجب على المجتمع الدولي اتخاذ خطوات جدية لمحاسبة المسؤولين عنها …
تكشف الأيام أن الجنون الذي أجتاح فريدريك نيتشه لم يكن بسبب الحصان ذاته ، بل بسبب ما شهد عينيه في شوارع تورين غرب إيطاليا 🇮🇹 : سائق عربة يضرب حصاناً بعنف ، اقترب نيتشه ، وذراعا الفيلسوف المفتوحة كانت أشبه بمحاولة للحياة نفسها ، احتضن الحصان ، وامتلأت عيناه بالدموع ، ثم قبّله ، وبعد لحظات ، انهار ، وغاص في تدهور عقلي لم يفق منه أبداً ، هذه اللحظة المأساوية لم تكن مجرد حادثة ، بل رمزٌ لتراجيديا الإنسان : رجل مجد قوة الإرادة ، لكنه لم يستطع مواجهة ألم كائن حي أمامه بسبب الإنسان .
ومن هذا المشهد ، ينبثق سؤال يطرق ضمير الإنسان: كيف يمكن لمجتمع كامل ، مثل المجتمع الإسرائيلي وبعض سياسيي ألمانيا ، أن يشهدوا إبادة الأطفال في فلسطين 🇵🇸 بلا أن ينكسروا أو يجنوا؟ ، وكيف يُعاقب إنسان على رشق حجرٍ في مواجهة جندي ، بينما تُنفَّذ إبادة جماعية مكتملة الأركان ويُبررها البعض بداعي الدفاع عن النفس؟ ، بالفعل ، إنها مأساة الإنسان المعاصر : قلوب قوية وعقول صلبة تنهار أمام معاناة كائن حي ، فيما الجماعات والأمم تبدو عاجزة عن الإنفعال أمام وحشية منظمة ومنهجية ، فصورة نيتشه وهو يحتضن الحصان تظل شاهدة على أن الرحمة قوة ، واللطف مع الضعفاء أسمى من كل فلسفة أو قانون ، لكنها أحياناً تجعل من يقف أمام الظلم عاجزاً عن مواجهة جبروت التاريخ ...
والسلم 🙋♂✍
#مروان_صباح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟