أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - بوتان زيباري - قرنٌ من رماد: تأملات في جرح الإمبراطورية ووميض الروح الحرة














المزيد.....

قرنٌ من رماد: تأملات في جرح الإمبراطورية ووميض الروح الحرة


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 01:12
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


إنّ مقياس الثمانين عامًا أو المئة، ليس سوى نَفَسٍ عابر في سجلات الشعوب ذات التاريخ الموغل في القِدم، ولكنه قد يكون عمرًا كاملاً لحُلم أو مشروع. وفي غمرة هذا المدى، يبرزُ جرحُ الروح، ذاك الألمُ الذي نخشى أن يُصيّـرنا إلى العدم أو اليأس؛ فلتكن لنا وقفة تأمل. إنّ اليأسَ خيانةٌ للقدر وللإرادة، ففي كل محنةٍ أملٌ لا يغيب، وفي كل ظلمةٍ نورٌ يبزغ، ليس بالضرورة أن يكون ضياءً آتياً من وعدٍ، بل هو يقظةُ الوعي فينا، ودليلُ الحِكمة في تصريف الأمور. فالأمرُ يتطلبُ تدبيراً حكيماً لا مجردَ انتظارٍ لِمنقِذ، وعليه لا ينبغي أن نكون متشائمين ما دام في وجودنا حقيقةُ الدفء الكامنة في أبسط صور العيش، كحساءِ الشاي الـمُعطِّر، فـ نِعمَ الخالقُ الذي خلقَ لي الشايَ، ونِعمَ الأملُ الذي يُبعثُ مع كل رشفة.

لقد جئنا لنستعرضَ بانوراما عقدَين من الزمان، من التسعينيات حتى مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة، محطّمين جليدَ الصراع البارد الذي كان شذوذاً في العلاقات الدولية؛ إذ تحوّلت فيه الصداماتُ الساخنةُ إلى تجمدٍ على مستوى الفكرة والاحتواء. وبعد أن سقطَ سورُ برلينَ مُعلِناً انتهاءَ حقبة، لم يعد خفياً أن الكتلةَ الشرقيةَ تتداعى نحو الانهيار والتشرذم. هذا الانهيار لم يكن وليدَ لحظة، بل تراكمت عواملهُ، بدءاً من نظرةٍ ماكرو تُعنى بمحور التنافس العالمي بين القطبين العظيمَين، وانتهاءً بنظرة مايكرو تبحثُ في التحديات الداخلية التي قادت المنطقة إلى صحوة الربيع العربي.

كان الاتحادُ السوفيتيُّ مشروعاً هائلاً للهندسة الاجتماعية (Social Engineering)، فكرةً أرادت أن تُغيّرَ جغرافيا الوجود والوعي، وكان ناجحاً في جوانب عديدة. إلا أن التناقضَ بين النظريةِ الماركسيةِ وواقعِ الممارسة، والمشكلاتِ التي واجهتها آلياتُ التوزيع وإعادةِ الإنتاج الاقتصادي، قد استنزفت قُواه، فلم يعد النظامُ قادراً على تحمل عبء القوة العظمى، أو ارتداء قَميصِ الهيمنة على مسرح التمويل والتسليح الدولي. كانت الحاجةُ إلى مواردَ ماليةٍ هائلةٍ لدعمِ المجالاتِ الحيويةِ في الخارج، كالحربِ النجميةِ والتواجدِ العسكري، أكبرَ من قدرةِ هذا الكيانِ على الاستمرار، فـ الضعفُ الماليُّ يهوي بالحصونِ مهما علت أسوارُها.

في ذات الوقت، تداعت الأسسُ الداخليةُ تحت وطأةِ صعودِ القومياتِ والهوياتِ الدينيةِ والاجتماعية، فلم يستطعْ كيانُ الخمسةِ وعشرين كياناً - التي لا تتشابهُ في شيء - أن يبقى متماسكاً في ظل هيمنةِ المركزِ الروسي على مقاليدِ توزيعِ الثروة والسلطة. لقد كانت تلك صحوةُ الشعوبِ المقموعة التي لم يعد بالإمكان قمعُها إلى الأبد. وحين حاولَ الرئيسُ غورباتشوف تقديمَ إجابةٍ من خلال سياساتِ "الغلاسنوست" و "البيريسترويكا" أي "الشفافيةِ وإعادةِ البناء"، كانت محاولته لترميمِ الآلةِ وإطالةِ عمرها هي بالذات نقطةَ الانزلاقِ النهائية، فـ إرخاءُ القيودِ بعدَ طولِ قهرٍ يُحرّرُ الروحَ ولا يُبقي على الحصار. هذهِ الصراعاتُ بين صقورِ الحزبِ وعُقلاءِ الإصلاح أدّت في النهاية إلى تفككِ الإجماعِ المُؤسسي، مما عجلَ بانهيارِ الكيانِ برمّته، فـ الحكمةُ في التغييرِ ضرورة، والتحجرُ في العقيدةِ إفناء.

لقد كان الشرقُ الأوسطُ هو مسرحَ صعودِ القوى العظمى وهبوطها؛ فكما أشار المفكرُ ديمتري ترينين، فإنَّ نجمَ الاتحادِ السوفيتيِّ قد سطعَ في سماءِ المنطقةِ بعد أزمةِ السويس (1956)، وبدأ أفولُهُ مع تضاؤلِ نفوذِهِ بعد حربِ تشرين (1973) وغزوِ أفغانستان (1979). فانسحابُ مصرَ بقيادةِ السادات، ثم انسحابُ سوريّةَ من دائرةِ الولاءِ الكاملِ بعد اتفاقيةِ فصلِ القوات، كلُّ ذلكَ أظهرَ عجزَ موسكو عن حمايةِ حلفائِها أو استمرارِ دعمِهم في مواجهةِ الزحفِ الدبلوماسيِّ الأمريكيِّ بقيادةِ كيسنجر. كان الدرسُ البليغُ هو أنَّ دولَ المنطقةِ كانت تبحثُ عن التحررِ من الإمبرياليةِ لا عن استبدالِ عباءةِ قُطبٍ بأخرى، فـ السيادةُ هدفٌ أسمى من الولاء، وهذا ما فهمتهُ روسيا الحاليةُ جيداً عندما حاولت استعادةَ دورِها من نفسِ البوابةِ الاستراتيجية.

أما في الجانبِ الأيديولوجي، فقد أدركتْ موسكو أنّ زرعَ حركةٍ شيوعيةٍ أصيلةٍ في التربةِ العربيةِ أمرٌ بعيدُ المنال، فـ البروليتاريا كما عرفها ماركس لم تكن موجودة. لذا لجأ السوفييتُ إلى حلٍّ براغماتيٍّ عبرَ دعمِ حركاتِ التحررِ الوطنية على قاعدةِ مُعاداةِ الإمبريالية المشتركة، متبنيةً فكرةَ "الاشتراكيةِ العربية" الهجينةِ، كما تبلورت في حزبِ البعثِ وغيره. كان هذا الحلُّ محاولةً للحفاظِ على موطئِ قدمٍ عبرَ التخطيطِ المركزيِّ والاقتصادِ المُوجّه، لكن هذا الزواجُ القسريُّ بين القوميةِ والاشتراكية انهارَ سريعاً تحتَ ضغطِ تناقضاتهِ الداخلية، ورفضِ المنطقةِ لـ التبعيةِ الجديدة.

وفي خضمِّ هذا التفككِ العالمي، دخلت روسيا الاتحاديةُ مرحلةَ الاضطرابِ والتشظي في عهدِ يلتسين، حيثُ غَرِقتْ في دوّامةِ الوهنِ الاقتصاديِّ والدمارِ الماليِّ الذي ولّدَ طبقةَ الأوليغارشيا الجديدة، والتي احتكرت ثرواتِ البلادِ وقوّضتْ استقرارَها. ولقد جاءَ التحديُ الأكبرُ من صرخةِ القوميةِ المدويةِ في القوقاز، فـ تمرُّدُ الشيشانِ بقيادةِ الجنرالِ السوفييتيِّ السابقِ جوهر دوداييف كانَ دليلاً على أنَّ جرحَ القومياتِ ما زالَ نازفاً، وأنَّ الاتحادَ الجديدَ كان على شَفا الانهيارِ لولا جهودُ قادةٍ لاحقين. إنَّ هذهِ السنينَ التي امتدت من 1990 إلى 2010 لم تكن سوى مُقدِّمةٍ عاصفةٍ، فصلٌ تالٍ من كتابِ التحولاتِ العظمى، الذي ما زالت فصولُهُ تُكتبُ بـ مِدادِ الدمِ والأملِ في سجلِ الوعيِ الإنسانيِّ والروحِ الحرة.



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نردد نشيد الحرّية في صمت الجبال الكوردية
- في حضرة المرايا المكسورة: رقصة السلاطين على أنغام الصحراء وا ...
- حكمة الصخر ورنين الروح: في مقام الكينونة الكوردية ونداء السل ...
- حجر الواقع ووهم الأمة الديمقراطية: صرخة الوجدان الكوردي في ل ...
- النار لا تُحرر… إن لم تكن في يد واعية!
- سجال القيادة وسيف السجن: أي فجر ينتظر كُردستان؟
- رقصة النار والماء: الأكراد وسوريا، بين الفلسفة الجريحة وبلاغ ...
- صرخة المعرفة في زمن الغياب
- شعلة نوروز: فلسفة الوجود ووجع النكران
- صوت الشلومية الذي لم يهن: مزكين حسكو وسرمدية الروح الكوردستا ...
- أن تكون كوردياً: شهادة لا تُمحى على جبين التاريخ
- أنقرة والخوف من الظل الكوردي
- رقصة الأقنعة على رمال الشرق المتحركة
- رؤية في دهاليز السياسة: حينما يصبح الحل هو الُمشكل
- صدى الروح في ميزان الشرق: جدل السياسة والإنسان
- الصواريخ لا تُنبئ بالسلام.. والدم الكردي ليس وقوداً للهيبة
- نحو وطنٍ لا يُبنى على أنقاض الهوية: بين فيدرالية الحقوق وخيا ...
- صدى الدم في قاعة الانتخابات: عندما تُكتب الديمقراطية بدموع ا ...
- سوريا في مفترق طرق: بين الأيديولوجيا والتقسيم
- الظل والضوء: حين يُستدعى التاريخ ليحاكم الحاضر


المزيد.....




- على الخريطة.. آخر تحركات الجيش الروسي في أوكرانيا وماذا تريد ...
- حماس تعلن أنها ستسلم جثمان أقدم رهينة محتجز لديها
- القطار الأسطوري -أورينت إكسبريس- يعود إلى باريس في معرض يحتف ...
- ندوة عمومية بقرية با محمد، تحت عنوان: واقع وآفاق الحركات الا ...
- الفلبين تجلي نحو 900 ألف شخص بسبب الإعصار فونغ وونغ
- العراق: تحالفات في سادس انتخابات تشريعية منذ الغزو الأمريكي ...
- اكتشف معنا أسوأ مسلسل في التاريخ ..رغم وجود هذه النجمة الكبي ...
- السودان: الجيش يعترض هجوما بمسيّرة لقوات الدعم السريع
- فرنسا تعلّق عمل شركة -شي إن- حتى تمتثل للقوانين
- شبكة -أطباء السودان-: الدعم السريع حرق مئات الجثث في الفاشر ...


المزيد.....

- علاقة السيد - التابع مع الغرب / مازن كم الماز
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - بوتان زيباري - قرنٌ من رماد: تأملات في جرح الإمبراطورية ووميض الروح الحرة