أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبية الريح - الريح وتمائم الاغتراب. قراءة في شعر محيي الدين فارس














المزيد.....

الريح وتمائم الاغتراب. قراءة في شعر محيي الدين فارس


أبية الريح
كاتبة ، صحفية ،قاصة ، ناشطة حقوقية

(Abeia Elrayah)


الحوار المتمدن-العدد: 8517 - 2025 / 11 / 5 - 08:22
المحور: الادب والفن
    


مقدمة: منامات الريح على وسادة الطين

منذ العصور الأولى للوعي الإنساني، شكلت الريح ظاهرة تتجاوز حضورها الفيزيائي لتغدو استعارة وجودية محمّلة بالرموز، الحياة والموت، الرحيل والوصول، الفوضى والنظام. في الشعر العربي، كما في العديد من الآداب العالمية، تحضر الريح كفاعل يخلخل الاستقرار ويكشف عن صراعات الذات. في هذا السياق تصبح الريح عند الشاعر السوداني محيي الدين فارس مفتاحا لقراءة بنية شعريته وممر لفهم عمق اغترابه الوجودي، وحضوره الثقافي والروحي.

أولاً: الريح في مرآة السيرة الذاتية - اغتراب الذات والجغرافيا:

ولد محيي الدين فارس عام 1936 في جزيرة أرقو شمال السودان وارتحل شابًا إلى مصر للدراسة فتكون في فضاء ثقافي مزدوج بين التقاليد السودانية العريقة والحداثة المصرية. هذا التنقّل الجغرافي أصبح سمة من سمات قصيدته. الريح في هذا السياق تمثل حالة الوجود المعلّق، الهوية المتنقّلة، الجسد المُقتلع من جذوره. يقول في إحدى قصائده:

"والريح تمضغ وجه راحلتي.. فيلطمها الكثيب"

في هذا البيت، تمثل الريح عنف ذاكراتي يلتهم الرحلة ويشوّه الطريق. هذه التجربة الشعورية للاغتراب والاقتلاع تذكرنا بما وصفه المفكر إدوارد سعيد في كتابه Reflections on Exile يشير إلى أن:

"المنفى هو الشقّ الذي لا يُشفى، المفروض قسرًا بين الإنسان وموطنه، بين الذات وبيتها الحقيقي؛ حزنه الجوهري لا يمكن تجاوزه."

ثانيًا: قراءة في نصوص مختارة

في قصيدته - "تسابيح عاشق" البيت الذي ذكرته آنفا:

"والريح تمضغ وجه راحلتي.. فيلطمها الكثيب"

تُشخص الريح هنا كائن فاعل مفترس ينهش، ما يُضفي عليها طابعًا دراميًا يُحيل إلى الطبيعة العدوانية للذاكرة والمكان. الكثيب يصفع في تآزر طبيعي - زمني مع الريح، مثل أن الذات تُسحق بين عنف الطبيعة وعنف التاريخ.

قصيدته - "المرسى وإيقاعات المماشي"

"أيها الآتي تغنيه جياد الريح للمرسى البهيج"

تنتقل الريح من رمز للفوضى إلى حامل للإيقاع إلى وسيط موسيقي إلى جواد يحث القادم على المضي قدما. نلاحظ هنا انقلابا في الوظيفة الرمزية للريح من معطِّل إلى دافع. هذه المراوحة تجعل الريح مرآة لحال الذات فهي القيد كما هي الحافز.

قصيدته - "قشر الكلام"

"ونفتح أبوابها للرياح"

تكشف العبارة عن هشاشة الذات أمام الخارج. "فتح الأبواب" هو فعل استقبال و لكن الرياح لا تحمل وعدا بالسلام. الرياح هنا تهديد بالانكشاف انفتاح على التبعثر والتلاشي.

قصيدته - "السلم"

"والريح تجذبني بمشجبها العنيد للقاع"

هنا تُجسّد الريح كقوة قاهرة تشدّ الشاعر إلى الأسفل نحو الغرق أو السقوط. المشجب | الذي يُعلّق عليه عادة الثياب يصبح استعارة للذاكرة التي تُثقل الذات وتمنعها من الارتفاع. إنها لحظة التوتر القصوى بين الإرادة والمصير.

قصيدته - "رحلة القادمين"

"هي الريح تقعى على سورنا وتمط الجبين وتطرق محزونه"

تغدو الريح هنا صوت الحزن الجمعي، ذاكرة الغياب، حدادا متجدّدا. حضورها يقترب من الطقس الجنائزي، كأنها مرسال الفقد، تمارس طقس الندبة باسم الجماعة.

ثالثا: الريح في ضوء الرمزية القرآنية والفلسفة الوجودية

الريح في القرآن تتسم بازدواجية المعنى:

﴿وهو الذي يُرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته﴾ [الأعراف: 57]

﴿وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم﴾ [الذاريات: 41]

في هذين السياقين، تكون الريح إمّا بشارة إما عذاب. هذه الازدواجية تتجلى بقوة في شعر فارس - الريح قد تقود إلى المرفأ أو إلى الغرق، إلى الصفاء أو إلى الفوضى. في هذا السياق، يبدو شعر فارس كأنه يتموضع داخل شبكة قرآنية رمزية، تعكس إحساس مستمر بالخضوع لقوة تتجاوز الإنسان. هذا الانجراف أمام ما لا يُرى، يضع الشاعر في تماسّ مع الفلسفة الوجودية التي ترى في الإنسان كائن متوتر بين الحرية والعبث.

رابعا : مقارنة عالمية – صدى الريح في أدب الآخر

١. فريدريك نيتشه والريح

في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" يُعبّر نيتشه عن نفسه كقوة طبيعية هادرة، قائلاً:

"وأنا كالريح سوف أهبّ بينهم، وأنتزع من أرواحهم أنفاسهم: هكذا يشاء مستقبلي."

هنا يصور نيتشه نفسه كريح عاتية، تعبيرا عن قوته الفكرية وروحه الثائرة التي تسعى لتغيير الواقع من خلال التأثير العميق.

٢. ويليام بليك والريح – من قصيدة "Mock On, Mock On, Voltaire, Rousseau"

قائلا:

"Throw sand against the wind, and the wind blows it back again."

٣. ماتسوا باشو – من الهايكو الياباني الكلاسيكي

قائلا:

"Autumn wind — piping through a swinging gate"

هايكو مشهور لباشو، من تراثه الشعري يربط الريح بالتحول والموسمية واللاستقرار الهادئ.

في فلسفة الزن الريح ترمز للمجهول والتغير والمرور الصامت للزمن.

خامسا: البنية البلاغية للريح – من الصوت إلى الرمز

ما يجعل مفردة الريح مركزية في شعر محيي الدين فارس هو ثراؤها البلاغي:

تشخيص الريح كأنها كائن حي ذو إرادة ومزاج.

الاستعارة المركبة: "جياد الريح" أو "مشجبها العنيد" تفتح أفق التلقي على صور متعددة.

التكرار الإيقاعي: الريح تتحول إلى نغمة إلى موسيقى داخلية للنص.

الثنائية الصوتية: بين العصف والهمس بين الهدوء والانفجار وهو ما يخلق توازناً جمالياً عاليا.

خاتمة:

الريح كذات شعرية متعددة الوجوه

في نصوص محيي الدين فارس تتشظّى - رمز للرحيل والعودة، للغربة والانتماء، للفقد والبعث. كائن شعري حي يتنفس، يصرخ، يهمس، ويشدّ القارئ إلى دوامة الوجود. بهذا تصبح الريح هي اللغة ذاتها - لا تهدأ لا تستقر ودائما تُحدِث أثر في الأشياء. وفي هذا، يكمن جمال شعر فارس وقيمته الفنية والفكرية.



#أبية_الريح (هاشتاغ)       Abeia_Elrayah#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الممر السابع: مع هيلانة الشيخ
- رؤى سياسية: مع رقية هباني (1)
- وشوشة الهواجس
- سفر النفس إلى شوقها الأول (4)
- أقنعة الضوء الغارق
- سفر النفس إلى شوقها الأول (3)
- نزهة القتلى في عيد الحياة
- خارج اتفاقية الطاعة
- طقس انقراض طوعي
- بنتُ وَهمِكِ
- نرجسية المطر
- طيف ينهض من أقبية الرماد
- سفر النفس إلى شوقها الأول (2)
- سفر النفس إلى شوقها الأول (1)
- السودان والمشروع المعاكس


المزيد.....




- لغة الدموع الصامتة
- مصر.. عمر هلال يجمع أحمد حلمي وهند صبري في فيلم -أضعف خَلقه- ...
- فنانة سورية تصبح سيدة نيويورك الأولى...من هي ؟
- صوّر في طنجة المغربية... -الغريب- خلال استعمار الجزائر في قا ...
- يتناول ثورة 1936.. -فلسطين 36- يحصد الجائزة الكبرى في مهرجان ...
- -صهر الشام- والعربية والراب.. ملامح سيرة ثقافية للعمدة ممدان ...
- انطلاق أعمال المؤتمر الوطني الأول للصناعات الثقافية في بيت ل ...
- رأي.. فيلم -السادة الأفاضل-.. حدوتة -الكوميديا الأنيقة-
- -المتلقي المذعن- لزياد الزعبي.. تحرير عقل القارئ من سطوة الن ...
- موفينييه يفوز بجائزة غونكور الأدبية وباتت الفرحة تملأ رواية ...


المزيد.....

- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبية الريح - الريح وتمائم الاغتراب. قراءة في شعر محيي الدين فارس