مضر خليل عمر
الحوار المتمدن-العدد: 8516 - 2025 / 11 / 4 - 14:57
المحور:
قضايا ثقافية
نعاني جميعا من (سرعة مرور الوقت) ، فلم يعد بالامكان تنظم جدول اعمالنا وبرامجنا لتتوافق مع الزمن المتاح ، (فالوقت طيارة كما يقول عامة المجتمع) ، وقد عدت هذه الحالة من علامات نهاية العالم وقيام الساعة ، رغم ان هناك من يقول بان الكرة الارضية تتباطأ حركتها الدورانية . والغريب ان الساعة الزمنية بقيت كما هي (60 دقيقة) و اليوم مازال (24 ساعة) ، و السنة على حالها (12 شهر) ، فاين المشكلة اذن ؟ هل زادت اعباء الحياة التي نعيشها ؟ هل اضحت معيشتنا سباق (ماراثون – البريد) له بدايه ، ونهايته هي بداية مرحلة اخرى مكملة ، وهكذا دواليك ؟ اين ومتى نحس بقيمة الوقت ؟ ونتمتع بالراحة النفسية . هل هذا نتاج التقدم التقني و التنافس على اي شيء ، وعلى كل شيء ؟ هل هذه هي من سمات العصر الذي نعيشه ومن خصائصه المميزة له ؟ تساؤلات تدور في خلد الكثيرين وتبقى بدون اجابة . قد نجد بعض الاجابة عند مقارنة (حضارتنا الراهنة) مع ما كان عليه الحال في الحضارات السابقة ، و سرعة دوران عجلة الزمن (التقدم) فيها .
ورد في الكثير من المصادر و الدراسات ، أن الحضارة الانسانية بدأت ، بعد ان اتسعت المستقرات الريفية مساحة وازدحمت بالسكان و متطلباتهم واحتياجاتهم اليومية ، لتصل الى مستوى يتطلب تنظيما اداريا (المدن) . فبعد ان اخترع الانسان المحراث و استوطن مجاري الانهار حيث امتهن الزراعة ، ونظم المهن المكملة والاعمال الرسمية والشخصية . كان ذلك بداية تقسيم العمل ، وتنظيم شئون المجتمع (دول المدن) ، والتفكير في توسيع رقعة المستوطنة و تحقيق الرفاه الاجتماعي من خلال التوسع المساحي على حساب الاخرين . كانت الدورة الزراعية هي التي تنظم الحياة و تحدد مسارها وطبيعتها ، فتشكلت حضارات زراعية سادت ثم بادت . حضارات نجهل الكثير عن ما توصلت اليه حينها من فكر وتقنيات ونظم حياة اجتماعية . فما بقي منها عبارة عن اطلال تضم كنوزا من الاسرار غير المكتشفة . لقد كان التقدم الحضاري – الانساني يسير حينها بطيئا و الحياة الاجتماعية رتيبة ، كان تقدمها وفق متوالية عددية : 1 ، 2 ، 3 ، الخ ، تقدم بشكل متوازن ، تدرجي متسق زمنيا و اجتماعيا و سياسيا . كانت الحياة رتيبة بشكل عام ، والمفاجئات محدودة جدا ، ومواسم الزراعة واعمالها معروفة مسبقا ، فلا جديد عدا الكوارث الطبيعية و النزاعات المحلية الطارئة .
وبتحول القطب الحضاري من الزراعة الى التجارة على سواحل البحر الابيض المتوسط ، و توسع عملية الاستكشافات الجغرافية ، و ما صاحبها من نشاط استعماري بقصد نهب خيرات الشعوب ، و تعزيز نشاط تجاري متصاعد الوتيره ، انتقلت الشعوب (المتحضرة حينها) الى مستوى رفاه اجتماعي – اقتصادي عالي ، ونظام سياسي جديد . لقد تغيرت انماط الحياة و مقاييس الرفاه كليا . لقد اتسمت الحضارة الانسانية حينها بعمران مميز ومطرز بالصور التماثيل والتحف الفنية و الحدائق الغناء . لقد تركوا ارثا فنيا معماريا يشار له بالبنان ، مازالت شعوبهم تنعم بخيرات تسويقه سياحيا . امتلك التجار ، ليس التجارة فحسب ، بل تبوأوا مراكزا عليا في قيادة المجتمع و توجيه سياسات الدولة . ارتهن التقدم الحضاري بما يورده التجار من اصقاع الارض المختلفة لتتنعم به النخبة اولا ، وبما تجود به على مجتمع مدنها ثانيا . لقد تسارعت حركة تقدم المجتمع ولكن ليس على وتيرة نمطية معينة ، ومع هذا ، فهي اسرع نسبيا مما كان عليه الامر مع المجتمع الزراعي ، المحكوم بالطبيعة و ظروفها غير المستقرة . ولا ننسى ان ما تدره التجارة ماديا (وبزمن قصير نسبيا) يفوق نظيره من النشاط الزراعي ، ومع هذا فقد اثمر المجتمع الزراعي حضارة فكرية – علمية مميزة مقابل نتاج حضارة التجار - العسكر الذين كرسوا جهودهم للشئون العسكرية والحروب واستعباد الشعوب .
كان لاتساع افق المعرفة الجغرافية بشعوب العالم الاخرى ، والثروات الطبيعية التي تتوافر لديهم ، و امكانية استغلالهم و استعبادهم (ارضا وشعبا) ، دور في تسريع عملية التصنيع في غرب اوربا ، وانتقال القطب الحضاري ليكون صناعيا بامتياز . ومع كل نجاح و ابتكار جديد و استحداث تقنية جديدة تتسارع خطى التقدم الحضاري للشعوب التي اعتمدت الصناعة اساسا لاقتصادها . وكانت عملية الانتقال من مستوى حضاري الى اخر طبقا لمتوالية هندسية : 1 ، 3 ، 9 ، 27 ، 729 ، وهكذا دواليك . وبهذا اتسعت الهوة بين الدول الصناعية وغيرها من دول العالم . لقد خططوا لتقسيم العالم اولا ، و وضعوا اسس جيواستراتيجية (نظريات الارض القلب) للهيمنة عليه و تسخيره ليخدم مصالحهم . لقد اعتمدوا اللغات و القومية و الاجناس والدين لرسم الحدود بين الدول (بما فيها اوربا) ، و لتقسيم وتجزئة دول اخرى (الدولة العثمانية ، الهند – باكستان ، مصر – السودان ، الخ) . لقد استبصروا حال العالم لقرن مقدما على الاقل ، كما يريدوه هم ، وما يجب ان يكون عليه للحفاظ على سيطرتهم عليه . كان التطور الحقيقي في البلدان الصناعية ، و التقدم الشكلي ، الخالي من المضامين والاسس الرصينة ، من نصيب الدول الاخرى . بعبارة ادق ، كان تطور الغرب ممتلأ ذاتيا ، اما تطور الدول الاخرى فبالجانب الهيكلي الخاوي من اي سند مادي حقيقي (قشور الحضارة) .
بتطور الصناعة وتحولها من التعدين الى الالكترونيات بدأ قطب الحضارة الانسانية بالتململ و التحرك نحو جنوب شرق اسيا . وما نعيشه الان من صراع سياسي (بين الشرق والغرب) هو ناتج عن اعتقاد بان من يمتلك ناصية التقنيات الالكترونية سيقود العالم اقتصاديا وسياسيا . ومع الثورة التقنية الراهنة فان عجلة التقدم الحضاري تتسارع طبقا لمتوالية اسية : س ، س2 ، س3 ، س4 ، وهكذا دواليك . ولعل احساسنا بضيق الوقت جراء محاولاتنا بالاسراع للالتحاق بالركب الحضاري (شكليا) وذلك باستخدام التجهيزات العصرية التي اضحت سمة تقسم المجتمع الى طبقات اجتماعية جديدة . وهذا اللهاث والسعي للوجاهة الاجتماعية – الحضارية وتقليد الاخرين ليس له اخر طالما الراسمالية العالمية عولمت حياتنا واصبحت تتحكم في ما نلبس وما نحب و ما .... وما ..... .
ولعل مشكلة الكثيرين ، الشباب على وجه الخصوص ، تسارع تحديث التجهيزات الالكترونية (على وجه الخصوص) و تطويرها بشكل يصعب على المعظم اللحاق بالحديث منها و تملكه في وقته . انه استنزاف نفسي له نتائج وخيمة شخصيا واجتماعيا ، واقتصاديا . فلهاث شعوب الدول المتخلفة لا نظير له لا في عالم الحيوان ولا في عالم اللاهوت . انه جري وراء سراب لا يغني من جوع ولا يسمن ، خاصة وان حركته بيد من تحكم بمصير العالم اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا واعلاميا (الراسمالية المعولمة) . يمكن تشبيه الحال بالادمان على المخدرات ، حيث التسكين والارتياح المؤقت بعدها الاستعداد لعمل اي شيء وكل شيء من اجل جرعة اخرى . انه لهاث وراء (سعادة) مؤقتة وراحة نفسية زائلة ، يكمله لهاث من اجل توفير مستلزمات الحياة الاعتيادية ، بمتطلباتها المنوعة و المتزايدة يوما بعد اخر . لهذا السبب لم يبق لنا القدرة لانجاز المطلوب بالوقت المناسب . لقد تضاعفت المتطلبات و تناقصت القدرات (المادية والجسدية) ، وتاهت النفس وحار الفكر امام الخيارات العديدة المتوفرة ، وبقي الحلم امتلاكها جميعا في وقت واحد دون ان يتحقق .
انقل بعض ما قرأته مؤخرا وله علاقة بما نعيشه : اللهاث المعاصر من اجل اللحاق بالاخرين وتقليدهم ، ودور العولمة و قادتها في ما نعاني منه و نعيشة بدون ان ندرك ابعاده الحقيقية .
- "يُعد التواجد في ذلك المتجر في ذلك الحي وشراء تلك العلامة التجارية تحديدًا جزءًا من عملية الشراء ، سواءً كانت آيس كريم فاخر ، أو وجبة من المطبخ الجديد ، أو درس رقص" . إن مجرد التواجد في أماكن البيع بالتجزئة الراقية - "ساحة السلع" - يُعد طقسًا مهمًا في ترسيخ الهوية الفردية والجماعية . ((الربط بين الهوية الاجتماعية و سلوكيات التبضع واماكنه المخططة مسبقا)) .
- تسعى البرجوازية الجديدة والبرجوازية الصغيرة الجديدة إلى ترسيخ بيئتها (هابيتوس) من خلال الاستيلاء على "رأس المال الرمزي" . ويُعرّف هذا الأخير بأنه "سلع فاخرة تشهد على ذوق وتميز مالكها" . (( اضحت البرجوازية مظهرا وليس معتمدة اساسا ماديا حقيقي))
- في القطاع التجاري ، انعكس التخصص وتمايز المنتجات في ظهور ما يُسمى "مراكز القوة" : وهي مراكز تسوق مجتمعية تقع بالقرب من مراكز التسوق الإقليمية ، ويهيمن عليها تجار التجزئة المتخصصون الذين يقدمون منتجات ذات علامات تجارية بأسعار مخفضة . ويتألف خط إنتاج جديد مهم آخر من بيئات متخصصة مثل المراكز الطبية ، المصممة لتزويد المستهلكين المزدحمين والأثرياء بتسوق شامل (أطباء ، مستشارون ، معالجون ، مختبرات طبية ، مرافق مرضى خارجيين ، مراكز لياقة بدنية ، صيدليات ، متاجر أغذية صحية ، ومقاهي) في بيئات راقية مناسبة . ((انتقال المجتمعات من الانتاج الى الاستهلاك ، استهلاك ما تنتجه الراسمالية التي تتفنن في طرائق تسويقه ))
- بعد أن فقدت المدينة جزءًا كبيرًا من سلطتها الأخلاقية نتيجةً لعجزها عن تحقيق المنافع الطوباوية ، أصبحت أكثر تعاونًا وفاعليةً في علاقاتها مع قطاع التطوير... وبالتالي ، أصبحت تُركّز بشكل متزايد على احتياجات ورغبات منتجين ومستهلكين محددين بدلًا من التركيز على مفاهيم شاملة للعقلانية أو الصالح العام . ينصب التركيز الجديد على مناهج تعددية وعضوية تهدف إلى إنتاج مجموعة من المساحات والبيئات شديدة التمايز. وكما يلاحظ بوير، فإن العناصر المجزأة من المدينة ككل تُخطّط أو تُعاد تطويرها كعناصر مستقلة ، مع علاقة ضئيلة بالكل ، واهتمام مباشر بالعناصر المجاورة فقط . ((لم يعد للمدينة شخصية ، فالعولمة عملت على تشتيت البعض و الى تركيز البعض الاخر ، وبهذا ادت الى تركيب عمراني – اجتماعي اقتصادي – حضاري جديد للمدن والقصبات ، فلم تعد هناك هوية موحدة ، بل هويات فرعية متناثرة في ارجاء المدينة .))
الاسئلة التي ترد الى الذهن الان :
الى اين تقودنا الراسمالية بعولمتها وعنجهيتها الراهنة ؟
الى متى نبقى معصوبي العيون ، ملجومي الفم ؟ نسير مع القطيع بدون وعي ؟
متى يستيقض فكرنا ويكون لنا راينا الخاص ؟ وتكون لنا هويتنا المشرفة ؟
كيف يمكن ان نلحق بالعالم السائر بمتوالية اسية ونحن على حالنا الراهن المتخلف ؟
هل يحقق النظام التعليمي الراهن طفرة نوعية في عقول ابنائنا ؟ ليكونوا جيل المستقبل المشرق ؟
هل يمكن ان نسبق الزمن ؟ ام نبقى في اخر القافلة ؟ والى متى ؟
هل هناك قادة ينظرون ابعد من ارنبة انفهم ؟
#مضر_خليل_عمر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟