مضر خليل عمر
الحوار المتمدن-العدد: 8414 - 2025 / 7 / 25 - 20:11
المحور:
قضايا ثقافية
مدخل
لجغرافية المدينة التي نعيش فيها دور كبير في تاطير نمط سلوكنا و طراز حياتنا فيها ، والصورة التي نمتلكها عن المدن الاخرى مكتسبة من زيارات ، او منقولة عن من عاش فيها او زارها ، او من خلال القراءات (كتب ومجلات ) او متناقلة اعلاميا (تلفاز او انترنيت) . وقد تطورت دراسة المدن بشكل متسارع نتيجة لنمو المدن وانتشارها وتاثيراتها المتضاعفة على حياة المجتمعات على اختلاف طبيعاتها ومواقعها على سطح الكرة الارضية . لقد بدأت دراسة المدن كنقاط موقع مستقرات بشرية على الخريطة ، (عين طائر) ، ثم شكلها الاجمالي (مورفولوجيا) ، ثم تفاصيل شبكة الطرق الداخلية ، نزولا الى استعمالات الارض فيها.
وعند هذا المستوى من النظر الى المدينة ، بدأ التنظير لنمذجة هذه الاستعمالات ، والعوامل التي شكلتها ، وطبيعة المجتمعات التي تقطن في ارجاء المدينة موزعة على المحاور و الطرق ( ما عرف حينها بالمناطق الطبيعية و الجيرات الاجتماعية ) و اثر ذلك على حركة الناس للتنقل يوميا للعمل او للتسوق و غيرها من فعاليات فصلت مكانيا عن موقع السكن و عن مكان العمل . (فصل السكن عن مكان العمل غير جغرافية المدن كليا – كذلك جغرافية العالم) . فالدراسات الاولى كانت عمرانية بدرجة كبيرة ، ومع (نزول الطائر الى مستويات دنيا) انصب الاهتمام على الناس و حركتهم ، (اتجاه اجتماعي – سلوكي – ثقافي ) ، وحتى استعمالات الارض اضحت دراستها من خلال الغطاء الارضي و البناء الوظيفي .
ومن خلال التركيز على مجتمعات المدن (المجتمع الحضري) ، اتجهت الدراسات الجغرافية خاصة و الاجتماعية والاقتصادية و السياسية عامة للتركيز على معايير تقيس حركة المجتمعات و تقدمها ، و سبل تشكيلها بيئات اجتماعية خاصة بها (جدلية المكان الاجتماعية) . بعبارة ادق ، اضحت ثقافة المجتمع و مستواه الحضاري هي هدف الدراسات لتباينها مكانيا و زمنيا . سعى الباحثون الى اكتشاف هويات المدن وسمات مجتمعاتها و انعكاسات ذلك على المظاهر الطبيعية – العمرانية فيها ونمط حياة سكانها . بصريح العبارة ، اصبحت هوية المدينة هدفا للدراسات الحضرية .
لقد غيرت تقنيات الاتصالات و المواصلات ، وانتشار مراكز التسوق على المساحة الجغرافية للمدينة و فقدان منطقة الاعمال المركزية اهميتها الى تغيير كبير في العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية – المكانية لسكان المدينة . رافق ذلك انفتاح ثقافي على العالم ، مما دفع المخططين و ادارات المدن للتفكير و العمل على ابراز شخصية المدن و تمييزها عن بعضها البعض بطرق مختلفة . فعملية التنمية و التطوير واعادة تطوير المناطق المتهرئة وتخصيص اماكن للنشاطات الثقافية والفنية ضمن مراكز المدن انما هدفها رسم ملامح شخصية المدينة ، واعادتها للحياة اليومية المعهودة سابقا .
ولما كانت المدينة كائن عضوي حي ، يتاثر بكل ما يؤثر على الكائنات الحية الاخرى ، و لها دورة حياة ، ولها سماتها و ثقافتها المتطورة والمتغيرة مع كل ما يطرأ على المدينة ويؤثر عليها ، من الداخل (سكانها وادارتا) ومن خارجها (المؤثرات السياسية – الاقتصادية) . لذا فان دراستها بين حين واخر يعد توثيقا تاريخيا – جغرافيا للمرحلة التي تمرالمدينة بها . تساعد هذه الدراسات في رسم مسار حركة - تقدم المدينة و تاشير فترات الركود والنكوص (عمرانيا ، اقتصاديا ، سكانيا ، بيئيا) ضمن مسيرتها . وبما ان المدينة مركز اشعاع لاقليمها المتاخم لها ، فان دراستها تؤشر حال اقليمها بشكل غير مباشر (ومباشر احيانا) .
وجهة نظر
مع سيادة العولمة و تحكمها في حياة الشعوب جميعا وبدون استثناء ، تغيرت خرائط المدن و طرز الحياة فيها بشكل جذري . ولم تعد نظريات التركيب الداخلي للمدينة صالحة للمقارنة والقياس ، ولا نظرية الاماكن المركزية ، ولا نظرية فون ثونن ، و لا نظريات الهجرة و حركة السكان داخليا و - او خارجيا . فالامور انقلبت راسا على عقب بشكل جذري . وقد تسائلت سابقا عن هوية المدينة العراقية في الوقت الراهن كونها على المحك ((https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=871882)) . وارى ان الوقت قد حان لنعيد دراسة تركيبة مدننا في ضوء المستجدات الواقعية و الفكرية الراهنة . فبغداد لم تعد كما كتب عنها خالص الاشعب ولا البصره كما كتب عنها عادل خطاب ، و الامر ينطبق على الدراسات الحضرية الاخرى جميعا وبدون استثناء .
الان ، لدينا جمع غفير من الساعين للحصول على شهادات جامعية عليا (التقديم للدراسات العليا اضعاف المقبولين في الدراسة الاولية) ، ولكل جامعة اقليمها الوظيفي ، الذي يضم عددا غير قليل من المدن واقاليمها المتاخمة لها . ومعظم المتقدمين للدراسة العليا ، ان لم يكن جميعهم ، لم يحدد بعد اي اختصاص يريد ، ولم يفكر بعد في موضوع تخصصه الدقيق ، الذي يرسم له ملامح شخصيته الفكرية – العلمية – المهنية . انها فرصة لتوجيههم لدراسة المستقرات البشرية بشكل منهجي يخدم التخطيط العمراني – الاجتماعي – البيئي وبما يساعد في رسم سياسات التنمية المستدامة .
التنمية المستدامة مفهوم واسع ، له تخريجاته الكثيرة طبقا لتخصص المعني واهتماماته ، فماذا يقصد بالتنمية الحضرية المستدامة ، مثلا ؟ تشمل عناصر المدينة و مكوناتها الاتي : العمران ، شبكة النقل الداخلية ، النشاطات الاقتصادية ، تركيبة السكان الديموغرافية ، تركيبة السكان الاجتماعية ، الخدمات المجتمعية والمنافع العامة ، البنى التحتية ، البيئة الطبيعية ، البيئة الاجتماعية ، الحوكمة وسياساتها التنفيذية . وكما قيل جغرافيا سابقا ((اي شيء مرتبط بكل شيء)) ، فالموضوع معقد ومتشابك و متداخل التاثير و التاثر .
التنمية الحضرية مرتبطة بمستوى تقدم المجتمع ((لقياس تقدم المجتمع وعلاقته بالتنمية الحضرية ينظر https://www.muthar-alomar.com/?p=1561)) ، وتنطلق منه لرسم ملامح الرؤية المنشودة و صياغة الاهداف الاستراتيجية والمرحلية لتحقيق التنمية واستدامتها . لذا على من يدرس التنمية الحضرية ان يركز على النقاط الواهنة في البيئة الحضرية – عمرانية - اجتماعية - خدمية - بيئية ، ويسلط الضوء عليها و على اسبابها و العوامل المؤثرة عليها ليقترح سبل المعالجة الوقائية و العلاجية . فمن المستحيل ان يغطي باحث واحد بشمولية جوانب التنمية الحضرية لاي مدينة كانت ، انها تتطلب فريق عمل متكامل - منوع التخصصات يسعى للوصول الى هدف مشترك .
المقترح
قيام الاقسام العلمية في الجامعات العراقية بتوجية ملاكاتها البحثية و طلبة الدراسات العليا لدراسة مشاكل المدن : العمرانية ، الاجتماعية ، البيئية ، البنى التحتية ، الخدمات المجتمعية والمنافع العامة ، البيئية ، التربوية ، والادارية ضمن اقليمها الوظيفي . ويفضل ان يصاغ استراتيج بحثي متكامل وشامل للرقعة الجغرافية و جوانب الموضوع قيد التقصي . ويكون هذا الاستراتيج ملزما للاقسام العلمية و العمادات و رئاسة الجامعة . اي استراتيج مركزي على مستوى الجامعه . يناقش بالتفصيل في اجتماع عام في البداية ، ومن ثم تعقد اجتماعات موسعة دورية لمتابعة المستجدات ولمعالجة المشاكل والعقبات التي تعترض طريق التنفيذ . ولعل هذا النشاط (اذا اقر و تم تنفيذه فعليا) ، يفرز من هو اهل لموقعه في الجامعه ومن هو غير مؤهل لا علميا ولا مهنيا ليحمل لقب دكتور او استاذ في اختصاصه . فالعمل البحثي الحقيقي (غربال) يتساقط من خلاله من لم ينبني علميا بشكل سليم .
وللتوضيح ، اقترح على اقسام الجغرافيا في جامعة ديالى ، مثلا ، تكليف طالب دكتوراه للقيام بدراسة مقارنة بين مدينتي المقدادية و كنعان ، او بين مدينتي خانقين والخالص مثلا . المقارنة هدفها ابراز نقاط التشابه والاختلاف بين المدينتين ، التي قد لا تكون بارزة للعيان في الوهلة الاولى . وانها ستكون حافزا لتحليل اسباب هذا الاختلاف ، ونتائجه و سبل معالجته . فمثلا ، بسبب الاوضاع الامنية لا يتوقع ان يكون الهرم السكاني في المدينتين متشابه ، وان مجالات الاختلاف قد تبرر ما يعترض المجتمع ويعاني منه من مشكلات و معوقات تنموية . ومن خلال المقارنة يمكن التركيز على اهداف التنمية ومساراتها لكل مدينة بشكل مستقل عن المدينة الاخرى .
وبما ان المدينتين ليس اي منها نموذجي ، لذا من الجوهري ان تكون المقارنة اولا مع معيار عالمي رسمي . بعبارة ادق ، مقارنة مضاعفة : الاثنين مقابل المعيار التخطيطي ، و الاثنين تجاه بعضهما البعض . بهذه الصيغة تتحدد الموضوعية وتبرز . وهنا يمكن اعتماد الجداول اضافة الى الرسوم البيانية التوضيحية . اما المقارنة الاحصائية ، فالهدف منها التحقق من ان المدينتين تعودان الى مجتمع واحد ام لا . وعندما لا يكونا من المجتمع نفسه ، حينها يستوجب الامر التفسير و البحث في الظروف داخليا ((التركيب الاجتماعي للسكان)) و خارجيا ((السياسية ، الامنية)) السابقة التي ادت الى ذلك الاختلاف .
وبما ان الهدف النهائي هو رسم صورة بالكلمات والرسوم البيانية والخرائط لهوية المدينة (اصدار بطاقة موحدة لها) وملامح شخصيتها ، فلابد ان تكون الصورة ملونة ، فالفرق بين الصورة بالابيض والاسود والصورة بالالون ما تعطيه من انطباع للحياة وقت اخذ الصورة . المقصود هنا ان يكون هناك حيز للوضع الثقافي – الحضاري للمجتمع من خلال ممارساته الثقافية و الرياضية وعاداته الاجتماعية . فعندما نقرأ ما كتبه الرحالة القدامى عن المدن نحس وكاننا نعيش زمانها من خلال تلك الكتابات . فالمطلوب ان لا تكون الكتابة عن الجوانب المادية الصرفة ويتركوها لوحة صامته ، بل صورة ملونة ناطقة بثقافة المجتمع و حضارته . وهذا توثيق تاريخي جغرافي في الوقت نفسه للمرحلة التي اجريت بها الدراسة .
والله ولي التوفيق ، وهو ارحم الراحمين ، وهو من وراء القصد .
#مضر_خليل_عمر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟