حجي قادو
كاتب وباحث
(Haji Qado)
الحوار المتمدن-العدد: 8515 - 2025 / 11 / 3 - 20:54
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إذا عدنا إلى البدايات التاريخية، نجد أن العرب انطلقوا من شبه الجزيرة العربية وتوسّعوا شمالًا وغربًا عبر سلسلةٍ من الحملات العسكرية التي عُرفت لاحقًا باسم "الفتوحات الإسلامية"، وهي في جوهرها لم تخلُ من الغزوات وجلب الغنائم وسبي النساء، كما وثّقت كثيرٌ من المصادر التاريخية. وخلال تلك الفترة، تمدّدت القبائل البدوية الرحّل في مختلف الاتجاهات واستقرّت في المناطق التي وصلتها، إلى أن فرضت سيطرتها على مساحاتٍ واسعة كانت مأهولةً بشعوبٍ أخرى ذات حضاراتٍ عريقة.
ومع مرور الزمن، توسّع هذا الامتداد حتى بلغ شمال إفريقيا وغربها، فوصل إلى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وشمالًا إلى العراق وسوريا ولبنان، وصولًا إلى مصر.
غير أن القراءة الدقيقة للتاريخ تُظهر أن تلك "الفتوحات" لم تكن مجرد نشرٍ للدين كما جرى تصويرها، بل حملت في طيّاتها مشروعًا توسّعيًا ذا طابعٍ قومي وسياسي واضح، أسفر عن سيطرة العرب على شعوبٍ وحضاراتٍ كانت قائمة قبل وصولهم بقرونٍ طويلة.
فمصر كانت أرضًا فرعونيةً وقبطية، وسوريا موطنًا للسريان والآشوريين والكُرد، ولبنان أرض الفينيقيين، والعراق مهد الحضارات البابلية والكلدانية والكورية ، بينما كان شمال إفريقيا وطنًا للأمازيغ، أصحاب الأرض الأصليين قبل موجات التعريب. ومع ذلك، ما زالت العديد من الأنظمة العربية تتجاهل الاعتراف بالهويات القومية والثقافية لهذه الشعوب، تمامًا كما تتجاهل اليوم الهوية القومية الكُردية التي تشكّل جزءًا أصيلًا من نسيج المنطقة وتاريخها.
إنّ مراجعة التاريخ ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة لفهم الحقائق كما هي، بعيدًا عن الروايات الأيديولوجية التي سعت إلى طمس هويات الشعوب باسم "الوحدة" أو "الدين". فالحضارات الكبرى التي تركت بصماتها العميقة في التاريخ الإنساني لم تكن عربية المنشأ؛ فالحضارة الميدية، والميزوبوتامية (الرافدينية)، والفارسية، واليونانية، وغيرها، سبقت الوجود العربي في هذه المناطق بآلاف السنين، وأسّست لقواعد الفكر والعلم والفن والسياسة.
أما الحديث عن "الحضارة العربية"، فهو مفهوم متأخر نسبيًا ارتبط بمرحلة الدولة الإسلامية التي جمعت شعوبًا وثقافاتٍ متعددة تحت سلطةٍ واحدة، دون أن تكون منجزاتها "عربية" بالمعنى القومي. فلو عدنا إلى أصول كثيرٍ من رموز تلك المرحلة، لوجدنا تنوّعًا قوميًّا واضحًا؛ فصلاح الدين الأيوبي كان كُرديًا، وطارق بن زياد أمازيغيًا، وغيرهما كثير ممن أسهموا في بناء ما يُسمّى بـ"الحضارة الإسلامية" من غير العرب. لقد شارك الفرس والسريان والقبط والكلدان والكُرد والأمازيغ وغيرهم في صناعة تلك النهضة الفكرية والعلمية، بينما اقتصر الدور العربي في أغلب الأحيان على الجوانب السياسية والعسكرية.
من هنا، فإنّ إعادة قراءة التاريخ ليست دعوةً للتشكيك أو لإثارة النزاعات القومية، بل هي محاولة لاستعادة التوازن والإنصاف، والاعتراف بحقّ الشعوب في هوياتها وأوطانها، بعيدًا عن هيمنة السرديات التي جعلت من الاحتلال "فتحًا"، ومن التنوع "انقسامًا"، ومن الأصالة "تبعية".
#حجي_قادو (هاشتاغ)
Haji_Qado#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟