أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - رائحة الموت في الفاشر… حين يختبر الله ضمير العالم














المزيد.....

رائحة الموت في الفاشر… حين يختبر الله ضمير العالم


إسلام حافظ
كاتب وباحث مصري

(Eslam Hafez)


الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 00:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الفاشر اليوم ليست مدينة، بل جرح مفتوح على وجه الإنسانية، نازفٌ في صمتٍ مطبق، يختبر صبر الأرض واتساع السماء على ما يفعله البشر ببعضهم. من يقف على أطرافها لا يرى سوى الغبار، لكن من يقترب يشم رائحة لحمٍ محترق، ودمٍ تَخثّر فوق التراب، وصدى بكاءٍ مكتومٍ يتسلل من بين الجدران. الفاشر، التي كانت ذات يومٍ عاصمة التاريخ والكرم في دارفور، صارت الآن عاصمةً للموت، وساحةً يتفرج فيها العالم على أبشع صور الانحطاط الإنساني دون أن يطرف له جفن.

قوات الدعم السريع لا تكتفي بالسيطرة، بل تمارس القتل وكأنه عملٌ مقدس، تؤديه ببرودٍ كبرود الحديد في يد الجزار. تُعدم الرجال ميدانيًا، وتغتصب النساء أمام ذويهن، وتسرق الممتلكات كما لو أنها تغنم من مدينة عدوة، لا من وطنها. لم يعد القتل هناك حادثًا عابرًا، بل تحوّل إلى نظام حكمٍ جديد تُدار به المدينة. في كل بيتٍ قصة مأساة، وفي كل شارعٍ جثة لم تجد من يواريها. الموت في الفاشر ليس حدثًا، بل هو مناخ، هواءٌ يتنفسه الناس قسرًا، وماءٌ تلوّث بدم الأبرياء.

في بعض الأحياء، يُسمع صراخ النساء ليلًا حين تقتحم الميليشيات المنازل بحثًا عن “أعداءٍ متخيلين”. يُفصل الرجال عن النساء، يُربطون خلف الشاحنات، وتُطلق الرصاصات في الوجوه البريئة بلا تردد. الجثث تُترك ملقاةً في الطرقات لتتحلل تحت الشمس، كرسائلٍ صامتة تقول: لا حياة هنا إلا لنا. هناك، في قلب المدينة، يتجول الرعب علنًا، لا يخفي نفسه، فقد صار القانون الوحيد الذي يُطاع.

والعالم؟ يقف متفرجًا، متأنقًا بلغة الدبلوماسية الباردة: “نراقب الوضع بقلق”. أيُّ قلقٍ هذا الذي لا يمنع الموت؟ أيُّ مراقبةٍ هذه التي لا ترى؟ كيف يُمكن أن تتحول الإبادة إلى خبرٍ ثانويٍّ في نشرات الأخبار؟ يُباد ربع مليون إنسان في الفاشر، وتغرق المدينة في الدماء، بينما تنشغل الشاشات بأخبار المشاهير والأسواق والبورصات. هذه ليست لا مبالاة، بل تواطؤ من نوعٍ آخر — تواطؤ الصمت، تواطؤ العجز، تواطؤ الإنسانية المزيفة التي تفرّق بين دمٍ ودم.

في الفاشر، اختفى مفهوم “الأمان”، وصار البقاء نوعًا من المعجزة اليومية. من ينجو اليوم، لا يضمن غدًا. ومن فقدَ أهله، لا يجد حتى فرصة الحداد. الأطفال يركضون حفاةً بين الأنقاض بحثًا عن ذويهم، والنساء يدفنّ أبناءهن بأيدي مرتجفة، ثم يهربن إلى العراء، لا إلى النجاة، بل إلى احتمالٍ آخر للموت. في هذه المدينة، تُقاس الحياة بالصدفة، ويُختبر الإيمان بمعناه الأعمق: أن تصمد رغم أنك تعلم أن لا أحد سيأتي لإنقاذك.

قوات الدعم السريع لم تكتفِ بسفك الدماء، بل مارست إذلالًا منهجيًا للمدنيين. نهبت الأسواق والمخازن، وأحرقت المستشفيات، وحولت المدارس إلى ثكناتٍ عسكرية. كل ما يدل على الحياة يُدمر عمدًا — كأن الحرب لا تريد القضاء على البشر فقط، بل على الذاكرة ذاتها. الناس يفرّون من الفاشر جماعاتٍ، لكن الهروب لم يعد نجاة، فكل الطرق مغلقة، وكل اتجاهٍ يحمل رائحة الخطر. أصبحت المدينة جزيرةً معزولة وسط بحرٍ من النار، لا طعام، لا دواء، لا أمل.

إن ما يحدث في الفاشر ليس مجرد جريمة، بل امتحانٌ للبشرية جمعاء. العالم الذي يزعم أنه تعلم من مآسي رواندا والبوسنة ودارفور الأولى، يعيد الآن المشهد نفسه دون خجل. الأمم المتحدة تصدر بياناتها الباردة، والمنظمات الدولية تكتفي بـ"الإدانة"، فيما تستمر المجازر، ويستمر النزيف. وكأن الإنسان لم يتطور إلا في أدوات القتل، لا في ضميره.

الفاشر ليست مجرد مدينة تُباد، بل مرآة كونية تكشف حقيقة العالم حين يتعرى من شعاراته. فيها ترى كيف يسقط القانون أمام فوهة البندقية، وكيف يتحول الإنسان إلى “رقمٍ ناقص” في تقارير الأمم المتحدة، وكيف يمكن للشر أن يصبح عاديًا حين يُمارس بكثرةٍ كافية. لا شيء يصفح عن هذا الصمت، ولا شيء يبرر عجز العالم الذي يملك كل الوسائل لوقف المجزرة، لكنه لا يملك الإرادة.

هناك في الفاشر، طفل يحمل دميته المحترقة وينظر إلى السماء متسائلًا: “هل نحن منسيون حتى في رحمتك؟”
وسيدة تهمس وهي تُغطي جثة زوجها بقطعة قماشٍ ممزقة: “قل لهم أننا كنا بشرًا.”
وفي مكانٍ آخر، جنديٌّ من الدعم السريع يلتقط لنفسه صورةً بجوار جثثٍ متفحمة، يضحك، كأنما يحتفل بإنجازٍ بطولي. هكذا تُختصر المأساة: موتٌ يُمارس بفخر، وصمتٌ يُبرَّر بالعجز، وعالمٌ يراقب من وراء الشاشات.

كل شيء في الفاشر ينطق بالفقد: البيوت، الشوارع، الهواء، حتى الطيور هجرت سماءها. المدينة التي كانت تنبض بالحياة صارت شاهدةً على انقراض المعنى الإنساني. وما لم يتحرك العالم اليوم، فستكون الفاشر نذيرًا بما هو أفظع: لحظةً يُقتل فيها الإنسان في أي مكان، ولا أحد يعود يهتم.

الفاشر لا تطلب معجزة، بل عدالة. لا تبحث عن دموعٍ أو تضامنٍ موسمي، بل عن ضميرٍ حيٍّ يصرخ في وجه القتلة. لأن ما يُرتكب هناك ليس ضد السودانيين وحدهم، بل ضد جوهر الإنسان. حين تُغتصب النساء في العلن ويُعدم الرجال أمام أطفالهم، فهذه ليست حربًا — بل انتحار أخلاقي للعالم.

وفي النهاية، لن يسأل التاريخ فقط: من قتل؟ بل سيسأل أيضًا: من صمت؟ من شاهد ولم يتكلم؟ من عرف ثم تظاهر بالجهل؟ لأن الفاشر لم تُباد بالسلاح وحده… بل بالصمت، بالخوف، باللامبالاة، وبالخيانة الكبرى التي ارتكبها ضمير العالم حين قرر أن يشيح بوجهه.



#إسلام_حافظ_عبد_السلام (هاشتاغ)       Eslam_Hafez#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السودان المنسيّ: وطن يُحترق بصمت، ويُذبح بالإهمال
- -ماسبيرو.. حين دهس الوطن أبناءه وسار فوق الحلم-
- -نصف المجتمع....كل المأساة-
- في مملكة الرمل… حيث يُدار الخراب بأيدٍ ناعمة
- -مصر... الجرح الذي أحببناه-
- -حين يصبح الإنسان خبراً عابراً-
- -ميزان الإنسان في عالم بلا ميزان-
- نزيف خلف القضبان
- الفاجومي: شاعر لم يركع وكلمة لا تموت
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -4/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -3/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -2/10-
- -من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -1/10-
- الإمارات والسودان: كيف ساهم المال والسلاح في تمزيق وطن؟
- البلشي صوت المقاومة في وجه دولة القمع
- ٦ ابريل من شرارة الغضب الي قلب الثورة
- العيد جانا والمعتقلين مش معانا
- مصر بين القمع السياسي والانهيار الاقتصادي: شعبٌ يدفع الثمن و ...
- معاوية مؤسس الاستبداد الأول في تاريخ الإسلام
- -رمضان في السجون المصرية: آلاف المعتقلين بين القهر والحرمان-


المزيد.....




- -حميدتي- يتأسف لأهل الفاشر ويتعهّد بتوحيد السودان
- غزة:هل انهار اتفاق وقف إطلاق النار؟
- المغرب: محاكمة 2480 شخصا على خلفية مظاهرات -جيل زد 212-؟
- ليبيا: السلطات تمهل أطباء بلا حدود حتى التاسع من نوفمبر لمغا ...
- النيابة العامة المغربية: الأحكام الصادرة بحق محتجين شباب لم ...
- مشهد لا يُصدق... قرشان في شوارع غارقة بعد إعصار ميليسا؟
- أكثر من 100 قتيل في -أعنف حملة للشرطة- بالبرازيل
- استطلاع: الليكود يبقى القوة الأولى إذا أُجريت انتخابات
- تقرير أميركي يفضح ارتكاب الدعم السريع قتلا جماعيا بالفاشر
- -مسار الأحداث- يناقش موقف واشنطن من انتهاك إسرائيل اتفاق وقف ...


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - رائحة الموت في الفاشر… حين يختبر الله ضمير العالم