أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - الفاجومي: شاعر لم يركع وكلمة لا تموت















المزيد.....

الفاجومي: شاعر لم يركع وكلمة لا تموت


إسلام حافظ
كاتب وباحث مصري

(Eslam Hafez)


الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 16:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في ذكرى رحيله، نُخرج أحمد فؤاد نجم من ضيق التصنيفات، فلا يكفي أن نُطلق عليه "شاعر العامية"، أو "صوت المهمشين"، أو "الفاجومي"، لأن نجم، ببساطة، كان ظاهرة نادرة يتجاوز أثرها حدود الأدب إلى ساحات السياسة والتاريخ والشارع، وكان في كل ذلك منسجمًا مع ذاته حدّ الفضيحة. عاش كما كتب، وكتب كما عاش: حرًّا، خشنًا، غاضبًا، مشاكسًا، مخلصًا حتى النهاية لفكرته الأولى – أن يكون الشاعر في صف الناس لا في جيب السلطة، وأن تكون القصيدة طلقة لا زينة.

ولد أحمد فؤاد نجم في 22 مايو 1929 في قرية كفر أبو نجم بمحافظة الشرقية، لعائلة فقيرة ينتمي والدها إلى أصول صعيدية. فَقَد والده مبكرًا، لينتقل إلى الملجأ وهو طفل، وهناك ذاق مرارات اليُتم، وعرف باكرًا كيف يبدو العالم حين تُولد في الأسفل. لم يتلقَّ تعليمًا منتظمًا، لكنه تشبع من لغة الناس، وصقل أذنه بموسيقى الكلام، وامتص من قاع المجتمع ذلك الغضب الصامت الذي راكمه في قلبه حتى فجّره شعرًا.

كان نجم ابنًا شرعيًا لعصرٍ مضطرب، شهد سقوط الاستعمار البريطاني، وصعود الدولة الناصرية، وهزيمة 67، وصعود التيارات اليسارية، واغتيال الحلم القومي، ثم تحوُّل مصر إلى دولة كامب ديفيد، وصولًا إلى الحقبة المباركية الثقيلة، ثم بدايات انتفاضة يناير. وخلال هذه التحولات، لم يقف نجم يومًا على الرصيف. لم يكن مراقبًا محايدًا ولا كاتبًا ينزوي في برجه العاجي، بل كان شاهدًا ومُتهمًا، شاعرًا وسجينًا، صوتًا ينطق بما لا يُقال، وضميرًا شعريًا لصوت العامة.

في أواخر الخمسينيات، أُلقي القبض على نجم بتهمة تزوير أوراق حكومية، وهي التهمة التي استخدمها النظام الناصري كغطاء سياسي لسجن أصحاب الصوت العالي. داخل السجن، التقى بمعتقلين من خلفيات فكرية متعددة، وتفتح وعيه السياسي على نحو أعمق. هناك كتب أولى قصائده التي رسمت ملامح مشروعه الشعري لاحقًا، ومنها ديوانه الأول "صور من الحياة والسجن"، الذي كتبه على لفافات ورق قديمة، وساعده في إخراجه أدباء مثل يوسف إدريس وصلاح عبد الصبور. هذا الديوان، رغم تواضع إنتاجه، كان إعلان ولادة شاعر فريد لا يُشبه أحدًا، شاعر لا يُعير اهتمامًا للتنميق بقدر ما يُراهن على الصدمة.

وفي الستينيات، جاءت اللحظة الفارقة حين تعرّف على الشيخ إمام عيسى، العازف الكفيف المقيم في حارة صغيرة بالحسين. كان إمام قد تتلمذ على يد كبار مقرئي القرآن، وامتلك حِسًا موسيقيًا فطريًا، ووجد في كلمات نجم شحنة الغضب والصدق التي كان يبحث عنها. تحوّلا معًا إلى سلاح مزدوج: الكلمة واللحن، القصيدة والصوت. ثنائية "نجم–إمام" لم تكن مجرد تعاون فني، بل كانت مشروع مقاومة حقيقي، يُعيد تعريف وظيفة الأغنية في الحياة العامة. أغانيهما لم تُغنَّ على المسارح، بل في البيوت والمقاهي وزنازين السجون وساحات الجامعات.

كتب نجم قصائد هزّت الدولة الناصرية من جذورها، رغم أنه كان في بدايته متحمسًا للمشروع القومي. لكن الهزيمة العسكرية في 1967 كانت لحظة انكشاف، كشف فيها نجم زيف القوة، وعرّى النظام الذي بنى أمجاده على إعلام الصوت الواحد. كتب قصيدة "بقرة حاحا الحكيمة"، و"يعيش أهل بلدي"، و"الأقوال المأثورة"، وغيرها من النصوص التي حوّلت الهزيمة من صدمة إلى سخرية، ومن وجعٍ إلى مقاومة.

وبعد الهزيمة، صعد نجم كرمز للغضب العام، خصوصًا مع بروز حركة الطلاب في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. صار هو والشيخ إمام ضيفين دائمين على الجامعات والنقابات، حيث كانت الجماهير تردد قصائد مثل "شيد قصورك" و"اتجمعوا العشاق" و"نيكسون بابا"، وأخرى تحولت إلى أيقونات احتجاجية تُتداول سرًا على شرائط الكاسيت. وفي كل مرة، كان يُعتقل ويُسجن ثم يخرج أكثر إصرارًا.

في عهد السادات، بلغ التصادم ذروته. كتب نجم عن كامب ديفيد كمن يكتب على جسد الوطن تمائم رفض. هاجم "الرئيس المؤمن" بلا مواربة، وسخر من استعراضات السلطة الدينية والتبريرية. قصيدته "بيان هام" بعد انتفاضة الخبز 1977 كانت بمثابة طعنة في خاصرة النظام، وسببت له دخول السجن مجددًا، وظل معتقلاً في سجن القناطر ثم طرة لسنوات، لم يكن يخرج منها إلا ليكتب قصيدة جديدة تدخل به إلى السجن من جديد.

وإذا كان عبدالناصر قد سجنه رغم شعاراته القومية، فإن السادات سجنه لأنه كشف الوجه الطبقي للنظام، أما مبارك فقد حاول تجاهله، ثم التضييق عليه، وحين عجز عن إسكاته، قرر تشويهه في الإعلام الرسمي. لكن نجم لم يتبدّل. رفض الجوائز الرسمية، ورفض دعوات التطبيع، وهاجم رموز النخبة التي باعت نفسها للسلطة. وظل طيلة حكم مبارك صوتًا شجاعًا في زمن الارتباك، وواحدًا من الأصوات القليلة التي لم تُبدل مواقفها.

حين قامت ثورة يناير 2011، عاد نجم إلى الساحة كما لو أنه لم يغب. وقف في ميدان التحرير وسط الشباب، وكان وجوده أقرب إلى إعلان استرداد الوطن، لا مجرد احتفاء بتراث قديم. كتب عن الثورة، وغنّى لها، وباركها، لكنه لم ينخدع، وحذّر مبكرًا من محاولات الالتفاف على أحلامها، ومن عودة دولة الأمن بوجه جديد.

في 3 ديسمبر 2013، توفي أحمد فؤاد نجم، بعد عقود من النضال بالسجن، والسخرية، والقصيدة، والرفض. مات في زمن خذل فيه كثيرون الكلمات، لكنه لم يُخذل قصيدته يومًا. ترك وراءه تراثًا من الشعر المقاوم، وذاكرة من العصيان، وجيلًا كاملاً تربى على صوته.

لم يكن نجم شاعر غضب فقط، بل كان أيضًا شاعر حب، لكنه الحب المنحاز دومًا للفقراء، للنساء الكادحات، للمهمشين، للوطن المنهوب. كان عاشقًا صوفيًا يكتب عن توحيد الغلابة في وجه السلطان، لا عن العزلة في المقهى.

أحمد فؤاد نجم لم يكن "يُعارض"، بل كان يُجسّد جوهر المقاومة الثقافية. لم يكن يكتب من أجل التقدير، بل ليضع إصبعه في عين الظالم. لم يُهادن لحظة، ولم يطلب وساطة، ولم ينتظر اعترافًا. عاش فقيرًا، ومات فقيرًا، لكنه مات غنيًا بإرث لا يمكن تجاوزه.

في عالم تُشترى فيه الأصوات وتُصفّى فيه المعارضة، يبقى نجم شاهدًا استثنائيًا على زمن الشعر المقاوم. يبقى علامة على أن القصيدة، حين تخرج من قلب الناس، لا تموت. بل تُصبح سلاحًا في يد من يأتون بعده، ويحملون على عاتقهم عبء أن تظل الكلمة حرّة.



#إسلام_حافظ (هاشتاغ)       Eslam_Hafez#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -4/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -3/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -2/10-
- -من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -1/10-
- الإمارات والسودان: كيف ساهم المال والسلاح في تمزيق وطن؟
- البلشي صوت المقاومة في وجه دولة القمع
- ٦ ابريل من شرارة الغضب الي قلب الثورة
- العيد جانا والمعتقلين مش معانا
- مصر بين القمع السياسي والانهيار الاقتصادي: شعبٌ يدفع الثمن و ...
- معاوية مؤسس الاستبداد الأول في تاريخ الإسلام
- -رمضان في السجون المصرية: آلاف المعتقلين بين القهر والحرمان-
- مجزرة الدفاع الجوي: عشر سنوات على الجريمة والعدالة الغائبة
- مذبحة بورسعيد.. جريمة العسكر التي لن يغفرها التاريخ
- -المنفى وطنٌ من رماد-
- إضراب ليلي سويف: صرخة أمٍّ في وجه الظلم
- 25 يناير: أنشودة الحرية التي لا تموت
- -عصر السيسي الذهبي للنساء: أكذوبة تُخفي القمع والاستغلال-
- -القمع خلف ستار التحرر: معتقلات المنازل ومعاناة المرأة السعو ...
- -نظام السيسي: شعارات للبرمجة وقمع للحرية... مصر تحتضر في ظل ...
- إحنا بتوع التحرير..!


المزيد.....




- قطر عن مقتل اثنين من موظفي سفارة إسرائيل بواشنطن: -نرفض الإر ...
- ليبيا - نواب يقترحون تشكيل حكومة مصغرة لفترة مؤقتة
- عقوبات أمريكية على السودان بسبب -استخدام أسلحة كيماوية-
- وزيرة الأمن الداخلي الأمريكية تهدد الجامعات بإجراءات إذا سمح ...
- مصر.. تدخل دبلوماسي بعد فيديو اعتداء كفيل سعودي على عمال مصر ...
- 72 شهيدا بغزة وحماس تحذر من إقامة معسكرات اعتقال
- المغرب بعيون إسكندرانية.. من فاس للقاهرة في رحلة عبر مراكش
- مناورات إيران وأذربيجان العسكرية.. تعاون أمني أم رسائل إسترا ...
- لحظة استهداف الجيش الإسرائيلي لمبنى في بلدة تول جنوب لبنان
- سلسلة غارات إسرائيلية على مناطق في الجنوب والبقاع في لبنان


المزيد.....

- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - الفاجومي: شاعر لم يركع وكلمة لا تموت