إسلام حافظ
كاتب وباحث مصري
(Eslam Hafez)
الحوار المتمدن-العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 02:50
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
في البدء، علينا أن نخلع القشرة الخطابية التي كثيرًا ما تُطلى بها قضية المرأة في العالم العربي. ليس صحيحًا أن المرأة "نصف المجتمع" كما يُردد ببلاهة في المؤتمرات والمناهج التربوية والخطب السياسية. هذه العبارة التي تبدو بريئة تخفي في جوفها تبسيطًا مخادعًا لمأساة مركبة، فهي تفترض التساوي العددي كدليل على الشراكة، بينما الواقع يقول إن المرأة في المجتمعات العربية ليست فقط مقصاة، بل يُعاد إنتاج قهرها بصورة منهجية، وبأدوات متداخلة تشمل القانون والدين والإعلام والتعليم والمخيال الشعبي.
المرأة في العالم العربي ليست مجرد طرف مُستبعد، بل هي المحور الذي تُبنى حوله منظومة القهر بأكملها. لأنها تمثل "الخاص"، فإن التحكم فيها يُستخدم لضبط المجال العام. لأنها "الجسد"، فإن كل سلطة تسعى لاحتكار تأويل هذا الجسد، لفرض حدود على حركته، تعبيره، وجوده. ومن هنا، فإن قضايا النساء ليست قضايا قطاعية أو "نوعية"، بل هي البوصلة التي تكشف طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والرمزي. وحيثما وُجد ظلم النساء، وُجد استبداد كامل البنية.
في مصر، الدولة التي توظف خطاب تمكين المرأة بكثافة في الإعلام الرسمي، هي ذاتها التي تحتفظ بقانون أحوال شخصية يعود لعقود، لا يعترف بمساواة المرأة في الحضانة أو في الولاية على النفس أو على الأطفال. ما زال القانون يمنح الزوج الحق في تطليق زوجته بإرادة منفردة دون إشعار، ويمنح الرجل سلطة وصاية لا تُنتزع إلا بقرار قضائي معقد ومذل. حتى في حالات العنف الأسري، لا يُعترف بضرب الزوجة كجريمة إلا إذا بلغ "حد الإيذاء الجسيم"، وكأن المرأة ليست كائنًا ذا كرامة كاملة بل جسد تُقاس عليه علامات الأذى كما يُقاس الضرر على مركبة.
وفي مشهد عبثي، نجد أن النساء يُستخدمن كأدوات دعائية في الحملات الرئاسية والبرلمانية، وتُعيّن بعضهن في مناصب وزارية أو إدارية، دون أي سلطة حقيقية على الملفات السيادية، وكأن التعيين مجرد رتوش تجميلية تُجمّل صورة نظام يمارس، في العمق، إقصاءً بنيويًا لا يرحم. تُكرّم المرأة في "عيدها"، وتُستدعى إلى المؤتمرات الدولية كواجهة للتقدم، ثم تُرفض مطالباتها الجادة بتعديلات قانونية أو آليات فعالة لمواجهة التحرش والاغتصاب والتمييز المهني.
في السعودية والإمارات وقطر، رغم التحولات الملحوظة في السنوات الأخيرة، والتي سمحت للنساء بقيادة السيارة، والسفر دون إذن، والانخراط في مجالات مهنية غير تقليدية، إلا أن المراقب الحصيف يدرك أن هذه الخطوات جاءت وفق "نموذج التحديث المراقَب". فالحرية هنا ليست نابعة من اعتراف مبدئي بالمساواة، بل من إعادة ضبط للسلطة بما يتناسب مع متطلبات السوق والغرب ومشاريع التلميع الدولي. لا تزال المرأة في الخليج تُخضع لرقابة عائلية مقنّعة، من خلال تطبيقات إلكترونية تُبلغ ولي الأمر بتحركاتها، ولا تزال تُمنع من اتخاذ قرارات جذرية بشأن جسدها، أو في ما يتعلق بعلاقتها بالسلطة الدينية.
كما أن الخطاب الديني المُعتمد في معظم هذه الدول لا يزال يرسّخ مفهومًا دونيًا للمرأة، باعتبارها "ناقصة عقل"، "مصدر الفتنة"، "حاملة العورة"، وكل ذلك يُستخدم لتبرير الوصاية القانونية والرمزية والاجتماعية عليها. حتى في التعليم، تُربى الفتيات على فكرة أن طموحهن الأقصى هو "أن يكن زوجات صالحات وأمهات مطيعات"، ولا يُسمح لهن بتمثيل النفس خارج علاقتهن بالأسرة أو الذكر.
أما في سوريا ولبنان والأردن، حيث يُنظر إلى المرأة على أنها أكثر تحررًا بفعل الحداثة المدينية والتعليم، فإن القيد يأخذ شكلًا أكثر مراوغة. المرأة هنا لا تُمنع من العمل أو الدراسة، لكنها تُحمَّل عبء الكمال المستحيل: أن تكون عاملة ناجحة، ومربية مثالية، وزوجة جذابة، وابنة بارة، ومواطنة لا تشتكي. تُقاس كفاءتها بقدرتها على التوفيق بين الأضداد، وتُدان إذا قصّرت في أي منها. هذا النموذج المزدوج لا يقل قهرًا عن القمع المباشر، بل يزرع في النساء شعورًا دائمًا بالذنب وعدم الاكتمال.
في فلسطين، المأساة تتجلى بوجهين قاتمين: الاحتلال والاستلاب الداخلي. فالمرأة الفلسطينية تُعتقل وتُستهدف ويُطلق عليها الرصاص كما الرجال، لكن ما إن يُطرح الحديث عن القرار السياسي أو الحضور في مفاوضات السلام أو صياغة الخطاب الوطني، حتى تُقصى لصالح "المناضل الذكر". يُنظر إليها كمُعيلة، أمّ شهيد، زوجة مقاوم، لا كمحركة للمعنى أو شريكة في التخطيط. صوتها السياسي يُهمَّش، وتُضغط كي لا تعبر عن غضبها من التمييز بذريعة "وحدة الصف الوطني".
وفي السودان، بعد الثورة، كان مشهد النساء في الصفوف الأولى مدوّخًا للضمير العالمي. خرجن، غنين، اعتُقلن، ضُربن، وأحيانًا استُشهدن. لكن بعد أن خفتت الميادين، عاد النظام الأبوي بأشكال جديدة. اختُزلت "الكنداكة" في تمثال أو شعار، ولم تتحول إلى موقع قرار. طُردت النساء من لجان الصياغة الدستورية، وتُركت ملفات مثل قانون الأحوال الشخصية وجرائم العنف الجنسي رهينة تفاوضات النخب الذكورية. وكأن تحرر المرأة رفاهية لا يليق بالمرحلة، أو مطلب يتعارض مع "استقرار المرحلة الانتقالية".
في العراق، حيث تتداخل الطائفية مع العشائرية، تُستخدم المرأة كسلاح رمزي في المعركة. في مناطق تُجبر على ارتداء الحجاب، وفي أخرى تُضرب لخلعه. تُختطف في النزاعات المسلحة، وتُزج في الزواج المبكر كأداة لحل الخلافات بين العشائر. قانون الأحوال الشخصية الذي كان يُعد تقدميًا في القرن العشرين، بات مهددًا بالنسف لصالح قراءات دينية وطائفية تُعيد المرأة إلى خانة "المملوكة شرعًا". والمؤسسات القضائية تغض الطرف عن جرائم الشرف، والبرلمان يرفض سنّ قوانين ضد العنف الأسري بدعوى "خصوصية المجتمع".
في اليمن، حيث الحرب تلتهم كل شيء، تُعامل المرأة كمورد بشري للفجيعة. تغتصب، تُختطف، تُزوّج في سن الطفولة، تُجبر على النزوح، وتُجرد من أي إطار قانوني أو صحي أو مدني يحميها. في مناطق سيطرة الحوثيين، يُفرض عليها الحجاب بالقوة، وتُمنع من التنقل بلا "محرم"، ويُعتدى عليها تحت ذرائع أخلاقية. أما في المناطق الأخرى، فليست أفضل حالًا: لا مؤسسات تحميها، ولا قانون يُنصفها، ولا خطاب يعترف بها كمواطنة.
حتى في الجزائر، حيث ناضلت النساء في الثورة ضد الاستعمار، ثم في حراك 2019 ضد النظام، لا تزال قضاياهن تُؤجل دائمًا إلى "ما بعد الاستقرار". الدولة تفتح لهن باب العمل والتوظيف، لكنها تُغلق دونهن المناقشات الجدية حول الأحوال الشخصية، والإرث، والوصاية القانونية. والمجتمع، رغم تبجحه بتاريخ مجاهداته، يصر على اختزال النساء في خطاب شرف وأمومة وتضحية، دون أن يعترف بهن كمواطنات ذوات إرادة سياسية.
كل هذا يعبّر عن بنية عميقة لا ترى في المرأة إنسانًا بل "رمزًا"، والرمز في ثقافتنا محكوم دائمًا بالتناقض: يجب أن يكون مقدسًا ومُدنسًا، مرغوبًا ومخيفًا، مثاليًا وخاضعًا. ولهذا فإن أي محاولة لتخليص المرأة من هذه الرمزية تواجه مقاومة شرسة: من المؤسسة الدينية، من العائلة، من الدولة، ومن المثقف الذكوري الذي يُجيد تبرير الإقصاء بلغة منمقة.
التحرر الحقيقي لا يكمن في تعيين وزيرة أو السماح بقيادة سيارة، بل في الاعتراف بحق المرأة في أن تُخطئ، أن تختار، أن تعرّف ذاتها خارج القوالب. أن يكون لها صوت فاعل لا مرآة عاكسة. أن يُعاد لها الحق في صياغة اللغة، والفهم، والقانون، والخيال الجمعي.
إننا لا نحتاج إلى مزيد من الخطابات، بل إلى قطيعة معرفية تُعيد بناء العلاقة مع المرأة من أساسها. ثورة في التعليم، وفي الفقه، وفي الإعلام، وفي القانون، وفي الأسرة. لا يُمكن لأي نهضة عربية أن تحدث ما دامت النساء يعشن في ظل وصاية رمزية وتشريعية وأخلاقية. ولا يمكن الحديث عن "تحول ديمقراطي" دون تحرير النساء من هذه البنية المتجذرة.
المرأة ليست نصف المجتمع. إنها اختباره الأخلاقي الأصدق. فحين تُقمع النساء، لا يُقمع "جزء من الناس"، بل يُقمع معنى الإنسانية نفسها.
#إسلام_حافظ_عبد_السلام (هاشتاغ)
Eslam_Hafez#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟