أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - -ميزان الإنسان في عالم بلا ميزان-














المزيد.....

-ميزان الإنسان في عالم بلا ميزان-


إسلام حافظ
كاتب وباحث مصري

(Eslam Hafez)


الحوار المتمدن-العدد: 8358 - 2025 / 5 / 30 - 17:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


هل هذه الحياة عادلة؟

سؤال لا يُطرح بحثًا عن إجابة بقدر ما يُلقى في الفراغ كشكل من أشكال الرفض. هو أشبه بصرخة كونية مكتومة تصعد من عمق الإنسان حين يعجز عن التفسير، حين يقف العقل في مأزقه الأزلي: كيف يمكن أن يوجد هذا الكم من الألم في كونٍ يُفترض أنه محكوم بنظام؟ كيف تُترك الأرواح لتتأرجح بين الظلم والخذلان، بين الغياب والتشظي، دون أن تتدخل يد تُرجع الميزان إلى نصابه؟

العدالة، كما يراها الإنسان، مفهوم بشري صرف. نحن وحدنا من نسأل عنها، نحن وحدنا من نتألم لغيابها، لأننا نحن وحدنا من نخترع لها معنى. الكون لا يسأل إن كان من العدل أن يولد طفل مشوهًا ويموت بعد أيام، أو أن تفقد أم أبناءها في حرب لا شأن لها بها، أو أن يُلقى بإنسان في السجن لأن قلبه نطق بما لا يليق في عصر الصمت. النجوم لا تعبأ، والكواكب لا تنتبه، والبحار لا تتوقف لتنوح مع الغرقى. الكائنات كلها تمضي وفق ما يُفرض عليها، وحده الإنسان يحلم، يحتج، يتساءل، ويتمزق داخله بين الرغبة في المعنى وغيابه.

الحياة ليست كيانًا أخلاقيًا، ولا يمكن مساءلتها. هي ببساطة، موجودة. تحدث. لا تنوي، لا تُخطط، لا تعتذر. من هنا يبدأ التمزق: نحن نريد من الحياة أن تتصرف بعدل، لكننا نخاطب صمتًا مطلقًا، نضع قوانيننا الأخلاقية على ظواهر لا تخضع لها. في نظر الطبيعة، لا يوجد ظلم ولا عدل، بل فقط نتيجة. الريح لا تميز بيت الطاغية من كوخ البريء، والمرض لا يسأل عن رصيد المريض في بنك الخير أو الشر. وهكذا نمضي في عالم لا يحكمه ضمير، لكننا نحن نحاكمه بضميرنا.

في لحظة ما، يصطدم الإنسان بحقيقة فادحة: أن العدالة ليست مبدأً كونيًا، بل هي قيمة اختلقناها لأننا لا نستطيع احتمال الفوضى. خلقنا مفهوم "العدل" كما خلقنا فكرة "الإله العادل" و"السماء المنتظرة" و"الجزاء الموعود"، لا كحقائق مثبتة، بل كضرورة نفسية لبقاءنا. نحن لا نحتمل أن يكون كل شيء عبثًا. لا نطيق فكرة أن من مات مقهورًا تحت التعذيب، لن يُنصف أبدًا. أن المجرم الذي عاش في رفاهية، ومات على سريره، قد فاز. هذه الفكرة وحدها قادرة على تدمير جوهرنا الأخلاقي من الداخل. لذلك، نُصر على الإيمان بميزان ما، خفي، سيُعاد فيه كل شيء إلى موضعه. نؤمن به لا لأنه مؤكد، بل لأنه ضروري لبقائنا.

الذين سُحقوا، الذين خسروا كل شيء، هم الأكثر تعلقًا بهذه الفكرة. ليس لأنهم أغبياء أو ضعفاء، بل لأنهم لا يملكون سواها. لأن اليأس، حين يُصبح أعمق من الصراخ، يحتاج إلى قصة نرويها لأنفسنا لنتمسك بخيط رفيع من المعنى. وربما كان هذا التمسك، في حد ذاته، أحد أنبل وجوه الإنسانية: أن نرفض القبح، ولو كان حتميًا. أن نحلم بالعدل، حتى لو لم نره. أن نحمل في قلوبنا ميزانًا نزن به العالم، رغم أن العالم لا يُبالي.

هل هذه الحياة عادلة؟ لا. ولن تكون. لكنها تمنحنا ما هو أعقد من العدالة: تمنحنا الحرية في أن نكون عدولًا نحن، أن نمارس اختيار الخير، حتى في عالم لا يكافئ عليه. هذا وحده المعنى، هذه وحدها المعجزة. أن نزرع وردة في أرض قاحلة، أن نمد يدًا رغم الغدر، أن نقول "لا" في وجه القوة، أن نحمي الحقيقة في زمنٍ يحترف تزويرها. تلك هي العدالة التي لا تأتي من الحياة، بل منا.

نحن لا نعيش كي نُكافأ، بل لنثبت أن في قلب العبث شيئًا يشبه الكرامة. في قلب الفوضى شيء يشبه النظام الذي لا يفرضه الخارج بل ينبع من داخلنا. لسنا سوى لحظات قصيرة في هذا الكون، لكن تلك اللحظات تكتسب قيمتها حين نملؤها بما نؤمن به، لا بما يفرضه الواقع علينا.

فالحياة، في نهاية الأمر، لا تُحكم بمعاييرنا. لكنها تختبرنا باستمرار: هل سنُصبح جزءًا من ظلمها؟ أم سنحاول، بما استطعنا، أن نخفف حدته؟ قد لا تُنصفنا الحياة، لكن أن نبقى أوفياء لفكرتنا عن العدالة، رغم كل شيء، هو أسمى أشكال الانتصار.



#إسلام_حافظ_عبد_السلام (هاشتاغ)       Eslam_Hafez#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نزيف خلف القضبان
- الفاجومي: شاعر لم يركع وكلمة لا تموت
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -4/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -3/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -2/10-
- -من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -1/10-
- الإمارات والسودان: كيف ساهم المال والسلاح في تمزيق وطن؟
- البلشي صوت المقاومة في وجه دولة القمع
- ٦ ابريل من شرارة الغضب الي قلب الثورة
- العيد جانا والمعتقلين مش معانا
- مصر بين القمع السياسي والانهيار الاقتصادي: شعبٌ يدفع الثمن و ...
- معاوية مؤسس الاستبداد الأول في تاريخ الإسلام
- -رمضان في السجون المصرية: آلاف المعتقلين بين القهر والحرمان-
- مجزرة الدفاع الجوي: عشر سنوات على الجريمة والعدالة الغائبة
- مذبحة بورسعيد.. جريمة العسكر التي لن يغفرها التاريخ
- -المنفى وطنٌ من رماد-
- إضراب ليلي سويف: صرخة أمٍّ في وجه الظلم
- 25 يناير: أنشودة الحرية التي لا تموت
- -عصر السيسي الذهبي للنساء: أكذوبة تُخفي القمع والاستغلال-
- -القمع خلف ستار التحرر: معتقلات المنازل ومعاناة المرأة السعو ...


المزيد.....




- روسيا توسع سيطرتها في منطقة سومي الأوكرانية وسط مخاوف كييف م ...
- فيديو متداول لـ-حدث غريب- خلال عاصفة الإسكندرية الأخيرة.. هذ ...
- ويتكوف يوجه رسالة لحماس بعد تسليمها للمصريين والقطريين ردها ...
- حماس تسلم ردها على مقترح الهدنة: طالبنا بوقف دائم لإطلاق الن ...
- وزير الدفاع الأمريكي يحذّر من تهديد صينيّ -وشيك- لتايوان، وي ...
- ليبيا .. هل تكسر الاحتجاجات والاقتتال حالة الجمود السياسي؟
- لثلاثة أشهر.. السعودية وقطر تقدمان دعما ماليا مشتركا للقطاع ...
- فاغنكنيخت: على ميرتس والأوروبيين أن يحثوا زيلينسكي على قبول ...
- -ستجرنا إلى الحرب-.. خطط مفوضة السياسة الخارجية تجاه روسيا ت ...
- نائب الرئيس الفلسطيني يدين منع إسرائيل وصول الوفد العربي الإ ...


المزيد.....

- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - -ميزان الإنسان في عالم بلا ميزان-