أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - -مصر... الجرح الذي أحببناه-














المزيد.....

-مصر... الجرح الذي أحببناه-


إسلام حافظ
كاتب وباحث مصري

(Eslam Hafez)


الحوار المتمدن-العدد: 8377 - 2025 / 6 / 18 - 23:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مرحبًا بكم في مصر... الوطن الذي لم يُحبّنا يومًا، ولكنّنا أحببناه كثيرًا.

تبدو هذه الجملة، للوهلة الأولى، كأنّها مجرّد انفعالٍ عاطفيٍّ عابر، أو تأوّهٍ من قلبٍ متعب. لكنها، حين نُمعن النظر، ليست مجرّد شكوى، بل تلخيصٌ مرّ ومكثّف لعلاقةٍ عمرها قرون بين المواطن والدولة، بين الشعب والسلطة، بين الحلم والخذلان. علاقةٌ لم تبدأ اليوم، ولا بالأمس، بل هي علاقةٌ تأسّست على خيبةٍ مركّبة: أن يُولد الإنسان في أرضٍ يُفترض أنّها بلاده، ثم لا يجد لنفسه فيها موضعَ قدم، ولا ملاذَ قلب، ولا راحةَ عقل.

في مصر، نحن لا نعيش أوطانًا، بل نعيش أوهامًا. نُلقّن منذ الطفولة أنّ الوطن أمّ، وأنّ تُرابه من ذهب، وأنّ من يخونه لا يستحقّ الحياة. لكنّنا نكتشف سريعًا أنّ هذا "الوطن" لا يعرف أسماءنا، لا يسمع صرخاتنا، لا يُكترث لجوعنا، لا يهتمّ لكرامتنا. نُعلَّم في المدارس أنّنا أبناء حضارةٍ عمرها سبعة آلاف سنة، ثم نُضرب بعدها في أقسام الشرطة، ونُهان على الأرصفة، كأنّنا بلا تاريخ، بلا هويّة، بلا حقوق. نُردّد النشيد الوطني تحت علمٍ مرتفع، ثم ننحني في الواقع لسلطةٍ لا تعترف بنا، إلا كمخبرين، أو كبطونٍ تُصوّت، أو كأصواتٍ تُستخرج بها شرعيّةٌ زائفة.

الوطن الحقيقي لا يُختزل في الخريطة، ولا في نشرة الأخبار، ولا في صور الزعماء المعلّقة على جدران المكاتب الحكوميّة. الوطن الحقيقي هو الذي يمنحك حقّك قبل أن يطالبك بواجبك. هو الذي يعاملك كإنسان، لا كمُتَّهمٍ تحت المراقبة. في مصر، ينقلب المعنى. يُصبح حبّ الوطن تهمة، ويُصبح الصمت فضيلة، ويُصبح الاعتراض خيانة. نُحبّ مصر كما يُحبّ السجين زنزانته الأخيرة، وكما يُحبّ العاشق جثّة حبيبته بعد الفقد. نُحبّها لأنّنا لا نستطيع ألّا نُحبّها، ولأنّ الكراهية تحتاج إلى برودة عقل، ونحن احترقنا بالشوق والانتماء.

أن تكون مصريًا اليوم هو أن تنتمي إلى قصّةٍ طويلةٍ من الألم، لا يعرفها أحد إلا من عاشها. هو أن تمشي على الإسفلت وتعرف أنّ تحته آلاف العظام لأبناء هذا الوطن، الذين دُفنوا بلا ضجيج، بلا محاكم، بلا شاهدٍ على القبر. أن تكون مصريًا هو أن تكتب وأنت تخشى أن تُحاكَم على سطر، وأن تحلم وأنت تعرف أن الحلم قد يُكلّفك عمرك. هو أن ترى الثورة تمرّ من أمامك، تُشعل الشوارع، وتوقظ القلوب، ثم تُغدر وهي في عزّ صباها. ثم تقف بعدها، وحيدًا، ترتجف، وتتساءل إن كنت قد أخطأت حين صدّقت أن هذا الوطن يمكن أن يتغيّر.

نحن جيلٌ وُلد على أطلال الهزيمة، ورضع من حليب الخوف، وتربّى على مائدة القمع، ثم حين قرّر أن ينهض، ضُرب حتى انكسر. لم تُتح لنا فرصةٌ عاديّةٌ في الحياة، ولا في السياسة، ولا في الحلم. كلّ شيءٍ كان مؤجَّلاً، أو محرَّمًا، أو مراقَبًا. نشأنا في بيوتٍ ضيّقة، لا تعرف الاستقرار، في تعليمٍ فاسد، في إعلامٍ يكذب علينا كلّ صباح، في شارعٍ مزدحمٍ يدهس إنسانيّتك قبل أن يدهس قدميك. وحين قرّرنا أن نقول "كفى"، صرنا مطلوبين في كلّ جهة، إمّا بالتشويه، أو بالاعتقال، أو بالنفي، أو بالموت الصامت الذي لا تذكره الصحف.

كلّ ما أردناه كان بسيطًا: أن نعيش أحرارًا. أن نُحبّ مصر ونشعر أنّها تُبادلنا هذا الحبّ. لكنّنا اكتشفنا أنّ مصر – كما تُدار – ليست لنا. ليست لأبنائها. هي إقطاعيّةٌ بيد من يملكون السلاح، والإعلام، ورأس المال. هم من يقرّرون من يُحبّ الوطن، ومن يكرهه، ومن يُدفن في الصمت، ومن يُصدَّر في الواجهة. الوطن صار ملكيّةً خاصّة، ومن لا يركع لصورته المزيّفة يُحذف من المشهد.

ورغم ذلك... لم نكرهه. لم نستسلم. لأنّ الحبّ ليس دائمًا مشروطًا بالمقابل. بل أحيانًا هو فعل تمرّد، وفعل خلاص. نحن نُحبّ مصر لأنّها تسكن ذاكرتنا، لأنّ شوارعها شاهدةٌ على أوّل حبّ، وأوّل قصيدة، وأوّل هزيمة. نُحبّها لأنّ لنا فيها موتى لا نستطيع أن نتركهم خلفنا. نُحبّها لأنّنا نعرف أنّ تحت هذا الركام شعبًا لم يمت، ولم يستسلم، ولم يُمحَ من الوجود. هناك عيونٌ لا تزال تلمع بالأمل، وقلوبٌ تنبض بالمقاومة، وعقولٌ تُفكّر في مستقبلٍ يُنتَزع انتزاعًا.

الحبّ الحقيقي للوطن ليس في رفع الشعارات، بل في الصبر على أذاه، والعمل على تغييره. ليس في مديح الحاكم، بل في فضح ظلمه. ليس في التماهي مع القهر، بل في مقاومته. أن تُحبّ وطنًا لا يُحبّك، لا يعني أن تسكت، بل أن تصرخ باسمه حتى يسمعك، أن تكتب له رغم الرقابة، أن تسكنه رغم ما فعله بك.

نحن لا نعيش في وطن، بل في جرحٍ مفتوحٍ اسمه مصر. ومع ذلك، نُحارب كي نُعيد إليه الحياة، لا لأنّنا مغفّلون، بل لأنّنا أبناء وطنٍ يستحقّ أن يُولد من جديد. وحتى لو تأخّر الفجر، نحن نزرع له الطريق.



#إسلام_حافظ_عبد_السلام (هاشتاغ)       Eslam_Hafez#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -حين يصبح الإنسان خبراً عابراً-
- -ميزان الإنسان في عالم بلا ميزان-
- نزيف خلف القضبان
- الفاجومي: شاعر لم يركع وكلمة لا تموت
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -4/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -3/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -2/10-
- -من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -1/10-
- الإمارات والسودان: كيف ساهم المال والسلاح في تمزيق وطن؟
- البلشي صوت المقاومة في وجه دولة القمع
- ٦ ابريل من شرارة الغضب الي قلب الثورة
- العيد جانا والمعتقلين مش معانا
- مصر بين القمع السياسي والانهيار الاقتصادي: شعبٌ يدفع الثمن و ...
- معاوية مؤسس الاستبداد الأول في تاريخ الإسلام
- -رمضان في السجون المصرية: آلاف المعتقلين بين القهر والحرمان-
- مجزرة الدفاع الجوي: عشر سنوات على الجريمة والعدالة الغائبة
- مذبحة بورسعيد.. جريمة العسكر التي لن يغفرها التاريخ
- -المنفى وطنٌ من رماد-
- إضراب ليلي سويف: صرخة أمٍّ في وجه الظلم
- 25 يناير: أنشودة الحرية التي لا تموت


المزيد.....




- ردّا على ترامب.. الكنديون يلغون رحلاتهم إلى أمريكا.. من يدفع ...
- الجيش الإسرائيلي: قتلنا قائدا آخر بفيلق القدس.. ونخوض -واحدة ...
- لماذا رشحت باكستان ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام؟
- تايمز: أوكرانيا تلجأ لحل غير تقليدي لتعويض النقص بالجنود
- كاتب أميركي: 4 أسئلة حاسمة على ترامب التفكير فيها قبل الضربة ...
- إجلاء رعايا عرب وغربيين وصينيين من إيران
- على وقع الاقتحامات.. انطلاق امتحانات الثانوية العامة بالضفة ...
- تحذير خليجي من استهداف المنشآت النووية بإيران
- كاتب إسرائيلي: لهذه الأسباب الثلاثة تفشل إسرائيل في غزة
- عاجل | الجيش الإسرائيلي: نهاجم حاليا بنية تحتية عسكرية في جن ...


المزيد.....

- كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف / اكرم طربوش
- كذبة الناسخ والمنسوخ / اكرم طربوش
- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - -مصر... الجرح الذي أحببناه-