أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - -حين يصبح الإنسان خبراً عابراً-














المزيد.....

-حين يصبح الإنسان خبراً عابراً-


إسلام حافظ
كاتب وباحث مصري

(Eslam Hafez)


الحوار المتمدن-العدد: 8359 - 2025 / 5 / 31 - 18:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في الزمن الذي أصبح فيه كل شيء قابلاً للتداول، من المعاناة وحتى الموت، تبدو الإنسانية كمفهوم أخلاقي في حالة انسحاب بطيء من الوعي العام. ليست الإنسانية هي التي ماتت، بل نحن من نزعنا عنها قدسيتها، جرّدناها من سياقها، ثم وضعناها على الرفّ إلى جوار باقي "الكلمات الثقيلة" التي نستخدمها كديكور لغوي في الخطب الرسمية أو شعارات الحملات الدولية. لقد صارت الإنسانية مصطلحًا هشًا، يتردد بإفراطٍ لكنه يُمارَس بندرة، نناجيه وقت الكوارث، ثم نتخلّى عنه عندما تقتضي الضرورة السياسية أو المصلحة الاستراتيجية.

كصحفي، لم يعد السؤال الأهم هو "ما الذي حدث؟"، بل "ما الذي لم نعد نراه؟"، أو بتعبيرٍ أكثر خطورة: "ما الذي توقفنا عن الإحساس به؟". لأن أخطر ما في الانهيار الإنساني ليس الوحشية، بل الاعتياد. أن نرى المجازر بالصوت والصورة، فنكتفي بهزّ الرأس، أو بكتابة تغريدة، ثم نواصل التمرير السريع عبر الشاشات. أن تمرّ صور الأشلاء والأمهات المكلومات والأطفال المحروقين كأنها مقاطع من فيلم قديم شاهدناه ألف مرة، وفقدنا تجاهه أي استجابة وجدانية.

الإنسانية ليست شفقة لحظية، ولا تَأثُّرًا سريعًا بمشهد صادم، بل موقف أخلاقي جذري من العالم. هي تعبير عن تصورنا للآخر، أيًا كان لونه أو دينه أو جنسيته، وعن مكانة الإنسان داخل المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وإذا أردنا أن نكون دقيقين، فإننا نعيش اليوم في منظومة نُزعت منها مركزية الإنسان. لا شيء في عالمنا المعولم يضع الفرد ـ بوصفه قيمة في حد ذاته ـ في قلب القرار. بل إن الإنسان يُقاس الآن بموقعه من السلطة أو السوق: مواطن من الدرجة الأولى إذا كنت تنتمي للدول الغنية، ومنسيّ بلا اسم إذا كنت تنتمي لأطراف الخرائط أو ما يُسمى بالمناطق الرمادية.

ولعل أكبر اختبارات الإنسانية تحدث اليوم على أطراف هذا العالم الذي يدّعي التنوير: في معسكرات اللاجئين، في السجون، على الحدود المغلقة، في المدن التي تُقصف بلا هوادة، في الزنازين المعتمة التي تُعذَّب فيها الحقيقة قبل الجسد. هناك، في العتمة، تُختبر الشعارات الكبرى. لا تحت أضواء المؤتمرات، بل في قدرة العالم على رؤية الإنسان، لا كمشكلة أمنية، بل ككائن يستحق الحياة دون شروط.

لقد أصبح من السهل اليوم أن تُباد مدينة، أو تُمحى قرية من الوجود، ثم تتحول المأساة إلى "تطور ميداني" في نشرات الأخبار. يموت مئات الأطفال في غزة، في السودان، في اليمن، ثم يُقال: "تجدد الاشتباكات". يُقصف المستشفى، فنُسميه "خطأً غير مقصود". يُعتقل الآلاف بلا تهمة، فنقول "إجراءات أمنية". لقد تواطأنا جميعًا، بدرجات متفاوتة، على تفريغ اللغة من معناها، وعلى جعل المأساة مقبولة طالما أن وقعها الصوتي صار مألوفًا.

في ظل هذا الانحدار، هل من المفاجئ أن تتحول الصحافة – التي وُلدت لتكون سلطة أخلاقية رابعة – إلى وسيط مشلول أو متواطئ؟ كم من غرف الأخبار باتت تدير الأزمات بمنطق السوق؟ كم من القنوات تُحدد زاوية التغطية بناءً على هوية الضحية، لا على فداحة الجريمة؟ كم من الصحفيين حوّلوا الكارثة إلى "فرصة مهنية"؟ كم منهم أصبحوا جزءًا من ماكينة التعليب البشري التي لا ترى في الإنسان سوى مادة قابلة للتداول؟

لكن رغم ذلك، لا يمكننا أن نعمم. لا تزال هناك مساحات صغيرة، ضيقة كالأمل، يُمارس فيها الصحفيون عملهم كمهمة وجودية، لا كمهنة. لا يزال هناك من ينقل صوت الضحية لا لابتزاز العاطفة، بل لاستعادة المعنى. لا يزال هناك من يكتب وهو يعلم أنه بذلك يعرّض نفسه للخطر، لكنه يكتب لأنه قرر ألا يصمت، لأن الصمت أخطر. أولئك لا يحتلون الشاشات، لكنهم يحفرون في الوجدان.

الإنسانية في الصحافة ليست مجرد مصطلح أخلاقي، بل بوصلة تحدد أين تقف: مع السلطة أم مع الحقيقة؟ مع القاتل أم مع من يُقتل؟ مع الرواية الرسمية أم مع الوجوه التي لم تُروَ حكايتها؟ ليست مهنة الصحفي أن يوثق فقط، بل أن يُربك الرواية المُعلّبة، أن يُزعج الصمت العالمي، أن يجرّح الضمير المستكين.

والمفارقة أن الإنسانية لا تحتاج إلى جهد خارق، بل إلى شجاعة بسيطة: أن ترى الإنسان كما هو، لا كما يُراد لك أن تراه. أن ترفض تصنيف الضحايا. أن تضع نفسك مكانهم، لا فوقهم. أن تعتبر كرامة جسد غريب تُمزّقه القنابل أهم من سردية تبريرية تُقنعك بأن هذا القتل ضروري. أن تكتب لا فقط لتخبر، بل لتقول: "هذا لا يجب أن يحدث". أن تقول: "أنا مسؤول"، حتى إن لم تكن أنت الفاعل.

إننا نعيش اليوم أخطر أنواع الخسارات: خسارة المعنى. لقد صار بإمكانك أن تقتل، وتُبرر، وتكمل يومك بشكل طبيعي. أن تُسحق مدينة، وتُنقل مجرياتها كأنها مباراة كرة. أن يختفي آلاف المعتقلين، دون أن يشعر أحد بثقل الغياب. هذا هو السقوط الأخلاقي الذي لا تُعوضه أي حضارة.

ربما، في هذا الظلام، تبدو الإنسانية وكأنها صرخة بلا صدى. لكنها تظل، رغم كل شيء، الفعل الأكثر راديكالية. أن تؤمن بها، أن تدافع عنها، أن تكتب باسمها، يعني أنك لم تُهزم بالكامل بعد. في زمن القسوة المنظّمة، تصبح الرحمة تمرّدًا. وفي عصر الشاشات المتخمة بالألم المنزوع من سياقه، يصبح الصدق فعلاً ثوريًا.

الإنسانية ليست حلمًا طوباويًا. إنها التزام واقعي، شديد الصعوبة، لكن لا غنى عنه. لأنها الخط الفاصل بين أن نكون بشرًا أو أن نصبح آلات تُبرمج على الصمت، على الإنكار، على التغاضي. وحين تنهار الإنسانية، لا ينهار الضحايا وحدهم، بل نحن جميعًا، ككائنات خسرَت قدرتها على الاعتراف، وعلى الغضب، وعلى الحزن.

وفي لحظة الصمت الكبرى التي يعيشها هذا العالم، يكفي أن يظل هناك من يكتب، لا ليُعزي، بل ليذكّر: أن الإنسان ليس خبراً، وليس رقماً، وليس فائضًا عن الحاجة. الإنسان هو المعنى. وكل شيء بعده، تفاصيل.



#إسلام_حافظ_عبد_السلام (هاشتاغ)       Eslam_Hafez#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -ميزان الإنسان في عالم بلا ميزان-
- نزيف خلف القضبان
- الفاجومي: شاعر لم يركع وكلمة لا تموت
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -4/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -3/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -2/10-
- -من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -1/10-
- الإمارات والسودان: كيف ساهم المال والسلاح في تمزيق وطن؟
- البلشي صوت المقاومة في وجه دولة القمع
- ٦ ابريل من شرارة الغضب الي قلب الثورة
- العيد جانا والمعتقلين مش معانا
- مصر بين القمع السياسي والانهيار الاقتصادي: شعبٌ يدفع الثمن و ...
- معاوية مؤسس الاستبداد الأول في تاريخ الإسلام
- -رمضان في السجون المصرية: آلاف المعتقلين بين القهر والحرمان-
- مجزرة الدفاع الجوي: عشر سنوات على الجريمة والعدالة الغائبة
- مذبحة بورسعيد.. جريمة العسكر التي لن يغفرها التاريخ
- -المنفى وطنٌ من رماد-
- إضراب ليلي سويف: صرخة أمٍّ في وجه الظلم
- 25 يناير: أنشودة الحرية التي لا تموت
- -عصر السيسي الذهبي للنساء: أكذوبة تُخفي القمع والاستغلال-


المزيد.....




- زيلينكسي: الهجوم على روسيا الأحد هو -الأبعد مدى- من جانب أوك ...
- مرشحا الرئاسة في بولندا يعلنان الفوز والفارق ضئيل في النتائج ...
- مكتب التحقيقات الفيدرالي يفتح تحقيقا في -هجوم إرهابي- استهدف ...
- موجة اختطافات تستهدف أثرياء شركات العملات الرقمية في فرنسا
- أطباء بلا حدود تحمل مؤسسة أمريكية مسؤولية الفوضى وسقوط قتلى ...
- فيديو متداول لضربات أوكرانية على -مصنع صواريخ- في موسكو.. هذ ...
- إصابات في هجوم بزجاجات حارقة على فعالية مؤيدة لإسرائيل في كو ...
- وزير التجارة الأمريكي: ترامب لن يمدد تعليق سريان الرسوم
- رئيس الوزراء القطري يلتقي قادة -حماس- في الدوحة للوصول إلى و ...
- -فيروسات الزومبي: خرافة أم حقيقة؟-.. بروفيسور روسي شهير يجيب ...


المزيد.....

- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - -حين يصبح الإنسان خبراً عابراً-