أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - -ماسبيرو.. حين دهس الوطن أبناءه وسار فوق الحلم-














المزيد.....

-ماسبيرو.. حين دهس الوطن أبناءه وسار فوق الحلم-


إسلام حافظ
كاتب وباحث مصري

(Eslam Hafez)


الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 04:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


حتى لا ننسى التاسع من أكتوبر 2011، ذلك اليوم الذي انكشفت فيه حقيقة العلاقة الملتبسة بين الحلم والوطن، بين الإنسان والدولة، بين العدالة والسلطة. كان اليوم الذي دهست فيه المدرعات أجسادًا خرجت تطلب فقط أن تُرى، أن يُعترف بإنسانيتها، أن تُعامل كجزء من الكل لا كظلٍّ على هامش التاريخ. لم يكن في شوارع القاهرة حينها سوى الحلم عاريًا، يسير على قدمين يحمل صليبًا وزهرة، يواجه آلة لا تعرف إلا صوت الأوامر. لم يكن في نية أحدٍ أن يُشعل حربًا، كانوا فقط يريدون وطنًا يتسع لهم كما يتسع للجميع، وطنًا لا يميّز بين صلاةٍ تُرفع على مئذنة وأخرى تُرفع أمام مذبح. لكن ما حدث في ماسبيرو لم يكن اشتباكًا بين متظاهرين وجيش، بل كان اشتباكًا بين رؤيتين للعالم: رؤية ترى الإنسان قيمةً مطلقة، وأخرى تراه تفصيلًا يمكن شطبه من المشهد متى شاءت السلطة.

في لحظةٍ واحدة، سقطت الأجساد تحت عجلات الحديد، وتحوّل المكان الذي كان من المفترض أن يكون رمزًا للإعلام والحرية إلى مرآةٍ عاكسةٍ للدم والخذلان. لم تكن المذبحة مجرد جريمة، بل كانت إعلانًا صامتًا عن أن الثورة التي حلمنا بها لم تُهزم في السياسة فقط، بل في الأخلاق والوعي والذاكرة. فقد انكشفت هشاشة ما كنا نظنه وعيًا جديدًا، واتضح أن الدولة القديمة لم تمت، بل غيرت قناعها فقط، لتطلّ علينا بوجه أكثر برودًا، وجهٍ يعرف كيف يبرر القتل، وكيف يصنع من الضحية متهمًا ومن الجاني بطلاً.

إن مأساة ماسبيرو ليست فقط في عدد من دهستهم المدرعات، بل في ما دهسته في داخلنا من معانٍ. دهست الحلم بالوطن الواحد، واليقين بالعدالة، والإيمان بأن الثورة يمكن أن تُطهّر الروح العامة من الخوف والتمييز. دهست فكرة المواطنة ذاتها، حين صار الدم يقاس بحسب العقيدة، وصار القتل يُبرَّر باسم الأمن، وكأن العدالة يمكن أن تولد من رحم الرعب. من يومها، بدأنا نكبر نحو الخلف، نكبر نحو الخوف، نعيد ترميم الجدران التي ظننا أننا هدمناها في يناير، ونُشيّد من جديد جدران الصمت.

لكن الذاكرة لا تُقتل بالإنكار. كلما حاولت السلطة دفن الحقيقة، خرجت الحقيقة من القبر أوسع وأوضح. كلما أُغلقت ملفات العدالة، فتحتها القلوب التي لم تنسَ. فدماء ماسبيرو ليست حدثًا من الماضي، بل شاهد على أن الماضي نفسه ما زال يحكم الحاضر. إن مذبحةً كهذه لا تُقاس فقط بضحاياها، بل بما خلّفته من تشوهٍ في ضمير الأمة. لأن الوطن الذي لا يعترف بأخطائه محكوم عليه أن يعيدها، والوطن الذي يخاف من الحقيقة، يخاف من نفسه.

بعد أربعة عشر عامًا، تغيّرت الوجوه وتبدلت الشعارات، لكن المأساة باقية في جوهرها: ما زال الإنسان في هذا الوطن يُقاس بموقعه من السلطة لا بإنسانيته، وما زالت الدولة تتعامل مع المختلف كتهديد لا كجزءٍ من الذات. وما زال الإعلام، الذي كان يومًا منصة للحلم، سلاحًا يُوجَّه نحو الوعي، يخبرنا كل يوم كيف ننسى، وكيف نغفر دون أن نحاسب، وكيف نرى في المذبحة “حادثًا مؤسفًا” بدل أن نراها جريمة مكتملة الأركان.

لكن هناك ما لا يمكن محوه: أن الذين خرجوا يومها لم يخرجوا ليأخذوا شيئًا، بل ليعطوا الوطن معنى. لم يطلبوا سلطة، لم يسعوا إلى مال أو مكسب، خرجوا بملابس بيضاء لأنهم ظنوا أن البياض لغة الطهارة، وأن النية الصافية تحميهم. لم يدركوا أن في الأوطان المريضة، النقاء خطر، وأن الحلم في بلادٍ كهذه فعل شجاعةٍ أقرب إلى الجنون. كانوا يحلمون بكنيسةٍ في كل مكان يحتاج كنيسة، وبسماءٍ واحدة تظل الجميع، وبمصرٍ تشبه ما غنّوه وما صلّوا من أجله. كانت قلوبهم خفيفة كأنها تسير على الماء، لكن المدرعات لا تعرف خفة القلب، تعرف فقط ثقل الحديد.

ماسبيرو لم يكن حادثة، كان نبوءة. نبوءةً لما سيأتي بعدها من أعوامٍ يُدهس فيها الحلم مرارًا، وتُقتل العدالة بألف طريقةٍ قبل أن تصل إلى قوس المحكمة. كل ما جرى بعدها كان امتدادًا لذلك اليوم، حيث الموت لم يعد مفاجئًا بل متوقعًا، وحيث الوطن صار آلةً تطحن أبناءه وتسمّي ذلك “حفاظًا على النظام”.

وإذا كان الزمن قد ابتلع كثيرًا من أصوات الصراخ، فإن الأرض لم تبتلع الدم. الدم لا يشيخ، ولا يصير ذكرى. يظل هناك، في باطن الوطن، يسأل عن معنى العدالة، عن معنى أن تكون الدولة حارسة للحياة لا شريكة في القتل. سيبقى ماسبيرو شاهدًا على لحظةٍ انقسمت فيها مصر إلى صورتين: مصر الحلم ومصر الخوف، مصر الإنسان ومصر السلطة.

ربما لن نعرف يومًا إن كانت العدالة ستتحقق، لكن ما نعرفه أن الذاكرة هي الشكل الأول من أشكال العدالة. أن نتذكر يعني أن نقاوم النسيان، أن نعيد للضحايا أسماءهم بعد أن حاولت السلطة تحويلهم إلى أرقام. أن نتذكر يعني أن نمنع القتل الثاني، القتل بالسكوت. فحين يصمت الجميع، يكون أول صوتٍ يجب أن يُسمع هو صوت الدم وهو يقول: “كنتُ هنا”.

وسيأتي يوم — حتى لو تأخر — يستيقظ فيه الوطن من نومه الثقيل، يفتح عينيه ليرى وجوه من دهسهم، يسمع أصواتهم التي لم تزل تردد نشيد الحلم: “نريد وطنًا يتسع للجميع”. يومها فقط سيعود الحلم من تحت الركام، وستتفتح الزهور من بين الحديد، وسيعرف هذا الوطن أن العدالة ليست انتقامًا، بل تصالح مع النفس ومع التاريخ. وحتى ذلك الحين، سيبقى التاسع من أكتوبر ندبة على جبين مصر، تذكّرها كل عام أن الأوطان لا تُبنى بالدهس، بل بالاعتراف، وأن الدم لا يجفّ إلا حين تُقال الحقيقة كاملة، دون خوف ودون كذب.



#إسلام_حافظ_عبد_السلام (هاشتاغ)       Eslam_Hafez#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -نصف المجتمع....كل المأساة-
- في مملكة الرمل… حيث يُدار الخراب بأيدٍ ناعمة
- -مصر... الجرح الذي أحببناه-
- -حين يصبح الإنسان خبراً عابراً-
- -ميزان الإنسان في عالم بلا ميزان-
- نزيف خلف القضبان
- الفاجومي: شاعر لم يركع وكلمة لا تموت
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -4/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -3/10-
- من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -2/10-
- -من البشير إلى البرهان وحميدتي: حكاية وطن مختطف -1/10-
- الإمارات والسودان: كيف ساهم المال والسلاح في تمزيق وطن؟
- البلشي صوت المقاومة في وجه دولة القمع
- ٦ ابريل من شرارة الغضب الي قلب الثورة
- العيد جانا والمعتقلين مش معانا
- مصر بين القمع السياسي والانهيار الاقتصادي: شعبٌ يدفع الثمن و ...
- معاوية مؤسس الاستبداد الأول في تاريخ الإسلام
- -رمضان في السجون المصرية: آلاف المعتقلين بين القهر والحرمان-
- مجزرة الدفاع الجوي: عشر سنوات على الجريمة والعدالة الغائبة
- مذبحة بورسعيد.. جريمة العسكر التي لن يغفرها التاريخ


المزيد.....




- ترامب يعلق على دعوة نتنياهو لإلقاء كلمة في الكنيست
- الداعم الأكبر لإسرائيل قد يلتهم تيك توك.. ما قصة الملياردير ...
- غوتيريش يدعو جميع الأطراف إلى الالتزام الكامل باتفاق غزة
- سكان غزة يحتفلون في الشوارع باتفاق وقف الحرب
- مستشار ألمانيا يحذر من تهديد المسيّرات ودول من الناتو تجري ت ...
- البيت الأبيض: ترامب سيخضع لفحص طبي هذا الأسبوع
- التوصل إلى اتفاق لوقف كامل لإطلاق النار في غزة
- ترامب: إسرائيل وحماس وقعتا على أولى مراحل خطتنا للسلام
- -حماس- تعلن توصلها إلى اتفاق مع إسرائيل لإنهاء -حرب غزة-
- أول تعليق من نتنياهو بعد التوصل إلى اتفاق مع -حماس- بشأن غزة ...


المزيد.....

- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إسلام حافظ - -ماسبيرو.. حين دهس الوطن أبناءه وسار فوق الحلم-