أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - القيادة بين الصرامة والغرور














المزيد.....

القيادة بين الصرامة والغرور


رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)


الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 14:23
المحور: قضايا ثقافية
    


القيادة من الظواهر الإنسانية العميقة التي تجمع بين البعدين الفردي والجماعي، فهي من جهة تعبير عن طموح الإنسان للتميز وتحمل المسؤولية، ومن جهة أخرى ضرورة اجتماعية لتنظيم العمل وضبط العلاقات داخل الجماعة. فالمجتمع – كما يؤكد علماء الاجتماع – لا يمكن أن يستقيم من دون وجود قيادة، إذ لا بد من شخص أو مجموعة تمتلك سلطة القرار والتوجيه حتى تسير الأمور باتزان. لكن هذا الموقع الذي يحتله القائد ليس مجرد وظيفة إدارية، بل هو موقع نفسي وسلوكي يُحدث تحولاً في شخصية صاحبه وفي نظرته إلى ذاته والآخرين.

يرى علم الاجتماع أن القيادة تنشأ نتيجة التفاعل بين القائد والجماعة، فهي ليست صفة فطرية خالصة ولا مكتسبة بالكامل، بل مزيج بين استعداد شخصي وفرص اجتماعية. فالقائد الناجح هو الذي يتمكن من قراءة حاجات الجماعة والتعبير عنها، فيمنحونه ثقتهم ويقبلون سلطته طواعية. لكن حين تتحول هذه السلطة إلى أداة لفرض الإرادة دون مشاركة، يبدأ الخلل الاجتماعي في الظهور، وتتحول القيادة من علاقة ثقة إلى علاقة هيمنة. وهنا تبدأ المسافة بين الصرامة والغرور بالاتساع، إذ يظن القائد أن احترام الجماعة له نابع من الخوف لا من التقدير، فيميل إلى التشدد أكثر ظناً منه أن الحزم هو الوسيلة الوحيدة للسيطرة.

أما علم النفس فيقدّم تفسيراً دقيقاً لهذا التحول، إذ يرى أن الإنسان حين ينتقل من موقع المأمور إلى موقع الآمر، تتغير آليات إدراكه للذات والآخر. فالقوة والمكانة تثيران في النفس ميولاً دفينة نحو السيطرة والتميز، وهي ميول طبيعية إذا ظلت في حدودها، لكنها قد تتضخم عند بعض الأفراد فتنقلب إلى شعور بالاستعلاء. يشير علماء النفس إلى ظاهرة تُعرف بـ"تأثير المنصب" (The Power Effect) حيث يؤدي الإحساس بالسلطة إلى تغيّر في طريقة التفكير واتخاذ القرار. فالقائد قد يشعر بأنه أكثر علماً وكفاءة من الآخرين، فيقلّ استماعه للنقد، ويزداد تمسكه برأيه حتى دون مبرر منطقي. وهنا تظهر ملامح الغرور التي تباعد بينه وبين جماعته، وتحوّل القيادة إلى تسلط، والهيبة إلى نفور.

ومن منظور علم النفس الاجتماعي، فإن القائد الذي يعيش ضمن بيئة تضعه في موضع القداسة أو الإطراء المستمر يكون أكثر عرضة لهذا الانحراف، لأن الجماعة تساهم – من حيث لا تشعر – في تضخيم "الأنا" لديه عبر المديح والإطراء، مما يولّد لديه إحساساً زائفاً بالعصمة والكمال. بينما القائد الذي يتلقى النقد البناء ويتعامل مع بيئة تتيح له الحوار والمراجعة، يظل أكثر تواضعاً واتزاناً، لأن وعيه بذاته يتغذى على التفاعل الواقعي لا على التصفيق.

ويؤكد علماء الاجتماع أيضاً أن القائد يعيش صراعاً داخلياً بين انتمائه للجماعة وخصوصية موقعه منها، فهو مطالب بأن يكون مثلهم في القيم والسلوك، ومختلفاً عنهم في القرار والمسؤولية. هذا الصراع يولّد ما يُعرف بـ"العزلة القيادية"، وهي حالة يشعر فيها القائد بأنه لا يستطيع التعبير عن ضعفه أو مشاعره الطبيعية حتى لا يُفهم ذلك على أنه ضعف في القيادة. ومع الوقت، قد تتحول هذه العزلة إلى جدار نفسي يعزله عن الناس، فيفقد التعاطف ويغلب عليه الجمود، وهنا تتحول الصرامة التي كانت ضرورية إلى قسوة لا مبرر لها.

إن القيادة الحقيقية، في نظر علماء النفس والاجتماع، ليست في إصدار الأوامر ولا في فرض الهيبة، بل في القدرة على الإقناع والتأثير الإيجابي. القائد الناجح هو الذي يفرض احترامه بخلقه وعدله لا بصوته العالي أو سلطته، وهو الذي يدرك أن الصرامة وسيلة لضبط العمل لا لإلغاء شخصية الآخرين. فحين يوازن القائد بين العقل والعاطفة، بين الحزم والرحمة، وبين السلطة والخدمة، فإنه يحقق المعادلة الأصعب: قيادة إنسانية فعّالة تحفظ هيبته وتكسبه قلوب الناس في آنٍ واحد.

إن الخطر الأكبر على أي قائد أن يصدق أنه فوق النقد، أو أن مكانته تمنحه امتيازاً أخلاقياً على من حوله، لأن اللحظة التي يختفي فيها التواضع من قلب القائد هي ذاتها التي تبدأ فيها نهايته المعنوية. فالتاريخ ملئٌ بقادة ظنوا أن هيبتهم عصمة، فغابت عنهم البصيرة وسقطوا في فخ الغرور. أما الذين فهموا القيادة على أنها مسؤولية ورسالة، فخلّدهم الناس بعد رحيلهم لأنهم جمعوا بين القوة والرحمة، وبين الصرامة التي تحفظ النظام والتواضع الذي يحفظ الإنسانية.

وهكذا تبقى القيادة ميداناً لاختبار النفس البشرية في أعلى صورها، فهي مرآة تكشف معدن الإنسان حين يُمنح القوة، وتظهر إن كان قادراً على أن يكون سيد نفسه قبل أن يكون سيداً على غيره.



#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)       Raheem_Hamadey_Ghadban#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ترامب بين السياسة والتجارة صفات لا أتفاقات
- الوهم والأيهام بين الإدراك والتأثير الأجتماعي
- جذور الانتماء بين الغريزة والوعي من العائلة إلى الوطن
- بين الغريزة والعقل هل يضبط الأنسان سلوكه
- مفهوم الثقافة والحضارة
- السيطرة والقيادة بين الأرادة والقيم
- مستقبل الدولة الفلسطينية
- جيل Z العربي بين النهوض وضياع الهوية
- كرم الصمت
- مكارم الأخلاق والقيم عند الشعوب في عصر العولمة الحديثة
- البيروقراطية الأدارية
- التصعيد الأوربي ضد روسيا هل هو اشارة لحرب على الأبواب؟
- من بلفور إلى بلير .دولة أسرائيل الكبرى
- أعمار غزة بين العدوان والأبتزاز السياسي
- التأمر الخارجي والداخلي في مسار الدولة الأسلامية والأمة العر ...
- الأمن الوقائي ودور المواطن
- رمزية الخوف في النفس البشرية
- المملكة العربية السعودية وأنتزاع الأعتراف الدولي بدولة فلسطي ...
- التسويق السياسي في السياسة الأمريكية والغربية
- التبني وأثاره على المتبنى بين الأيجابية والسلبية


المزيد.....




- لماذا -بيكاسو الهند- يحطم الأرقام القياسية في المزادات ويُثي ...
- الكويت.. فيديو ضبط مزرعة ماريغوانا بأحد المنازل والداخلية تك ...
- فيديو منسوب لـ-موكب رئيس المخابرات المصرية في إسرائيل-.. ما ...
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة والصين على بعد خطوة واحدة من ...
- خسائر كبيرة في القطاع الزراعي بسبب الحرب الإسرائيلية على لبن ...
- المشي مرتين أسبوعيا يحمي قلبك
- الكشف عن جينات مسؤولة عن حدوث عيوب القلب لدى مرضى متلازمة دا ...
- مدينة قابس التونسية.. حيث تختنق الواحة تحت رماد المصانع
- المستوطنون يواصلون اعتداءاتهم على قاطفي الزيتون والاحتلال يع ...
- صديق -مجهول- لترامب يتبرع لتغطية رواتب الجيش في ظل الإغلاق


المزيد.....

- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - القيادة بين الصرامة والغرور