أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - كرم الصمت














المزيد.....

كرم الصمت


رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)


الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 00:11
المحور: قضايا ثقافية
    


قد يختار الإنسان في كثير من الأحيان أن يخفي ألمه خلف ابتسامة هادئة، وأن يدفن حزنه في أعماق قلبه لا خوفاً من الناس أو رهبة من نظرات المجتمع، بل حباً ورحمة بمن حوله، حتى لا يثقل على أحبته بمشاعره أو يُقلق قلوبهم بوجعه، وكأن في كتمانه للألم نوعاً من الكرم الروحي، وجوداً بالنفس لا يُدركه إلا من ذاق مرارة الصمت وهو يتلوّى من الداخل. إن هذا السلوك، وإن بدا للبعض ضعفاً أو تكلّفاً، إلا أنه في جوهره صورة راقية من صور الإيثار الإنساني، إذ يفضّل الإنسان أن يتحمّل وحده الألم على أن ينقله إلى من يحب. غير أن التساؤل المشروع الذي يثور هنا هو: هل يُدرك الطرف الآخر هذا الجود؟ هل يعلم أن ذلك الوجه الصامت يخفي وراءه معاناة عميقة؟ أم أن الإنسان الذي يخفي حزنه يُدان أحياناً بأنه بارد، أو غير مبالٍ، أو خالٍ من العاطفة؟
لقد تحدّث الفيلسوف الألماني نيتشه عن هذا النوع من البشر حين قال: "أعمق الأحزان لا يمكن أن تُقال، فهي تسكن في أعماق النفس مثل لؤلؤة في صدفة مغلقة". فصاحب الحزن العميق لا يصرّح به عادةً، لأنه يعلم أن لا أحد يستطيع أن يشعر بمرارة وجعه تماماً كما يشعر هو. وكذلك كتب الفيلسوف الروسي دوستويفسكي قائلاً: "هناك أشخاص يخفون ألمهم بابتسامة، لأنهم يكرهون أن يشفق عليهم أحد". هؤلاء الناس لا يطلبون مواساة، ولا يسعون لاهتمام زائف، بل يخشون أن يتحوّل حزنهم إلى عبء على غيرهم.
في الحياة الواقعية نرى أمثلة كثيرة على هذا النوع من الجود بالنفس، فالأم التي تبتسم أمام أطفالها وهي تتألّم داخلياً خوفاً عليهم، أو الأب الذي يخفي عجزه المالي كي لا يشعر أبناؤه بالنقص، أو الصديق الذي يواسي الجميع بينما ينام ليلاً مثقلاً بالهموم، كلهم يمارسون هذا الكرم الصامت. إنهم يمنحون الطمأنينة للآخرين على حساب راحتهم، ويُخفون كسورهم كي لا تتهشّم قلوب من يحبون.
إلا أن المشكلة تكمن في أن المقابل لا يدرك دوماً عمق هذا الجود، فالصمت يُساء فهمه في كثير من الأحيان. قد يُظنّ أن الهادئ لا يتألم، وأن المتماسك لا يحتاج، وأن الصامت مكتفٍ، بينما الحقيقة أنه ربما يعيش معركة داخلية قاسية. يقول المفكر جبران خليل جبران: "من برع في إخفاء حزنه أتقن فن النقاء الزائف في أعين الناس". وهذا يعني أن من يخفي وجعه يخلق حوله صورة من القوة قد تجعله وحيداً في لحظات احتياجه الحقيقي، لأن الآخرين لن يشعروا بحاجته للعون.
إن الفلاسفة يرون أن هذا الإخفاء المفرط للألم قد يكون فضيلة في موضع، ورذيلة في موضع آخر. فهو فضيلة عندما يكون بدافع الرحمة والإيثار، ورذيلة عندما يتحوّل إلى إنكار للذات وتدمير داخلي. فالحكيم الصيني لاوتسو قال: "من يدفن ألمه في أعماقه، يسقي جذور الحزن دون أن يدري". أي أن الألم المكبوت لا يختفي، بل ينمو بصمت حتى يُرهق النفس. ولهذا يحتاج الإنسان إلى توازن دقيق بين أن يصون مشاعر أحبّته، وأن لا يقتل ذاته بالصمت الطويل.
ومع ذلك يبقى هذا الفعل ـ إخفاء الألم عن الآخرين حباً لهم ـ من أسمى صور التضحية الإنسانية، لأن فيه بعداً أخلاقياً نبيلاً يعكس الرحمة والكرم الداخلي، حتى لو لم يُفهم تماماً من الطرف المقابل. فالعظماء لا ينتظرون فهماً ولا شكراً، يكفيهم أنهم أدّوا ما تمليه إنسانيتهم. كما قال الفيلسوف طاغور: "الكرم ليس في أن تعطي مما تملك، بل أن تعطي مما تؤلمك خسارته". وهنا، من يخفي ألمه عن أحبته قد منحهم راحة على حساب روحه، وذلك أبلغ الكرم.
وهكذا، يظل الإنسان بين خيارين متناقضين: أن يُظهر حزنه فيُخفّف عن نفسه ويُحزن من يحب، أو أن يخفيه فيحفظ قلوب الآخرين ويُثقل قلبه هو. لكن ربما في هذا الصراع يكمن جوهر الإنسانية، لأن من يختار الصمت حفاظاً على الآخرين، إنما يعبّر عن أرقى معاني الحب الذي لا يُقال بالكلمات بل يُثبت بالفعل، بالدمعة المكبوتة، والابتسامة الصادقة رغم الألم.



#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)       Raheem_Hamadey_Ghadban#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مكارم الأخلاق والقيم عند الشعوب في عصر العولمة الحديثة
- البيروقراطية الأدارية
- التصعيد الأوربي ضد روسيا هل هو اشارة لحرب على الأبواب؟
- من بلفور إلى بلير .دولة أسرائيل الكبرى
- أعمار غزة بين العدوان والأبتزاز السياسي
- التأمر الخارجي والداخلي في مسار الدولة الأسلامية والأمة العر ...
- الأمن الوقائي ودور المواطن
- رمزية الخوف في النفس البشرية
- المملكة العربية السعودية وأنتزاع الأعتراف الدولي بدولة فلسطي ...
- التسويق السياسي في السياسة الأمريكية والغربية
- التبني وأثاره على المتبنى بين الأيجابية والسلبية
- غسيل الدماغ بين الواقع العلمي والخيال
- هل ستحصل الدوحة على حق الرد على أسرائيل؟
- أدارة الوقت بين ظاهرة التسويف وضغط اللحظات الأخيرة
- أمريكا ببن الجدار الأخضر والتخبط السياسي
- الأنسان بين الانتماء الطبيعي والمكتسب
- العدو الصغير والقائد الثائر
- القصف الأسرائلي على الدوحة بين الأستهتار الأسرائلي والخنوع ا ...
- أحتمالات المواجهة الفينزوالية الأمريكية وتأثيرها على الساحة ...
- الدور العراقي كوسيط في الملف الأيراني النووي هل يجدي بنفع؟


المزيد.....




- كحبيبين سابقين ودودين.. جينيفر لوبيز وبن أفليك معًا مجددًا ع ...
- ماذا قال نتنياهو في الذكرى الثانية لهجوم 7 أكتوبر؟
- المدن الداعمة للديمقراطيين في مرمى ترامب.. الحرس الوطني ينتش ...
- غرق قارب مهاجرين قبالة جزيرة ليسبوس ومصرع أربعة أشخاص
- بعد عامين على هجوم 7 أكتوبر... ترامب يرى -فرصة حقيقية- لإنها ...
- ما الجديد الذي يحمله المبعوث الأميركي في زيارته إلى سوريا؟
- -ما وراء الخبر- يناقش اتفاق حكومة دمشق و-قسد-
- الجنرال بريك: إذا لم يُوقَّع الاتفاق ستكون العواقب وخيمة على ...
- مسيّرات تضرب العمق الروسي وبوتين يستخف ويباهي بمكاسبه في أوك ...
- 12 شهيدا في غزة والاحتلال يواصل غاراته على القطاع


المزيد.....

- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - كرم الصمت