أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - جذور الانتماء بين الغريزة والوعي من العائلة إلى الوطن














المزيد.....

جذور الانتماء بين الغريزة والوعي من العائلة إلى الوطن


رحيم حمادي غضبان
(Raheem Hamadey Ghadban)


الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 20:38
المحور: قضايا ثقافية
    


الانتماء شعور عميق ومتجذر في النفس الإنسانية، يتجاوز حدود الجغرافيا ليصبح أحد أهم مقومات الوجود النفسي والاجتماعي للإنسان. فالوطن في جوهره ليس مجرد بقعة من الأرض يقيم عليها الإنسان، بل هو الإطار الذي يحتضن ذاكرته وتاريخه وهويته، وهو الامتداد الطبيعي لما يسكن النفس من حاجات إلى الأمان والاستقرار والتواصل. ومع ذلك، فإن مفهوم الانتماء يتعدد ويتدرج؛ فقد يكون إلى الأرض التي ولد عليها الإنسان ونشأ فيها، أو إلى الجماعة التي يتقاسم معها الإرث الثقافي والديني واللغوي، أو حتى إلى فكرة أو مبدأ يتبناه ويؤمن به.

من الناحية السايكلوجية، يُعدّ الانتماء حاجة أساسية من حاجات النفس البشرية، إذ يضعها عالم النفس "أبراهام ماسلو" في مرتبة وسطى ضمن هرمه للحاجات، بين الحاجات الفيزيولوجية وحاجات تحقيق الذات. فشعور الإنسان بأنه جزء من جماعة، وأن له جذوراً تمتد في تربة اجتماعية وثقافية معينة، يمنحه التوازن النفسي والطمأنينة الداخلية، ويكسر حاجز العزلة والخوف من الفقد. الانتماء في هذا المعنى ليس مجرد ميل عاطفي، بل هو وظيفة نفسية تحفظ تماسك الشخصية وتدعم قدرتها على التفاعل مع العالم.

أما السؤال عن ما إذا كان الانتماء غريزياً أم مكتسباً، فإنه يحمل في طياته عمق الفلسفة الإنسانية ذاتها. فبعض المفكرين يرون أن الانتماء غريزة أولى تنشأ مع الإنسان منذ ولادته، تماماً كما يغرس الحيوان ولاءه لموطنه أو مجموعته. فالأرض التي يفتح الإنسان عينيه عليها تصبح جزءاً من تكوينه العاطفي، يصعب اقتلاعه منها وإن غادرها جسداً. وهذا ما يعبّر عنه الشاعر محمود درويش بقوله: “وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافراً.” إلا أن هناك من يرى، ومنهم الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو"، أن الانتماء ليس غريزة بل نتاج تربية وثقافة تُغرس في النفس منذ الصغر عبر مؤسسات المجتمع كالأسرة والمدرسة والمجتمع. فالإنسان يولد صفحة بيضاء، وتبدأ مفاهيم الهوية والانتماء بالتشكل عبر التجارب والتعليم والتنشئة الاجتماعية، حتى يصبح الارتباط بالمكان أو الجماعة جزءاً من الوعي الجمعي الذي يربط الفرد بغيره.

وهكذا يمكن القول إن الانتماء مزيج معقد من الغريزة والتكوين الثقافي. فالأساس البيولوجي والنفسي يجعله حاجة فطرية نحو الأمان والتواصل، أما الوعي والتربية فيوجهان هذه الحاجة نحو إطار محدد: الوطن، الأمة، أو حتى الإنسانية جمعاء. وفي هذا السياق يقول الزعيم الهندي المهاتما غاندي: “وطني هو كل أرض يُعامل فيها الإنسان كإنسان.”، في إشارة إلى أن الانتماء قد يسمو فوق الحدود ليصبح التزاماً أخلاقياً تجاه القيم الإنسانية العليا.

ومن أجل فهم هذا الانتماء في أبعاده الاجتماعية، يجب أن نتوقف عند مكوناته الأساسية. فالفرد هو الوحدة الأولى في البناء الاجتماعي، وهو الكائن الإنساني الذي يمتلك إرادةً ووعياً وقدرةً على التفكير والتفاعل مع الآخرين. والعائلة هي النواة الأولى التي يتلقى فيها الإنسان معاني الحب والانتماء والمسؤولية، وفيها يتعلم القيم والسلوكيات التي ستشكّل أساس تفاعله الاجتماعي لاحقاً. أما المجتمع فهو الكيان الأوسع الذي يضم عدداً كبيراً من الأفراد والعائلات المرتبطة فيما بينها بقوانين ونظم ومؤسسات تنظم العلاقات وتحقق العدالة والتكافل.

البيئة والمحيط بدورهما يشكلان الإطار الذي يعيش فيه الإنسان، ويؤثران على سلوكه وأفكاره وقيمه. فالبيئة تشمل كل ما يحيط بالفرد من عناصر مادية ومعنوية، بينما المحيط يمتد ليشمل العوامل الثقافية والإقليمية والعالمية التي تشكل رؤيته للوجود. أما القرابة فهي الروابط التي تجمع بين الأفراد على أساس النسب أو المصاهرة، وتشكل شبكة دعم اجتماعي ومعنوي تعزز الانتماء وتمنح الأفراد شعوراً بالاستقرار والهوية. ويأتي التواصل والصلة أو الرابطة ليعبّرا عن الجانب العملي والعاطفي في العلاقات، حيث يضمن التواصل استمرار التفاعل الإنساني، بينما تمنح الصلة بُعداً وجدانياً يجعل العلاقة أكثر عمقاً وصدقاً.

ومن هنا يمكن أن نفهم كيف تتشكل منظومة الانتماء داخل الإنسان عبر تفاعله مع هذه المستويات كلها. غير أن هذا التفاعل لا يكون دائماً منسجماً، فقد يحدث أن يجد الفرد نفسه في بيئةٍ معينة ولا يجدها داخل عائلته. فالإنسان قد يشعر أحياناً بأن أسرته لا تشاركه نفس القيم أو الاهتمامات أو طريقة التفكير، فيبدأ بالبحث عن بيئة بديلة — مدرسة، جماعة فكرية، دائرة أصدقاء، أو مجتمع ثقافي — يجد فيها مساحة للتعبير عن ذاته بحرية، ويشعر معها بالقبول والانتماء الحقيقي. هذه البيئة البديلة قد تمثل له “عائلة معنوية” تحقق التوازن النفسي الذي لم يجده في أسرته البيولوجية.

وقد أشار الفيلسوف إريك فروم إلى أن الإنسان لا يجد ذاته دائماً في من حوله، بل في من “يُشبه صوته الداخلي”، حتى وإن لم يربطه بهم دم أو نسب. ويرى عالم الاجتماع إميل دوركايم أن المجتمع الأوسع قد يمنح للفرد هوية أعمق من تلك التي منحته إياها الأسرة، لأن الروابط الحديثة لا تقوم فقط على النسب، بل على القيم المشتركة والاختيار الواعي. وهذا ما يسمى في علم النفس الاجتماعي بـ"الانتماء التعويضي"، أي أن الفرد يعوّض نقص القبول داخل الأسرة بانتماء جديد يوفر له الأمان النفسي والاعتراف بوجوده.

لكن هذا لا يعني القطيعة مع العائلة، بل يؤكد أن العائلة هي البداية وليست النهاية، فهي الأصل الذي منه يبدأ الإنسان رحلة البحث عن ذاته، وقد يتطور هذا البحث ليقوده إلى مجتمع أوسع أو وطن أكبر. فكل مستوى من هذه الدوائر — من العائلة إلى المجتمع إلى الوطن — يكمّل الآخر، ويصنع في النهاية هوية الإنسان وانتماءه.

وهكذا، يظل الانتماء مرآةً تعكس تفاعل الإنسان مع ذاته ومع محيطه، وصورةً من صور تلاحم الغريزة مع الثقافة. إنه ليس فقط ما نولد عليه، بل أيضاً ما نتعلمه ونؤمن به ونصونه في وعينا وذاكرتنا، لأنه ببساطة، كما قال أرسطو: “الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لا يعيش إلا بالانتماء.”



#رحيم_حمادي_غضبان_العمري (هاشتاغ)       Raheem_Hamadey_Ghadban#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الغريزة والعقل هل يضبط الأنسان سلوكه
- مفهوم الثقافة والحضارة
- السيطرة والقيادة بين الأرادة والقيم
- مستقبل الدولة الفلسطينية
- جيل Z العربي بين النهوض وضياع الهوية
- كرم الصمت
- مكارم الأخلاق والقيم عند الشعوب في عصر العولمة الحديثة
- البيروقراطية الأدارية
- التصعيد الأوربي ضد روسيا هل هو اشارة لحرب على الأبواب؟
- من بلفور إلى بلير .دولة أسرائيل الكبرى
- أعمار غزة بين العدوان والأبتزاز السياسي
- التأمر الخارجي والداخلي في مسار الدولة الأسلامية والأمة العر ...
- الأمن الوقائي ودور المواطن
- رمزية الخوف في النفس البشرية
- المملكة العربية السعودية وأنتزاع الأعتراف الدولي بدولة فلسطي ...
- التسويق السياسي في السياسة الأمريكية والغربية
- التبني وأثاره على المتبنى بين الأيجابية والسلبية
- غسيل الدماغ بين الواقع العلمي والخيال
- هل ستحصل الدوحة على حق الرد على أسرائيل؟
- أدارة الوقت بين ظاهرة التسويف وضغط اللحظات الأخيرة


المزيد.....




- نتنياهو يعلق على وصف ترامب له بأنه -ليس أسهل شخص يمكن التعام ...
- المغرب بلد أفريقي؟
- احتجاجات جيل زد 212 في المغرب: السجن بين 3 و15 عاما لـ17 شخص ...
- غزة:ما الذي يهدد اتفاق وقف الحرب؟
- إدريس اليزمي : حركة جيل زد 212 حريصة على التحرك السلمي وستسا ...
- حميميم وطرطوس.. البصمة العسكرية الروسية في سوريا
- الشرع في الكرملين: زيارة تاريخية تعيد رسم خريطة العلاقات الس ...
- غزة بعد الاتفاق مباشر.. القسام تسلم جثتي أسيرين وترامب يهدد ...
- لو ديبلومات: صراع نفوذ دولي على الصومال يقوض الرهان على استق ...
- -كتائب القسام- تصدر بيانا لتوضيح سبب عدم تسليم جميع رفات الر ...


المزيد.....

- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - رحيم حمادي غضبان - جذور الانتماء بين الغريزة والوعي من العائلة إلى الوطن