أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - مقهى على دجلة














المزيد.....

مقهى على دجلة


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 15:13
المحور: الادب والفن
    


حوار بين الغروب والحياة

في المدن التي تنزف منذ زمن، لا يتوقّف القلب عن الخفقان، بل يتعلّم كيف يخفق بين الجراح.
الحياة في بغداد تشبه عوداً مكسوراً ما زال يُصدر نغماً؛ لا لأن الأوتار سليمة، بل لأن الألم نفسه صار موسيقى.
هناك، قرب جسر الائمة، لا يموت المساء أبداً… بل يتحوّل إلى ذاكرةٍ جالسةٍ على طاولةٍ من نحاس.

في مقهى صغيرٍ يطلّ على دجلة، تتزاحم الكراسي العتيقة كجنودٍ متقاعدين من معركةٍ لم تنتهِ.
مصابيح صفراء تترنح تحت دخان الأركيلة، وكاسات الشاي تتصبّب بخاراً كأنها تتنفّس نيابةً عن المدينة.
عند الطاولة القريبة من الجدار، يجلس أربعة رجالٍ مسنين.
وجوههم تشبه جدران الأزقة التي عبرتها مئات العواصف.
يلعبون الدومينو، لكن اللعبة ليست سوى حيلةٍ صغيرةٍ لإبعاد الموت عن الذاكرة.
ضحكاتهم متقطّعة، لكنها تحمل نوعاً من الوفاء… وفاء لمن بقوا بعد أن رحل الجميع.
كلما مرّت جنازةٌ من الشارع، يصمتون فجأة، كأنهم يقرؤون الفاتحة على شيءٍ أعمق من الميت ، على زمنٍ كاملٍ رحل ولم يعد.
قال أحدهم وهو ينفث الدخان ببطء:
ــ "أيامنا راحت… بس بغداد بعده ما تتعلّم توقف دمها."
أجابه الآخر وهو يحرّك حجراً بيدٍ مرتجفة:
ــ "إحنا نلعب حتى ما ننسى جروحنا، مو حتى نفوز."
ضحكوا قليلاً…
لكن ضحكاتهم خرجت من حنجرةٍ اختنقت بذكرياتٍ كثيرة:
ابنٍ ضاع في حربٍ لا يعرفون لمن كانت،
جارٍ اختفى بعد انفجارٍ لم يُكتَب عنه في الصحف،
وحلمٍ قديمٍ بأن يعيشوا يوماً عادياً دون خوف.
وبينما يسكت الرجال،
كان في الزاوية المقابلة شابٌ وفتاة يجلسان أمام كوبين من الشاي،
يتحدثان بصوتٍ خافتٍ يشبه نغمةَ عودٍ حزينٍ على جرف النهر.
هو ينظر إليها كمن يرى في عينيها وعداً بالشفاء،
وهي تبتسم كمن تريد أن تُقنعه أن الحب لا يخاف من الخراب.
ضحكتها الخجولة كانت تسقط على أرض المقهى كزهرةٍ وسط الرماد،
وحين مرّت الجنازة، لم يسكتا كما فعل الشيوخ؛
بل تشابكت أيديهما بصمتٍ، كأنهما يقاومان الموت بالمحبّة.
الرجال نظروا إليهما من بعيد.
قال الثالث مبتسماً بمرارة:
ــ "يمكن دجلة بعده يحمل حياة، بس إحنا نسينا نسبح."
فأجابه الرابع وهو يحدّق في العاشقين:
ــ "الحياة تمشي يا صاحبي، حتى فوق الجروح."

حين غابت الشمس خلف النهر،
بقي الضوء العالق على صفحة الماء يشبه ذاكرة المدينة: لا يختفي تمامًا، ولا يعود كما كان.
الرجال أنهوا لعبتهم، والشابان غادرا بخطواتٍ متشابكة.
ظلّ المقهى نصفه في الظل، ونصفه في الدفء ، كما هو حال بغداد دائمًا.
في مكانٍ ما بين الدخان والنهر، كان الزمن نفسه ينفث أركيلته،
ينظر إلى الناس ويقول في سره:
"ما دام في المقهى من يضحك، ومن يحب،
فلن يمحو النهرُ اسمَ هذه المدينة من دفتري."

(بغداد – على ضفة الذاكرة)



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كرسيٌّ فارغ… ووردةٌ على الطاولة
- مرثيّة الظلّ البعيد
- عزاء في الأزقة
- وصيّة في باص مزدحم
- رائحة الخبز في بغداد
- ساعة لا تدقّ
- مقعد في قاعة الانتظار
- حُلْمٌ يُحاكَمُ في اليقظة
- كلية واحدة للحب
- مرثيَّةُ الرُّوحِ الغائبة
- الطريق الى المخيم
- رسالة لم تُسلَّم
- ذاكرة التيار
- الفستان
- حذاء صغير عند العتبة
- ليل المستشفى
- رسائل لم تصل
- صوت المطر على المظلة المعدنية
- السماء المفتوحة
- غروب في المقبرة


المزيد.....




- التحديات التي تواجه التعليم والثقافة في القدس تحت الاحتلال
- كيف تحمي مؤسسات المجتمع المدني قطاعَي التعليم والثقافة بالقد ...
- فيلم -أوسكار: عودة الماموث-.. قفزة نوعية بالسينما المصرية أم ...
- أنغام في حضن الأهرامات والعرض الأول لفيلم -الست- يحظى بأصداء ...
- لعبة التماثيل
- لماذا يا سيدي تجعل النور ظلاماً؟
- نشطاء يريدون حماية -خشب البرازيل-.. لماذا يشعر الموسيقيون با ...
- -ماء ونار-.. ذاكرة الحرب اللبنانية في مواجهة اللغة وأدوات ال ...
- أردوغان يستقبل المخرج الفلسطيني باسل عدرا الفائز بأوسكار
- توقيع اتفاق للتعاون السينمائي بين إيران وتركيا


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - مقهى على دجلة