|
الغنوصيون الكاثاريون
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 18:18
المحور:
المجتمع المدني
الكاثاريون (المعروفون أيضاً باسم كاثاري، مشتقة من الكلمة اليونانية كاثاروي، وتعني "الأطهار أو الأنقياء") طائفة دينية ثنائية ( غنوصية) ظهرت في القرن الثاني عشر بجنوب فرنسا ( لانگدوك) وشمال إيطاليا، وعارضت سلطة الكنيسة الكاثوليكية. وعُرف الكاثار أيضاً باسم الـ آلبيجنسيين نسبة إلى مدينة آلبي، التي كانت مركزاً قوياً لمعتقدات الكاثار . عاش كهنة الكاثار حياةً بسيطة بلا ممتلكات مالية أو عينية، ولم يفرضوا ضرائب و رسوم أو غرامات، واعتبروا الرجال والنساء متساوون في الحقوق والواجبات ؛ وهي جوانب من الإيمان راقت للكثيرين ممن خاب ظنّهم في الكنيسة آنذاك. ومعتقدات الكاثار الأساسية قد انبثقت من الديانة المانوية الفارسية، غير أنها تأثرت بشكل مباشر بطائفة دينية قديمة في بلغاريا تُعرف باسم الـ بوگوميليين، الذين مزجوا المفاهيم المانوية مع المسيحية.
اعتقد الكاثاريون في أن إله الشرّ قد خدع عدداً من الأرواح الإلهية لتنزل من عالم النور( العالم الروحي) الى عالم الظلام (العالم المادي) ، ثم أحاطها بأجساد. وكان هدف الكاثاريين في الحياة هو نبذ ملذات الدنيا وإغراءاتها، والعودة إلى السماء ( الخلاص) من خلال التجسدات المتكررة. ولتحقيق تلك الغاية، اتبع الكاثاريون تسلسلاً هرمياً صارماً : أولاً ـ الكاملون : هم أولئك الذين تخلوا عن ملذات الدنيا مثل الكهنة ومساعديهم . ثانياً ـ المُعتمدون : هم المؤمنون الذين ما زالوا متمسكين في الدنيا إلا أنهم يسعون في التخلي عنها . ثالثاً ـ المتعاطفون : هم من غير الكاثاريين الذين يساعدون ويساندون مجتمعات الكاثار .
رفض الكاثاريون الغنوصيون تعاليم الكنيسة الكاثوليكية واعتبروها غير أخلاقية، واعتبروا معظم نصوص الكتاب المقدس مستوحاة من إله الشر. ورفضوا وجود الكنيسة لما اعتبروه نفاقاً من رجال الدين، لاستيلائهم على الأراضي والثروات. وقد ردّت الكنيسة بإدانة الكاثاريين و اتهامهم بالهرطقة، وقُتل الكثير منهم في الحملة الصليبية الآلبيجينية (عام 1209-1229م) التي دمرت أيضاً بلدات ومدن وثقافة جنوب فرنسا .
الأصول والمعتقدات كل ما يُعرف تقريباً عن الكاثاريين مستقى من اعترافات "الهراطقة "(ويُقصد بهم الأسرى من الكاثار) التي دوّنها رجال الدين الكاثوليك خلال محاكم التفتيش التي أعقبت الحملة الصليبية الآلبيجينية. ويمكن بسهولة إرجاع بنية المعتقد إلى الديانة المانوية التي انتقلت عبر طريق الحرير من الإمبراطورية البيزنطية والشرق الأوسط إلى أوروبا ، حيث ارتبطت في ظروف معينة بالمعتقدات والرموز المسيحية.
كان المفهوم الأرثوذكسي للكنيسة الكاثوليكية؛ أن هناك إلهاً واحداً بثلاثة ( الثالوث) - الآب والابن والروح القدس - لكن هذا الاعتقاد لم يكن جزءاً من رؤية المسيحية المبكرة ، ولم يُقبل بشكل عام إلا بعد أن حكم مجلس نيقيه عام 325 م (الذي دعا إليه الملك قسطنطين ، أول إمبراطور مسيحي لروما ) لصالحها. وفي ذلك الوقت، تضارب تفسير نيقيه للمسيحية مع تفسير الآخرين ولقرون عدة . وكانت المذاهب التي تُسمى بالهرطقة في القرون الوسطى مثل الـ بوگوميليين والكاثار والـ والدنسيين؛ تُعدّ أقوى التحديات للكنيسة، وبسبب تلك المذاهب ؛ نصبت الكنيسة نفسها كبديل شرعي للكاثوليكية في جميع النواحي .
شملت معتقدات الكاثار ما يلي : أولاً ـ ادراك الجوهر الانثوي والذكري للإله ( كان الإله ذكر وأنثى )؛ إذ كان المظهر الأنثوي للإله هو صوفيا، أي "الحكمة". وشجع هذا الاعتقاد على المساواة بين الجنسين في مجتمعات الكاثار . ثانياً ـ التناسخ (التقمص) : حيث تولد الروح من جديد بشكل دائم لحين تخليها عن الحياة نهائياً وتهرب من التجّسد . ثالثاً ـ الثنائية الكونية : وجود إلهين قويين في الكون، أحدهما خير( النور) والآخر شر( الظلام) الذي هو في الغالب ما يُطلق عليه "ريكس موندي" (ملك العالم)، وهو إله العهد القديم وخالق العالم المادي. وهذان الإلهان في حالة صراع دائم ؛ حيث كان هدف الحياة هو تقديم الخير من خلال خدمة الآخرين، و الهروب من دوامة التناسخ والموت والعودة إلى عالم النور. رابعاً ـ التغذية النباتية : لا يُسمح بتناول اللحوم بجميع أصنافها؛ بيد أن تناول الأسماك كان مسموحاً به للمعتمدين والمتعاطفين فقط . خامساً ـ العزوبة من أجل الكمال: شُجعت العزوبة عموماً في المجتمع ، إذ كان يُعتقد أن كل مولود هو مجرّد روح أخرى محاصرة بالشر في جسد وتحتاج الى الخلاص . وكان الزواج عموماً يُعدّ مُحبطاً في تحقيق ذلك الهدف . سادساً ـ العمل اليدوي : كان جميع الكاثاريين يعملون سواء الكهنة منهم أو العامّة ، والعديد منهم عملوا في مجال صناعة النسيج . سابعاً ـ الانتحار: (المعروف باسم طقوس الـ إندورا ) كاستجابة منطقية ومبجلّة في ظل ظروف معينة .
المذاهب المبكرة ، مثل الآريوسية (عقيدة مسيحية ترفض المفهوم التقليدي للثالوث، وتعتبر يسوع المسيح هو خليقة الرّب، وبالتالي منفصلاً عنه. وقد سُميت نسبةً إلى آريوس أحد أبرز دعاتها. وتُعدّ هرطقة في معظم مذاهب المسيحية السائدة الحديثة) .ومع أنها كانت مُدانة، إلا أنها التزمت على الأقل بنفس العقيدة الأساسية للكنيسة، ولكن الكاثاريين رفضوا بإصرار كل ما يتعلق بالكنيسة ، بما في ذلك معظم أسفار الكتاب المقدس . وقد أشار البروفيسور مالكولم باربر إلى هذا الجانب كما في المقطع أدناه : "كانوا يعتقدون أن إله الشرّ هو مؤلف العهد القديم باستثناء هذه الكتب: سفر أيوب، والمزامير، وكتب سليمان [الأمثال، والجامعة، ونشيد الأنشاد]، وسفر يسوع بن سيراخ [المعروف باسم سفر يشوع بن سيراخ]، وإشعياء ، وحزقيال ، وداود، والأنبياء الاثني عشر." (ص93)
كتاب المبدأين ( كتاب الثنائية الإلهية ) كانت الأناجيل هي الكتب الوحيدة من العهد الجديد التي تقبلّها الكاثاريين ، رافضين رفضاً قاطعاً لرسائل بولس وغيرها ، مع تركيز خاص على إنجيل يوحنا. وكان كتابهم الديني الرئيسي هو "كتاب المبدأين" ، الذي كان أحد الكاملين يقرأ مقاطع منه على الأتباع ، ثم يفسّرها لهم شخص آخر من بينهم . ويتناول كتاب المبدأين الجوانب الرئيسية من الإيمان مثل الطبيعة الثنائية للحياة، وكيف أصبح البشر الذين كانوا في السابق عبارة عن أرواح إلهية نورانية، باتوا مقيدين بجسد فانٍ قابل للتعفن والانحلال . ورد في كتاب المبدأين؛ أن إله الشر وصل إلى أبواب عالم النور وطلب الدخول، لكن طلبه قد رُفض . وانتظر خارجه لألف عام، متحيناً فرصة التسلل . وذات يوم حانت تلك الفرصة فانتهزها. وما إن دخل، حتى جمع حوله حشداً من الأرواح الإلهية وأخبرهم في أنهم سوف يخسرون طالما يحبون ويطيعون إلههم، وهو الذي لم يمنحهم كل شيء. وقال لهم أيضاً ؛أنهم مجرّد عبيد له، لأنه يملك كل ما يظنون أنه لهم ؛ ولكن إن اتبعوه وغادروا عالم النور، سوف يجعلهم يعيشون في نعيم ورفاهية ، ويمنحهم البساتين الجميلة و الحقول الخصبة، والقصور الفخمة والنساء الجميلات والرجال الوسيمين، والثروات الطائلة، وأجود أنواع النبيذ والمشروبات والأطعمة الشهية . خلال تسعة أيامٍ وتسع ليالٍ أُغويت أرواحٌ كثيرة، ونزلت من ثقب في عالم النور إلى العالم المادي ( الظلام) الذي خلقه إله الشر. وكان إله النور قد سمح لمن رغبوا بالرحيل، بيد أن أرواحاً أخرى لم تكن ترغب في المغادرة قد نزلت أيضاً من ذلك الثقب عن طريق الخطأً إلى العالم المادي ؛ فأغلقه إله النور . و بعد نزول تلك الأرواح إلى عالم الظلام ، وجدت نفسها في مملكة الشر محرومة من كل الخيرات التي وعد بها إله الظلام ، فتذكرت نعيم عالم النور، فندمت وسألته إن كان بمقدورها العودة؛ فأجابها بأنها لا تستطيع، لأنه خلق لها أجساداً تربطها بالأرض وتنسيها أمر السماء. صنع إله الظلام الأجساد بسهولة، لكنه لم يستطع ربط الأرواح بها لتفكر وتشعر وتتحرك؛ فانزعج من ذلك ، فطلب العون من إله النور. عندئذٍ أدرك إله النور أن الأرواح النازلة ستضطر في العودة إلى عالمه في النهاية ، وأن ذلك ممكناً من خلال صراعها مع تلك الأجساد، فعقد صفقة مع إله الظلام : له أن يفعل ما يشاء بالأجساد، أما الأرواح التي تحييها فهي ملك لإله النور. وافق إله الظلام على ذلك، وبالتالي خُلق البشر. يعتقد الكاثاريون أن حصار الروح في الجسد سوف يمكّنها من العيش ثم الموت لتلد من جديد في جسد آخر طالما هي مرتبطة مع الجسد وبملذّات العالم المادي التي وعدها بها إله الظلام عندما كانت في عالم النور. وما أن تتخلى الروح عن الجسد وكل إغراءاته، سوف تتحرر وتعود إلى عالم النور لتستعيد حالتها الأولى في الخلاص. وكان الهدف الأسمى للوجود البشري هو ذلك الصراع ضد العالم المادي وحبس الأجساد . فلسفة العقيدة في معتقدات الكاثاريين الغنوصية ، لم يكن هناك إله واحد يجسّد الخير والشر معاً؛ بل كانت معتقداتهم ثنائية. وكانوا يؤمنون بمبدأين منفصلين ومتعارضين . وقد وجدنا صعوبة في شرح جميع مفاهيم تلك الفلسفة مفصّلاً في مقال واحد ؛ لذا نوجزها بعبارات مبسطة وكما يلي : إله الخير- هو إله العهد الجديد (أب يسوع المسيح ) وخالق العالم الروحي . إله الشر - غالباً ما يُطلق عليه ريكس موندي (ملك العالم)، وهو إله العهد القديم، خالق العالم المادي . ويرى الكاثاريون في أن الكون هو عبارة عن ساحة معركة بين قوتين أزليتين : إله النور - وهو كيان طاهر ونقي، خالق العالم الروحي الخفي . وهذا الإله يُعدّ مصدر الخير وغير قادر على خلق أي شيء شرّير، باعتباره الرّب والأب ليسوع المسيح . إله الظلام - وهو كيان شرير وحاكم العالم المادي الذي يُعتبر سجناً للأرواح . وهو ايضاً مهندس الكون المادي؛ الذي يُعد فاسداً ومخادعاً وفخاً للبذور أو الشرارات الإلهية (الأرواح البشرية) .
في تفسيرهم الغنوصي ، كان "ريكس موندي" هو نفسه إله العهد القديم ( يهوه) المنتقم والغاضب الذي خلق الأرض، وكاتب الوصايا العشرة الباطلة. وكان مسعاه الخبيث ؛جعل الأرواح حبيسة دائرة الولادة والموت من خلال الرغبات المادية والخطيئة والجهل . ولم يكن "ريكس موندي" مجرد "شرير" بالمعنى الأخلاقي؛ بل كان جوهره معيباً، لأنه خلق العالم المادي والجسد البشري بملذّاته ،وبالتالي فإن تلك الأجساد والعناصر المادية مقيّدة في عالمها الذي جاء بفعل قوّة الشّر.
الخلفية الكونية كما يراها الكاثاريون الغنوصيون ؛ أن جميع الأرواح منتمية إلى العالم الروحي حيث إله النور؛ لكن إله الظلام "ريكس موندي" قام بخداع بعض تلك الأرواح التي أسّرها وحبسها في أجساد مادية. وأن العالم المادي في جوهره هو قفصٌ مُذهّب قد يبدو جميلاً؛ إلا أن جماله كذبة تهدف إلى صرف البشر عن موطنه الروحي الحقيقي . والخلاص في الكاثارية؛ كان الهدف منه الهروب من تأثير إله الظلام برفض عناصره المادية، والعيش في نقاء وطهارة. لهذا السبب فقد نبذ الكاثاريون "الكاملون" اللحوم والزواج والجنس والممتلكات، وأقسموا على العيش كرُسل للمسيح في محاولة لقطع جميع الروابط مع العالم المادي وإلهه. أمّا مفهوم الثنائية المطلقة لدى الكاثاريين ؛هو أن إلهي النور والظلام قوتان أبديتان ومتساويتان، وكلاهما موجودان منذ الأزل، ولم يخلق أيّ منهما الآخر. حيث أن إله النور يحكم العالم الروحي؛ وإله الظلام يحكم العالم المادي؛ وتلك الثنائية هي نفسها عند العقيدة المانوية ( قوتان متعارضتان أزلياً، و عالقتان في صراع لا نهاية له) ، و الخلاص يكمن في الهروب من العالم المادي والعودة إلى العالم الروحي .
الخلافات مع الكنيسة الكاثوليكية تناقضت تلك المفاهيم أعلاه تناقضاً حاداً مع رؤية الكنيسة الكاثوليكية للفردوس الإلهي؛ حيث تسببت المرأة بصورة حواء في نزول الإنسان ؛ وذلك بإغواء آدم الرجل لتناول ثمرة شجرة معرفة الخير والشر، ثم فداء البشرية لاحقاً من تلك الخطيئة من خلال تضحية يسوع المسيح الذي هو ابن إله ذكر كامل القدرة. لقد اعتبرت الكنيسة الانتحار(ولا يزال) خطيئة لاتُغتفر، وشجعت الزواج، ورفضت التناسخ، وكذلك مفهوم الثنائية. وفي الكاثارية، حيث إلهي الخير الشر قوتان أبديتان غير مخلوقتين، متساويتان في القوة؛ أما في المسيحية، فالشيطان ملاك خالقه الرّب، وهو تابع له. بالإضافة إلى هذه الاختلافات، كان هناك إصرار للكاثاريين على أن يسوع لم يولد من امرأة ولم يتجسد ، ولم يتألّم ، ولم يمت، وبالتالي لم يُبعث أبداً. وبالتالي فقد فسروا جميع الأحداث التي وردت في روايات الأناجيل على أنها وقعت بمثالية كنوع من الرمزية لحالة الروح التي تولد في ذلك العالم وهي حبيسة الجسد، وكان لا بد من أن تعاني وتموت، وحتى انها لن تتحرر في النهاية إلا بعد أن تتغلب على الجسد وتترك هذا العالم . لذلك رفض الكاثاريون رمز الصليب والقراءة الحرفية لأيٍّ من أسفار الكتاب المقدس . واعتبروا الصليب رمزاً لإله الظلام ( ملك العالم) ، ورأوا أنه يجب تدميره عند مشاهدته لأنه يرمز إلى الشر. كما أفادوا على أن الصليب ليس سوى رمزاً للسلطة الدنيوية، وأن جميع أسرار الكنيسة المقدسة بما فيها معمودية الأطفال والتناول، مرفوضة رفضاً قاطعاً . أخذ الكاثاريون المتزوجون بتحديد النسل والإجهاض، معتقدين أن الجنس جانبٌ طبيعي من الحالة الإنسانية، ويمكن ممارسته للمتعة وليس فقط للإنجاب. ويُنظر للنساء على أنهن مساويات للرجال، كما سُلِّط الضوء على شخصياتٍ نسائية من الكتاب المقدس، وخاصة مريم العذراء ومريم المجدلية ( مريم العذراء هي والدة يسوع المسيح، بينما مريم المجدلية هي واحدة من النساء التي آمنت بيسوع ورافقته وذهبت إلى قبره بعد صلبه). وقد أشار بعض العلماء إلى أن الاعتقاد بتقديس مريم العذراء في أوروبا خلال القرون الوسطى التي أصبحت رمزاً شعبياً وبتأثير متزايد؛ كان مدفوعاً برفع الكاثاريين لمكانة المرأة في ادبياتهم .
التقاليد والحياة الاجتماعية عاش الكاثاريون في تجمعات تراوحت أحجامها ما بين (60 إلى 600 ) فرد. حيث تشاركوا بممتلكاتهم واعتنوا ببعضهم البعض كعائلة واحدة . واكتسبت هذه العقيدة موطئ قدم قوي لها في شمال إيطاليا وجنوب فرنسا من خلال جاذبيتها عند الفلاحين . ويشير الباحث والتر نيگ إلى أن "الحياة المثلى في التواضع والتسامح والألفة، لا لتعاليم يُقال عنها هرطقة ؛ هي التي لعبت الدور الرئيسي هنا" (ص92). وكان يُعتقد أن فئة الكاملين من الكاثار يعيشون حياة بلا لوم أو انتقاد، وكانوا حريصين على مساعدة الآخرين، مما ألهم أتباعاً مخلصين جدد لعقيدتهم . ولم يقتصر الإيمان بالعقيدة على الفلاحين، بل انتشر بين طبقات المجتمع في القرون الوسطى ليشمل الحرفيين؛ كالنساجين والخزافين، والكتّاب والشعراء، والتجّار وأصحاب الأعمال، وعدد من رجال الدين الكاثوليك، وحتى من طبقة النبلاء. وارتبطت إليانور آكيتاين (عام 1122-1204 م) دوقة وملكة فرنسا ، وابنتها ماري دي شامپين (عام 1145-1198 م) بالكاثار كمتعاطفتين .
كان الكاثاريون يرتدون الملابس البسيطة التي هي عبارة عن أردية داكنة مع قلنسوات أو قبعات، وحفاة القدمين لا يرتدون الأحذية أو الصنادل . وكان الرجال لحاياهم طويلة، وغير مسموح لهم بحلقها مهما كانت الأسباب. ويُذكرون بأعداد قليلة في السجلات الفرنسية من أربعينيات القرن الثاني عشر، لكن بحلول عام 1167 م، كان هناك ما يكفي من التجمعات في المنطقة لتطالب بتأسيس جمعية لوضع القواعد والحدود. ونظّم مجلس القديس فيليكس عام 1167 م مجمّعات الكاثار في أسقفيات، وكان لكل منها أسقف كرئيس ومسؤول فقط عن رعيته. ولم تكن هناك سلطة مركزية مثل سلطة البابا في روما. وقد رأس المجلس رجل دين بوگوميلي يُدعى نيكيتاس (ستينيات القرن الثاني عشر الميلادي)، مما يُرسّخ بقوة البوگوميلية كمرجعية مباشرة للكاثارية. لكي يصبح المرء كاثارياً، كان عليه ببساطة أن يُعلن إيمانه ويتلقى التعميد الروحي ، وهي المباركة والترحيب بالانتماء من خلال تشابك الأيدي . ولكي يصبح المتعبد من فئة الكاملين، كان عليه أن يتخلى عن الحياة العامة تماماً ، ويمر بفترة من الانزواء والنقاء قبل نيله المرتبة. وكانوا الرجال والنساء على حد سواء في حالة من الكمال . ولم تكن هناك خدمات أو قداديس رسمية كما هو الحال في الكنائس ؛ بل كانت تجمعات غير رسمية يبدو أنها كانت تُعقد في منازل الأتباع . في جنوب فرنسا لم تكن للكنيسة الكاثوليكية سطوة قوية، لذا فقد عاش الغنوصيون الكاثاريون و عملوا مع أفراد المجتمع الآخرين ، وعقدوا مجالسهم دون خوف أو قلق . أما في أماكن أخرى، فكان عليهم توخي الحذر الشديد وإخفاء عقيدتهم . وقد أدت هذه الممارسة حسب بعض العلماء إلى نشوء وظهور أشهر أنواع الأدب في القرون الوسطى وهو شعر " العشق النبيل" .
العاطفة النبيلة في القصائد الشعرية تطور شعر العشق النبيل في جنوب فرنسا مع ظهورعقيدة الكاثار. والموضوع المشترك لهذا الصنف من الأدب في القرون الوسطى هو السيدة الجميلة التي تحظى بالتقديس والخدمة من قبل فارس مهذّب وشجاع وشهم . ويأتي الدافع الأدبي الشهير للمرأة التي وقعت في محنة ؛ يتوجب إنقاذها من خلال هذا الصنف من الشعر. وكان أشهر مؤلفيه الشاعر الفرنسي كريتيان دي تروا (عام 1130-1190 م) الذي كانت رئيسته ماري دي شامپين .واشتهر كريتيان بزج بعض العناصر الأكثر شهرة في أسطورة الملك آرثر مثل علاقة لانسلوت مع ملكة آرثر گوينيفير، والسعي وراء الكأس المقدسة، وهو أول من أطلق على بلاط آرثر اسم كاميلوت. غالباً ما تتضمن القصائد الشعرية وصفاً لمقدار الجهد والكفاح للعثور على سيدة مختطفة أو مسجونة أو معنّفة سعياً لإنقاذها . وكثيراً ما تلعب النساء أدواراً مهمة في هذه القصص . وانعكاساً للأنماط الأدبية في القرون الوسطى المبكرة، تُصبح النساء شخصيات رئيسية يخدمها الرجال بدلاً من كونها شخصيات هامشية يتملكونهن . والأهم من ذلك، فقد احتفت القصائد الغزلية التي كانت تُعتبر الصنف الأدبي المختلف تماماً عن الصنف الكلاسيكي القديم ؛ بل أسمى بكثير منه ، وذلك عندما تصف علاقة الزواج وما يجب عليها أن تكون ، لأن الزواج في تلك الفترة لا يملك الزوجان فيه خياراً (حيث تقوم العائلتان باختيار العريس أو العروسة)، بينما وصف الزواج في هذا النمط الشعري؛ يختار الشاب والشابة الانخراط في علاقة حب غامرة وصادقة قبل الزواج دون قيد أو تأثير من أحد .
أشار الباحث الانجليكاني كلايڤ ستاپلز لويس إلى أنه كيف تبدو هذه الموضوعات في العصر الحديث مألوفة وبعيدة عن كونها مفاجئة، ولكن إذا ما قورن شعر پروڤانس في القرن الثاني عشر بمؤلفات مثل "التاريخ الكنسي للشعب الإنگليزي" أو القصيدة الملحمية "بيوولف" للراهب بيدي ؛ فإنه يدرك مدى الانطلاق المذهل في هذا الجانب. ويستدل لويس وآخرون بالكاثارية كمصدر إلهام محتمل لهذه الأعمال، ويرون أنها كانت استعارات لرؤية الكاثار. والمرأة في ضائقة هو المبدأ الأنثوي للإله (صوفيا) التي اختطفتها الكنيسة الكاثوليكية، وكان الفارس الشجاع هو أتباع الكاثار الذي أحبها وخدمها وأقسم على إنقاذها. ووفقاً لهذه الرؤية، انتشرت الكاثارية على نطاق واسع وبسرعة ومن خلال الشعراء الغنائيين الذين تنقلوا بين أرجاء فرنسا لعرض وأداء أعمالهم الأدبية.
الحملة الصليبية الآلبيجينية سواءٌ أكان الشعر رمزاً دينياً يُساعد على نشر الإيمان، أو أن الكاثاريين قد بدوا وكأنهم يعرضون بديلاً أفضل للكنيسة في القرون الوسطى ؛ فقد كسبت الغنوصية الكاثارية بحلول أواخر القرن الثاني عشر أتباعاً أكثر من أي وقت مضى . لذا فقد أُرسل مبعوثون بابويون إلى جنوب فرنسا لمحاولة إعادة الكاثاريين إلى العقيدة الأرثوذكسية، ودُعيت مجموعات دينية للنقاش في حلّ المشكلة ؛ لكن أيّاً من تلك الجهود لم تُحرز أي تقدم . في عام 1208 م بعث البابا إنوسنت الثالث (عام 1198ـ 1216 م) المحامي الراهب بيير دي كاستيلنو إلى جنوب فرنسا لطلب مساعدة ريموند السادس، الكونت على مدينة تولوز (عام 1194ـ 1222 م) في قمع الكاثارية. بيد أن ريموند لم يكن حامياً وداعماً متحمساً للكاثار فحسب؛ بل كان أيضاً أسقفاً للرهبانية في تولوز. لذا فقد رفض التعاون مع مبعوث البابا وأبعده؛ وبالتالي فقد عُثر عليه مقتولاً بعد فترة وجيزة . دعا البابا إنوسنت إلى حملة صليبية ضد جنوب فرنسا، واعداً نبلاء الشمال بتمكينهم الاستيلاء على جميع الأراضي ذات الموارد الكبيرة والاحتفاظ بغنائم جيرانهم الجنوبيين بعد القضاء على الكاثار وسحق أنصارهم . وقد امتثل نبلاء الشمال لدعوة البابا، وانطلقت الحملة الصليبية الآلبيجينية عام 1209م . طالما أن غالبية الكاثار كانوا من النساء، فقد كانت النساء والأطفال هم أول من قُتلوا في الحروب الصليبية، وفي كثير من الحالات كانت مدن بأكملها قد حُرقت وقُتل جميع سكانها. وذُكر إنه في حصار مدينة بيزييه الذي تحوّل إلى مذبحة، عندما سُئل أرنوـ أموري (الراهب السيسترسي وقائد قوات الكنيسة) عن كيفية التمييز بين الكافر والمؤمن، قال : "اقتلوهم جميعاً، فالرّب يعلم من هُم أتباعه" (برايسون وموڤسيسيان، ص12). ووفقاً لسجلّات الكنيسة، فقد ذُبح عشرون ألف كاثاري فقط في بيزييه ومحيطها ، وأُحرقت المدينة بالكامل . بعد عام 1209م عندما نُهبت مدينة كاركاسون ودُمرّت؛ قاد الإيرل سيمون دي مونتفورت (عام 1175ـ 1218م) الحملة الصليبية التي واصلت تدمير المنطقة، وأغنت البارونات الشماليين الذين شاركوا فيها. وبحلول عام 1229م ، انتهت الحملة الصليبية رسمياً، لكن الكاثاريين استمروا يتعرضون للاضطهاد، وواصلت الجيوش الشمالية نهب القرى وقتل الأبرياء. وما بين مايو/ أيّار من عام 1243م ومارس/ آذار عام 1244م ، صمد معقل الكاثاريين في مونتسيگور أمام الحصار، لكنه سُحق في النهاية، وسقطت آخر دفاعاتهم فيه . وفي المذبحة التي تلت ذلك، أُحرق مائتي فرد من فئة "الكاملين" وهم أحياءً على محرقة كبيرة عُدّت لهذا الغرض .
وفقاً للباحثيَن برايسون وموڤسيسيان، قضت الحملة الصليبية الآلبيجينية على ثقافة جنوب فرنسا المتسامحة، واستبدلتها بثقافة كنيسة العصور الوسطى الأكثر صرامة، لكنها لم تتمكن من القضاء على فكرة الكاثارية نفسها. واستمر الكاثاريون الذين نجوا من المذابح أوائل القرن الثالث عشر في العيش كما كانوا من قبل، ولكن بمزيد من الحذر والسرية. يُعرف بقاء هذه المجتمعات من خلال سجلات الكنيسة عن محاكم التفتيش التي استمرت حتى القرن الرابع عشر. و كطائفة دينية منظّمة؛ انقرضت الكاثارية في جنوب فرنسا (مونتسيگور) ، إلا أنها استمرت كعقيدة حيّة لم تمت؛ حيث اقتبست جميع الحركات "الغنوصية" اللاحقة وبطريقة ما من الكاثاريين الذين وقفوا في وجه سلطة الكنيسة في القرون الوسطى؛ بعض الأفكار التي مهدّت الطريق للإصلاح الپروتستانتي ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مالكولم باربر ـ الكاثار: الهراطقة الثنائيون في لانگدوك في القرون الوسطى العليا ـ پيرسون للنشر ـ 2000 . مايكل برايسون & آرپي موڤسيسيان ـ العشق ونقّاده: من نشيد الأنشاد إلى شكسپير وجنّة ميلتون ـ أوپن بوك للنشر ـ 2017 . نورمان كانتور ـ حضارة القرون الوسطى ـ هارپر پيرننال للكتب ـ 1994 . تيا كولبابا ـ اختراع الهراطقة اللاتينيين ـ من منشورات معهد القرون الوسطى ـ 2008 . كلايڤ ستاپلز لويس ـ رمزية الحبّ: دراسة في التقاليد القروسطية ـ طباعة جامعة كامبريدج ـ 2013 . كارل ليندال & جون ماكنمارا & جون ليندو ـ الفولكلور في القرون الوسطى: دليل للأساطير والحكايات والمعتقدات والعادات ـ طباعة جامعة أوكسفورد ـ 2002 . إتش . آر. لوينز ـ القرون الوسطى ( موسوعة موجزة) ـ ثاماس هدسون للنشر ـ 2007 . والتر نيگ ـ الهراطقة ـ دورسيت للنشر ـ 2019 . زوي أولدنبورگ ـ مذبحة مونتسيگور: تاريخ الحملة الصليبية الآلبيجينية ـ ماربورو للكتب ـ 1988 . ديڤيد ستينز ـ الرومانسيات الكاملة لكريتيان دي تروا ـ طباعة جامعة إنديانا ـ 1991 .
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حملة الملك الآشوري سرگون الثاني على مملكة أورارتو
-
الطائفة الزورڤانية الفارسية
-
الملك البابلي نبوخذنصّر الثاني
-
أرض الأمريكيين الأصليين وحكاية التلّ الغامض
-
روايات قدماء السود الهاربين إلى كندا
-
الأديرة البوذية في اليابان
-
أرض كنعان التاريخية
-
الإله نينورتا في الأساطير السومرية
-
اتحاد كييڤ روس
-
الأدب في ممالك مصر القديمة
-
حضارة وادي السند الغامضة
-
الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية
-
عبادة الإله مثرا
-
التحنيط عند المصريين القدماء
-
مذكرات جندي أمريكي عن درب الدموع
-
من هم الأمورّيون ؟
-
هذا ما كتبه هيرودوت عن بابل القديمة
-
شخصية هرقل في الأساطير اليونانية والرومانية
-
بطل ملحمة گلگامش بين الحقيقة والأسطورة
-
نرگال (مسلامتيا) إله الموت والحرب والدمار
المزيد.....
-
بن غفير يهدد نتنياهو بحال عدم إقرار قانون لإعدام أسرى فلسطين
...
-
حماس: نعمل يوميا على استكمال تسليم كل جثامين الأسرى الإسرائي
...
-
قوات الاحتلال تطلق الرصاص على أسير فلسطيني.. تفاصيل مروعة لت
...
-
مركز المعلومات بالكنيست: عدد المهاجرين من إسرائيل يفوق عدد ا
...
-
البرتغال: اعتقال رجل بعد رفعه علم فلسطين على قمة جسر 25 أبري
...
-
محكمة المثنى تصدر حكم الإعدام لإرهابي نفذ تفجيري الرميثة عام
...
-
هل خسرت الجزائر انتخابات مجلس حقوق الإنسان دون الحصول على أي
...
-
السعودية.. الداخلية تعلن إعدام مواطن في المنطقة الشرقية ارتك
...
-
تقرير للأمم المتحدة يوثق أثر الحرب على نساء وفتيات غزة
-
تقرير عبري يكشف عن ارتفاع حاد في الإسرائيليين المهاجرين من د
...
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|