أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - الملك البابلي نبوخذنصّر الثاني















المزيد.....


الملك البابلي نبوخذنصّر الثاني


عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 8466 - 2025 / 9 / 15 - 18:18
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


كان نبوخذنصّر الثاني (عام 605/604 -562 قبل الميلاد) أعظم ملوك بابل القديمة خلال فترة الإمبراطورية البابلية الحديثة (عام 626-539 قبل الميلاد) بعد والده المؤسس نبوپولاسر(عام 626-605 قبل الميلاد)، والذي اشتهر في سفرَي دانيال وإرميا العبريين، حيث وُصف بأنه الملك الذي وقف في وجه يهوه .
هزم والده الملك نبوپولاسر الآشوريين بمساعدة الميديين ، وحرر بابل من الحكم الآشوري . ثم واصل غزوه للمنطقة، فترك لابنه نبوخذنصّر نظام سياسي مستقر وثروةً طائلة ليبني بهما أمجاده ، مثلما استغل الإسكندر الكبير (عام 336-323 قبل الميلاد) الخزينة والجيش النظامي اللذين تركهما له والده فيليب الثاني المقدوني (عام 359-336 قبل الميلاد).
تزوج الملك نبوخذنصّر من أميتيس الميدية (حوالي عام 630-565 قبل الميلاد) ، وبالتالي فقد نجح في تأمين التحالف ما بين الميديين والبابليين [أميتيس هي ابنة أو ربما حفيدة كيخسرو (سياخاريس) ملك ميديا]، وحسب بعض المصادر، فقد بنى لها جنائن بابل المعلقة لتذكيرها بوطنها في بلاد فارس .

عند صعوده العرش، خاطب نبوخذنصّر الآلهة في مقطع من كلمته الافتتاحية :
" يا مردوخ الرحيم ، فليبق البيت الذي بنيته إلى الأبد، وليكن راضياً ببهائه، حيث أبلغ فيه سن الكِبَرْ، وأنجب فيه ذرية وفيرة، وأن أتلقى فيه أتاوات ملوك جميع الأقاليم، ومن جميع البشر ." (كيريگان،ص 39)
وعلى ما يبدو أن إلهه الراعي مردوخ قد سمع صلواته ودعواته إليه ؛ ففي عهده أصبحت بابل أقوى دولة ـ مدينة في المنطقة، وأصبح نبوخذنصّر الثاني نفسه أعظم ملك محارب وحاكم في العالم آنذاك .
يُصوَّر الملك نبوخذنصّر في الكتاب العبري بصورةٍ مُشينة ، لا سيما في سِفرَي دانيال وإرميا، حيث يُنظر إليه على أنه "عدوٌّ يهوه"، وشخصٌ يُريد إله بني إسرائيل في أن يجعل منه عبرة، أو ربما على العكس، سخرّه إله بني إسرائيل كوكيل له ضد أتباعه من الخائنين ( تبريرات الكهنة اليهود عند الهزائم) .
لقد تُوفي الملك نبوخذنصّر في السنة الثالثة والأربعين من حكمه، وهو أقوى ملك في الشرق الأدنى في المدينة التي أحبّها ودافع عنها .

الحياة المُبكرة والارتقاء إلى السلطة
وُلِد نبوخذنصّر الثاني حوالي عام 634 قبل الميلاد في منطقة الكلدانيين ( جنوب شرق بابل). واسمه الحقيقي هو " نابو - كودورّو- يوسور" (بمعنى ـ نابو صُن ابني البكر) باللغة الكلدانية ، بينما "نبوخذنصّر" هو الاسم الذي أطلقه عليه عبرّيو كنعان ( المشتق من كلمة "نبوخادريزّر Nebuchadrezzar" الأكدية ). وهو الابن الأكبر للقائد البابلي في الجيش الآشوري، نابو- أپلا- يوسور (بمعنى ـ نابو اِحمْ ابني")، المعروف باسم نبوپولاسر.
في ذلك الوقت، كانت الإمبراطورية الآشورية لا تزال تسيطر على المنطقة، لكنها كانت في أيامها الأخيرة. واتسعت الإمبراطورية لدرجة يصعب معها الحفاظ على سيادتها ، وبدأت تضعف مع نهاية عهد آخر ملوكها الآشوريين العظماء، آشور بانيبال (عام من 668 ـ 627 قبل الميلاد). وفي عام 627 قبل الميلاد، أرسل الآشوريون اثنين من ممثليهم لتولي حكم بابل، لكن نبوپولاسر رفض وجودهما، وأعادهما إلى وطنهما، وتُوّج نفسه ملكاً عام 626 قبل الميلاد.

على مدى السنوات العشر التالية، حارب نبوپولاسر الآشوريين، بينما نشأ نبوخذنصّر بتعليم إداري من خلال القراءة والكتابة وتدريب عسكري شاق . وفي عام 615 قبل الميلاد، هاجم نبوپولاسر مدينة آشور، إلا أنه لم يتمكن من الاستيلاء عليها حتى انضم الميديون بقيادة ملكهم كيخسرو إلى البابليين ، وسقطت آشور. ثم دخل نبوپولاسر في تحالف مع كيخسرو ، وأكده بزواج نبوخذنّصر من ابنة كيخسرو(أو حفيدته) أميتيس .
في عام 612 قبل الميلاد، سقطت مدينة نينوى في يد التحالف البابلي- الميدي، ويُعتبر هذا التاريخ نهاية الإمبراطورية الآشورية. ورغم ذلك، فقد كافح آخر ملوك آشور" آشورـ يوباليت" ، لاستعادة عرشه بمساعدة المصريين في عهد الملك نخاو الثاني (عام 610 ـ 595 قبل الميلاد)؛ لكن نخاو الثاني هُزم في المعركة على يد نبوخذ نصّر الثاني عام 605 قبل الميلاد قرب كركميش . وبعد ذلك بوقت قصير؛ توفي الملك نبوپولاسر في بابل. وعاد نبوخذنصّر إلى بابل كقائد عسكري بطل ، وتُوّج ملكاً إما في أواخر عام 605 أو أوائل عام 604 قبل الميلاد.

تعزيز واستعادة بابل
أسس نبوپولاسر إمبراطوريته بالغزوات بحلول عام 616 قبل الميلاد، واستغل نبوخذنصر الثاني هذه الموارد لتعزيز وتوسيع فصائل جيشه بالإضافة إلى المساهمة في مشاريع البناء. كما استولى على جميع المناطق السابقة للإمبراطورية الآشورية، وسحق جميع الثورات والانتفاضات . وفي عامي 598/597 قبل الميلاد، زحف على مملكة يهوذا في كنعان، وحاصر عاصمتها أورشليم ، ورافق جيشه المنتصر أعيان وكهنة أورشليم كأسرى حرب إلى مدينة بابل ، وهي الفترة المعروفة بالسبي البابلي .
أدى تمرّد مستوطنو يهوذا المتزايد إلى جولة أخرى من الحملات العسكرية بين عامي 589 و582 قبل الميلاد (بما في ذلك تدمير أورشليم عام 587/586 قبل الميلاد)، مما أدى إلى تقليص مساحة يهوذا وتشتيت سكانها. وبعد سقوط مدينة صور الكنعانية أخيراً تحت حصار طويل عام 585 قبل الميلاد، عزّز نبوخذنصر الثاني إمبراطوريته الواسعة .ثم انخرط في مشاريع بناء ضخمة، بإعمار ثلاث عشرة مدينة من مدنها بالكامل ؛ بيد أنه بذل الجهد الأكبر في بابل والتي كانت أشهرها . وأشارت البروفيسورة سوزان وايز باور إلى تطوير بابل كما في المقطع أدناه :
"كانت له مكانته الخاصة كملك عظيم ليطورها ويحافظ عليها، وشرع في ذلك كما فعل ملوك بلاد الرافدين لألفي عام؛ لذا فقد بدأ بالإعمار والبناء. وتُوثّق نقوشه ترميم وإضافة معبد تلو آخر في بابل نفسها. حيث كانت بابل موطن الإله مردوخ، وكان إخلاص نبوخذنصّر لمردوخ هو احتفال بانتصار بابل ." (ص447)
كان الجزء الأهم من مشاريع الإعمار هو إعادة بناء الزقورة العظيمة المعروفة باسم إيتيمينانكي (أساس السماء والأرض)، والتي دمرها الملك الآشوري سنحاريب (عام 705 - 681 قبل الميلاد) مع البُنى التحتية الأخرى لمدينة بابل. حيث تمّ إعادة البناء في عهد الملك نبوپولاسر وخلال حكم الملك الآشوري أسرحدون ابن الملك سنحاريب (عام 681 - 669 قبل الميلاد)، وأكمل بنائها فيما بعد الملك نبوخذ نصّر الثاني . ويُعتقد أن زقورة إيتيمينانكي ببرجها الشامخ، هو برج بابل الذي جاء ذكره في الكتاب العبري .
بحلول عام 600 قبل الميلاد، كانت بابل مدينة مهيبة لدرجة أنها اعتُبرت مركز العالم . ولا شك أن البابليين أنفسهم، وغيرهم قد اعتبروها كذلك. ويُظهر لوح طيني يعود تاريخه إلى تلك الفترة والمحفوظ حالياً في المتحف البريطاني؛إلى أن العالم بأكمله كان يدور حول مدينة بابل، وذلك عند اكتشافه تحت أطلال مدينة سيپار (شمال بابل) . ويُفترض أن يكون اللوح هو بمثابة خريطةً للعالم؛ لكنه في الواقع كان مهمِشاً معظم المناطق المحيطة ببابل، بما فيها سيپار. كما أن أصل الخريطة هو بابلي، وكيفية وصولها إلى سيپار غير معروفة، لكن من المحتمل أن تكون هذه القطعة واحدة من بين قطع عديدة احتفظت بها مدنٌ كانت قد كرّمت شخصية الملك نبوخذ نصّر الثاني بمكانته الحضارية العظيمة. ويُشير البروفيسور مايكل كيريگان إلى هذا الجانب كما في المقطع أدناه:
"عند عرض مشهد العالم أجمع لابد أن تُقدّم خريطة جامعة (رؤية شاملة) ،والتي هي عبارة عن مجموعة مُنظّمة من الافتراضات والمواقف. وهذه الخريطة بمراكزها الحضرية ، وافتراضها الواضح بأن بابل كانت محور كل شيء تُعبّر بوضوح عن ثقة المدينة بنفسها. "(ص36)
تم تعزيز إصلاح المعابد والهياكل العظيمة وبات الوصول إليها أسهل من خلال طرق معبدة جديدة، وأولي اهتمام خاص لإنشاء شارع الموكب للاحتفال بالإله مردوخ، حيث يتم نقل تمثال الإله من المعبد وتجواله عبر المدينة و خارج بواباتها. وكان هذا الشارع بعرض واحد وعشرون متراً ، ويمتد من مجمع المعبد في قلب المدينة عبر بوابة عشتار في الشمال، وهي مسافة طويلة تزيد عن الألف متر مع أسوار ترتفع لأكثر من خمسة عشر متراً في كلا الجانبين. وقد زُيّن هذا الشارع بأكثر من 120 صورة لأسود وتنانين وثيران وزهور مطلية بالذهب .
لقد كان الملك نبوخذنصّر الثاني فخوراً بشكل خاص ببوابة عشتار وشارع الموكب ، وترك لوحاً يوصفهما وسبب إنشائه لهما ، وينص مقطعاً منه عن كيفية صنع هذه البوابات :
"...من الطوب ذي الحجر الأزرق، رُسمت عليه ثيران وتنانين رائعة . وغطيتُ أسقفها بأشجار الأرز المهيبة طولياً. و صنعت أبواباً من خشب الأرز مزينة بالبرونز عند جميع فتحات البوابات. كما وضعتُ ثيراناً برية وتنانين شرسة في البوابات، فزيّنتها بفخامة كبيرة لينظر إليها الناس بدهشة وإعجاب ." (كيريگان ص 39)
اعتُبرت أسوار بابل وبوابة عشتار فخمة للغاية، لدرجة أن بعض الكُتّاب القدماء زعموا أنه كان ينبغي إدراجها في قائمة عجائب الدنيا السبع . وقد أُدرجت بابل فعلاً في تلك القائمة، إلا أن الانجذاب كان مختلفاً عن الجنائن المعلقة .

جنائن بابل المعلقة
الجنائن المعلقة هي الوحيدة من عجائب الدنيا السبع القديمة التي يُشك في وجودها لعدم وجود أي دليل أثري عليها؛ بل إن الروايات المعروفة عنها تعود إلى ما بعد سقوط بابل. والأهم من ذلك، أن نقش دار الهند الشرقية الشهير - وهو مديح كتبه نبوخذنصّر الثاني بنفسه متفاخراً بتجميله للمدينة (وسميت كذلك لأن أحد ممثلي شركة الهند الشرقية اكتشفه عام 1801م) - لا يذكر الجنائن المعلقة. وقد وُصفت بوضوح في مقطع من الكتاب الثاني" المكتبة التاريخية" لـ ديودوروس الصقلي (عام 90-30 قبل الميلاد) في الصفحة 10:
" … كانت هناك أيضاً، لأن الأكروبوليس ( قلعة أو مجمع مبني بمرتفع عالي) أو الحديقة المعلقة كما تُسمى، والتي لم تُشيدّها سميراميس ، بل بناها ملك سوري لإرضاء إحدى عشيقاته؛ حيث يُقال لإنها فارسية العرق ولها شوق لمروج بلادها ؛ طلبت من الملك أن يُحاكي ذلك المنظر من خلال بناء حديقة مزروعة ذات مناظر طبيعية مميزة تشبه التي في بلاد فارس . وقد امتدت الحديقة لأربعة أفدنة على كل جانب، وبما أن المدخل إلى الحديقة كان منحدراً مثل سفح تل ،لذا فإن أجزاء الهيكل المختلفة ترتفع عن بعضها البعض بطبقة تلو الأخرى، وكان مظهرها النهائي يُشبه بناء المسرح . وعندما بُنيت المصاطب الصاعدة، بُنيت تحتها شُرفات تحمل وزن الحديقة المزروعة بالكامل ، إذ ترتفع شيئاً فشيئاً فوق بعضها البعض على طول المدخل . وكانت أعلى شرفة التي ارتفاعها خمسون ذراعاً، تحمل أعلى سطح الحديقة الذي تم تسويته مع الجدار الدائري لأسوار المدينة. علاوة على ذلك، كانت الجدران التي بُنيت بتكلفة باهظة، سمكها حوالي ستة أذرع ونصف، بينما كان الرواق بين كل جدارين ثلاثة أذرع عرضاً. وكانت سقوف الأروقة مغطاة بعوارض حجرية يبلغ طولها حوالي خمسة أذرع بما في ذلك الدواخل، وعرضها ذراع وربع الذراع . وكان للسقف فوق هذه العوارض طبقة من القصب المغمّسة بكميات هائلة من القار، وتغطيها طبقتين من الطوب المفخور الممزوج بالنورة ، وطبقة ثالثة مغطاة بالرصاص، كي لا تخترقها رطوبة التربة التي تحتها. وفوق كل هذا مرة أخرى، تم تكديس التراب إلى عمق كافٍ لجذور أكبر الأشجار. وكانت الأرض التي تم تسويتها مزروعة بكثافة بأشجار من كل نوع يمكن أن تُسحر الناظر بحجمها الكبير. وبما أن الأروقة التي يبرز كل منها فوق الآخر، تواجه النور من جميع جهاتها، فقد احتوت على العديد من المساكن الملكية من كل صنف؛ وكان هناك رواق واحد يحتوي على فتحات تؤدي إلى السطح العلوي، ونظام آلي ( النواعير) لتزويد الحديقة بالماء، حيث كان هذا النظام الآلي يرفع الماء بوفرة من النهر، مع أن أحداً من الخارج لا يستطع رؤية ذلك. وهذه الحديقة كما ذكرتُ، شُيّدت لاحقاً."

ذكر ديودوروس إلى أن "ملك سوري" متبعاً النمط اليوناني بالإشارة إلى بلاد الرافدين باسم آشور، ولكن ربما يعود ذلك أيضاً إلى وصفه لحدائق في مدينة نينوى الآشورية بدلاً من بابل. كما اشتهر سنحاريب بجعل نينوى جوهرة الإمبراطورية الآشورية، تماماً كما فعل نبوخذنصّر الثاني في بابل . وقد ثبت أن نينوى كانت تضم العديد من الحدائق والمتنزهات الرائعة، وبناءً على ذلك، ومن خلال الفترة الزمنية بين عهد نبوخذنصّر الثاني و فترة ما قيل عن الجنائن المعلقة ؛ يعتقد العلماء الآن أنها كانت تقع في نينوى إن وُجدت أصلاً .
وقد ورد وصف ديودورس للجنائن في كتابه ضمن الفصل المخصص عن سميراميس الملكة الآشورية الشبه أسطورية ، ومن المحتمل أنه ( أي ديودوروس) كان يخلط بين رواية عنها (وهي كثيرة) ورواية لاحقة عن نبوخذنصّر الثاني و أميتيس. إلا أنه لا توجد أدلّة واضحة عن ذلك الخلط . ولا يزال معظم العلماء متمسكين بالرأي السائد القائل في أن ديودورس والمؤرخين الآخرين كانوا ينقلون روايات مختلفة عن موقع تاريخي حقيقي في بابل. ويُقال إن نبوخذنصّر الثاني أنشأ الجنائن لزوجته التي كان لها اشتياق شديد لوطنها ، وهذه التفاصيل قد ضُمنّت في وصف ديودورس للجنائن المعلقة.

رغم عدم وجود أي دليل مادي ملموس على وجود الجنائن المعلقة في بابل، إلا أنه لا يوجد ما يدعو للاعتقاد في أن الملك نبوخذنصّر الثاني لم يكن ليشيدّها هناك ؛ أو لم يكن بمقدوره ذلك. وقد أشار البروفيسور پول كريڤاشيك إلى ذلك كما في المقطع أدناه :
"وثّق نبوخذنصّر استعادة المدينة لمكانتها برفعها إلى أعلى مكانة لها على الإطلاق . كما جعلها الأكبر والأروع . وفي نظر البعض فهي الأكثر بهاءً في العالم ." (ص262)
ورغم أنه لا شك في أن هذا صحيح ؛ وأن كل كاتب قديم تقريباً كان يخاطب بابل بنبرة من الهيبة والاحترام ؛ إلا أن هذا الرأي لم يكن رأي الجميع، ومن المؤسف لسمعة بابل بأن أولئك الذين لم يشاركوا في هذا الرأي؛ أصبحوا المصدر الأكثر رجوعاً عن المدينة؛ وهم الكتّاب العبرانيون من مؤلّفي نصوص الكتاب المقدس العبري .

الملك نبوخذنصّر في الكتاب العبري
كان الملك نبوخذنصّر الثاني هو من خطط لما يُسمى بالسبي البابلي لليهود عقب تدمير مملكة يهوذا؛ لذا وكما هو متوقع؛ لم يكن الكتّاب العبرانيون يكنّون له الوّد والاحترام سواء له أو لمدينته. وكان يهود القرن السادس قبل الميلاد كغيرهم من الشعوب القديمة، يعتقدون أن إلههم يسكن الهيكل المُخصص له. وعندما دمر نبوخذنصّر الثاني الهيكل في أورشليم ، يعني هذا أن بيت إلههم يهوه قد دُمّر حرفياً .

أن اليهودية كغيرها من المعتقدات الدينية ؛ استندت إلى مفهوم "المقابل" (هذا بذاك)، حيث كان الناس يُقيمون صلاتهم لإلههم، لاعتقادهم ان هذا الإله هو من يرعاهم ويحميهم . وعندما دُمر الهيكل ( ثم بقية المملكة) وسُبي كبار كهنتهم وأعيانهم من النُخب إلى أرض أجنبية؛ كان لا بد من أن يجد الدين تفسيراً لذلك. وكان الاستنتاج الذي توصل إليه رجال الدين اليهود؛ أنهم في السابق قد ضُللوا بآلهة ومعتقدات دينية أخرى، ولم يُولوا اهتماماً كافياً لعبادة يهوه لوحده . وفي العهد المعروف بفترة الهيكل الثاني (حوالي عام 515 قبل الميلاد - 70 ميلادي)، نُقحّت اليهودية في ضوء السبي البابلي للتركيز على المعتقدات والممارسات التوحيدية. وفي الوقت نفسه، صِيغت الروايات بشكل يتناسب مع طبيعة الأحداث التي مرّت، والتي أصبحت فيما بعد نصوص مقدسة تواكب التحوّل الجديد .

مدينة بابل والملك نبوخذنصّر الثاني اللَذين وُصِفا بأبشع العبارات والألفاظ في مؤلفات أخرى من العالم القديم ؛ كانا قد لقيا معاملة سيئة في الكتاب العبري . حيث عادة ما تُوصف بابل بأنها مدينة الخطيئة والشر. ويوصف الملك نبوخذنصّر الثاني في سفر دانيال كطاغية عنيد يُدرك قوة إله دانيال، لكنه لن يخضع له حتى يُصاب بالجنون حرفياً، ثم يُعاد إلى رشده. وفي سفر الملوك الثاني يروي الكتّاب العبريون عن نهب مدينة أورشليم . كما يُذكر نبوخذنصّر الثاني في مواضع أخرى أيضاً بصفات سيئة؛ لكن سفر دانيال هو الذي رسخ سمعة نبوخذنصّر كملك شرّير لدى أكبر شريحة من اليهود .
لقد ورد في سفر دانيال ( الإصحاح الأول: 1ـ 6) " فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ مُلْكِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكِ يَهُوذَا، ذَهَبَ نَبُوخَذْنَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَحَاصَرَهَا. وَسَلَّمَ الرَّبُّ بِيَدِهِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكَ يَهُوذَا مَعَ بَعْضِ آنِيَةِ بَيْتِ اللهِ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَرْضِ شِنْعَارَ إِلَى بَيْتِ إِلهِهِ، وَأَدْخَلَ الآنِيَةَ إِلَى خِزَانَةِ بَيْتِ إِلهِهِ. وَأَمَرَ الْمَلِكُ أَشْفَنَزَ رَئِيسَ خِصْيَانِهِ بِأَنْ يُحْضِرَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمِنْ نَسْلِ الْمُلْكِ وَمِنَ الشُّرَفَاءِ، فِتْيَانًا لاَ عَيْبَ فِيهِمْ، حِسَانَ الْمَنْظَرِ، حَاذِقِينَ فِي كُلِّ حِكْمَةٍ وَعَارِفِينَ مَعْرِفَةً وَذَوِي فَهْمٍ بِالْعِلْمِ، وَالَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الْوُقُوفِ فِي قَصْرِ الْمَلِكِ، فَيُعَلِّمُوهُمْ كِتَابَةَ الْكَلْدَانِيِّينَ وَلِسَانَهُمْ. وَعَيَّنَ لَهُمُ الْمَلِكُ وَظِيفَةً كُلَّ يَوْمٍ بِيَوْمِهِ مِنْ أَطَايِبِ الْمَلِكِ وَمِنْ خَمْرِ مَشْرُوبِهِ لِتَرْبِيَتِهِمْ ثَلاَثَ سِنِينَ، وَعِنْدَ نِهَايَتِهَا يَقِفُونَ أَمَامَ الْمَلِكِ. وَكَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ بَنِي يَهُوذَا: دَانِيآلُ وَحَنَنْيَا وَمِيشَائِيلُ وَعَزَرْيَا."
ويشهد نبوخذنصّر على قوة إله دانيال عندما رفض الشبان اليهود الثلاثة، حَنَنْيَا وَمِيشَائِيلُ وَعَزَرْيَا عبادة التمثال الذهبي الذي صنعه الملك ، وأمر الجميع بالسجود أمامه؛ فألقى بهم في أتون، لكنهم نجوا بإيمانهم وخرجوا سالمين (دانيال 3: 12-97). كما منح إله بني إسرائيل دانيال القدرة على تفسير الأحلام، وقد أظهر هذه المهارة للملك بتفسيره الصحيح لرؤياه عن الشجرة (دانيال 4: 1-24).
أمّا الحدث الأكثر دراماتيكية لنبوخذنصّر في هذه الرواية هو نزول صوت من السماء مُعلناً أن الملك نبوخذنصّر سوف يُصاب بالجنون قريباً، وقد حدث ذلك بسرعة (دانيال 4: 25-30). وقِيل إنه طُرد من بين الناس، وأكل العشب كالثور، وتبلل جسده بندى السماء حتى نما شعره كريش النسور، وأظافره كمخالب الطيور (دانيال 4: 33) "فِي تِلْكَ السَّاعَةِ تَمَّ الأَمْرُ عَلَى نَبُوخَذْنَصَّرَ، فَطُرِدَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ، وَأَكَلَ الْعُشْبَ كَالثِّيرَانِ، وَابْتَلَّ جِسْمُهُ بِنَدَى السَّمَاءِ حَتَّى طَالَ شَعْرُهُ مِثْلَ النُّسُورِ، وَأَظْفَارُهُ مِثْلَ الطُّيُورِ.". واستمر جنونه لسبع سنوات، بعد ذلك سمع صوت من السماء، فاستعاد الملك رشده، وسبّح إلى يهوه .

أن الرواية الواردة في سفر دانيال عن نبوخذنصّر هي خيالية بالكامل ، لأنه لا يوجد دليلٌ تاريخي يثبت قصة جنون الملك أو أيِة نزعة لعناد مُحدَّدة. وليس من المُستغرب تماماً في أن يُصوِّره شعبٌ قد شعر بأنه كان ضحيةٌ لهذا الملك بشكلٍ سلبي في رواياته .
لقد صُوَّر نبوخذنصّر الثاني في مصادر أخرى كملك عظيم لم يُعِدْ بابل إلى مجدها السابق فحسب؛ بل حوّلها إلى مدينة علمٍ ونور. ففي عهده أصبحت بابل مدينة رائعة الجمال، ومركزاً للفنون والمعرفة. كما تمتعت النساء بحقوق متساوية في عهد نبوخذنصّر (مع أنهن لم يكنّ متساويات تماماً في المكانة وفقاً للمعايير الحديثة)، وشُيدّت المدارس والمعابد، وتطورت القراءة والكتابة والرياضيات والعلوم والمهارات اليدوية، إلى جانب التسامح والتعايش مع أتباع آلهة الديانات الأخرى ومعتقدات الثقافات الأخرى .

إن خريطة العالم الخزفية التي تُصوّر بابل كمركز العالم ، كانت دقيقة. فقد تخيّل الملك نبوخذنصّر الثاني مدينته ( بابل) على أن العالم بأكمله سوف ينظر إليها بدهشة وإعجاب وعلى مدى الدهر، وهو بذلك فقد حقّق ذلك الحلم .
مات الملك نبوخذنصّر بسلامٍ لأسباب طبيعية في بابل التي شيّدها بعد حكم دام 43 عاماً؛ لكن بابل لم تصمد حتى 25 عاماً أخرى بعد وفاته ؛ حيث سقطت المدينة في أيدي الفرس عام 539 قبل الميلاد، ولم تُفلح جهود الإسكندر المقدوني الذي جاء بعد فترة من الزمن لترميمها والارتقاء بها إلى ما كانت عليه في عهد الملك نبوخذنصّر الثاني ..



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ستيفن بيرتمان ـ دليل الحياة في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2005 .
ديودوروس سيكلوس ـ المكتبة التاريخية ـ طباعة جامعة هارفارد ـ 1967.
مايكل كيريگان ـ القدماء بكلماتهم الخاصة ـ فول ريڤر للنشر والطباعة ـ 2009 .
پول كريڤاشيك ـ بلاد الرافدين وولادة الحضارة ـ سانت مارتن گريفين ـ 2012 .
مارك ڤان دي ميروپ ـ تاريخ الشرق الأدنى القديم ـ وايلي بلاكويل للنشر ـ 2006 .
سوزان وايز باور ـ تاريخ العالم القديم ـ شركة نورتون للنشر ـ 2007 .
أسفار العهد القديم ـ موقع الأنبا تكلا هيمانوت .



#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أرض الأمريكيين الأصليين وحكاية التلّ الغامض
- روايات قدماء السود الهاربين إلى كندا
- الأديرة البوذية في اليابان
- أرض كنعان التاريخية
- الإله نينورتا في الأساطير السومرية
- اتحاد كييڤ روس
- الأدب في ممالك مصر القديمة
- حضارة وادي السند الغامضة
- الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية
- عبادة الإله مثرا
- التحنيط عند المصريين القدماء
- مذكرات جندي أمريكي عن درب الدموع
- من هم الأمورّيون ؟
- هذا ما كتبه هيرودوت عن بابل القديمة
- شخصية هرقل في الأساطير اليونانية والرومانية
- بطل ملحمة گلگامش بين الحقيقة والأسطورة
- نرگال (مسلامتيا) إله الموت والحرب والدمار
- الكريسماس عبر التاريخ
- قصة اكتشاف الأشعة السينية (X)
- طقوس الشاي في الصين واليابان القديمتين


المزيد.....




- قمة قطر الطارئة: ملك الأردن يدعو إلى -رد رادع- بعد هجوم الدو ...
- إسرائيل تتهم قيادات في حماس بالفرار واستخدام المدنيين -دروعً ...
- بن غفير يتعهد ببناء حي سكني لشرطة إسرائيل على شاطئ غزة بعد - ...
- رئيس من أصل تركي للاستخبارات الداخلية الألمانية
- قصف إسرائيلي عنيف ومتواصل يشيع الذعر ويدفع الآلاف للفرار من ...
- تصاعد العنف شمالي موزمبيق.. هجمات واتهامات للجيش
- محللون: قمة الدوحة مدعوة لإجراءات تتجاوز التنديد والإجماع لي ...
- ماذا وراء ملاحقة الاحتلال لرؤساء بلديات الضفة؟
- أردوغان: آمل أن تترجم قراراتنا اليوم إلى إعلان مكتوب موجه إل ...
- صحة غزة تناشد الأردن تزويدها بوحدات دم لإنقاذ المصابين


المزيد.....

- كتّب العقائد فى العصر الأموى / رحيم فرحان صدام
- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عضيد جواد الخميسي - الملك البابلي نبوخذنصّر الثاني